العثور على بقايا بار كوخبا «مسيح اليهود الكذّاب»

أحمد عثمان

TT

عثر خلال الاسبوع الأخير من اكتوبر (تشرين الأول) الماضي، على مخطوطتين من أوراق البردي وعملات معدنية وسهام داخل كهف بموقع جبلي بالقرب من البحر الميت، ترجع الى فترة الثورة اليهودية ضد الرومان قبل منتصف القرن الثاني للميلاد. كشفت الموقع بعثة أثرية اسرائىلية برئاسة حنان إيشل من جامعة بار إيلان وآموس فرومكن من الجامعة العبرية بالقدس، عن طريق تصوير المنطقة من الجو بالاجهزة ذات الاشعة النافذة التي بينت موقع الكهف بمنطقة وعرة يصعب الوصول إليها بالقرب من عين جدي. وقد وجد اسم «شمعون» (سيمون) فوق قطعة نقدية التي يعتقد انها ترجع الى سيمون بار كوخبا الذي قاد التمرد اليهودي، من 132 الى 135 من التاريخ الميلادي. ولكن لم تعرف محتويات المخطوطتين بعد لانهما وجدتا مغلقتين وقد نقلتا الى متحف اسرائيل لترجمتهما ودراسة محتوياتهما.

ورغم وجود المخطوطتين في نفس المنطقة التي عثر بها على مخطوطات البحر الميت ما بين 1947 و 1965 في 11 كهفا بمنطقة قمران (شمال عين جدي)، إلا انهما تختلفان عنها في مضمونهما، فقد تبين ان مخطوطات قمران تخص جماعة يهودية/ مسيحية منشقة عن الكهنة، يعرف اعضاؤها باسم «ايسينيين» (الاسينيين) او «عيسويين»، كانت في انتظار عودة معلمها الذي قتله الكهنة. أما جماعة بار كوخبا فكانت من بين اليهود المتشددين، الذين تمردوا على الاحتلال الروماني بعد حوالي 62 سنة من تدميرهم القدس، عندما حاولوا بناء مدينة رومانية مكانها.

فالروايات اليهودية تقصّ في كتب التلمود التفسيرية والمدراش الاسطورية، حكاية المسيح الكذّاب الذي ثار ضد الرومان قبل اختفاء كيان يهوذا تماما من فلسطين، كما وردت الاشارة الى بار كوخبا في كتاب تاريخ الكنيسة الذي ألفه الاب «عيسوبيوس» الفلسطيني، الذي تحدث عنه باعتباره قاتلا وقاطع طريق خدع اليهود. أما في المصادر الرومانية فقد وردت اشارات عنه في كتابات المؤرخ ديو كاسيوس، التي دونها عند بداية القرن الميلادي الثاني. وقد سبق ان عثر الأثريون الاسرائيليون على عدة بقايا لبار كوخبا قبل خمسين سنة في المنطقة الجبلية الممتدة غرب البحر الميت جنوب خربة قمران.

* دمار القدس

* في بداية التاريخ الميلادي كانت عوائل كهنة اليهود تمثل طائفة «الصدوقيين»، وهم الوحيدون الذين يملكون حق تفسير الكتب الدينية وتنفيذ احكامها، وكان الرومان هم السادة الجدد، ليس فقط لبلدان الشرق الاوسط، بل كذلك لبلدان اسيا الصغرى واوروبا وشمال افريقيا.

وبعد موت اغسطس اكتافيوس اول الأباطرة ـ الذي هزم كليوباترا ومارك انتوني (انطنيوس) وحكم روما 41 سنة ـ خلفه ابن زوجته تيباريوس عام 14 ميلادية. وكلمة «امبراطور» اللاتينية كانت تعني قائد الجيش في البداية ثم اصبحت تطلق على حكام الامبراطوريات التي تتكون من اكثر من بلد واحد. كان حكم تيباريوس ـ بين 14 و 37 م ـ فترة هدوء واستقرار في المنطقة الشرقية للامبراطورية، لكنه الهدوء الذي يسبق العاصفة، فقد خلفه في الحكم «نجايوس» المعروف باسم «كاليغولا» الطاغية، الذي توهم أنه «مقدس» وفرض على الشعوب الخاضعة له ان تعبده، وامر بوضع صورة محفورة له على لوح من الذهب داخل معبد القدس، وكان اليهود يمنعون دخول اي صورة او تمثال الى المدينة المقدسة، ولكن المشكلة انتهت عندما مات كاليغولا مقتولا بيد واحد من حراسه بعد فترة قصيرة وخلفه عمه كلوديوس الاول، عام 41 ثم نيرون عام 54. ونيرون هذا هو الذي عذّب المسيحيين بعدما اتهمهم بحرق روما عام 64، وهو الذي قتل أمه وزوجته ثم مات منتحرا في آخر أيامه.

في عصر نيرون عام 66 بدأ التمرد الاول لليهودي في فلسطين، الذي أدى في النهاية الى دمار مدينة القدس وهيكلها (المعبد) ونهاية مرحلة يهودية الكهنة، وعلى العكس مما يقول به المؤرخون اليهود الآن، فإن سبب هذا التمرد لم يكن في أساسه قوميا يمثل رغبة اليهود في التحرر من الحكم الروماني، فقد بدأ الصراع اولا بين الرعاع من عامة اليهود الفقراء وبين ارستقراطية الصدوقيين الكهنوتية. وهاجم الرعاع هيكل القدس واستولوا عليه مما اضطر الكهنة وعائلاتهم الى الاختباء في المغارات والسراديب خوفا على حياتهم. وكان شخص يدعى مناحم ابن يهودا الجليلي ـ الذي سبق ان حرض اليهود على الامتناع عن دفع الضرائب ـ هو الذي تولى قيادة المتمردين.

وذهب مناحم الى قلعة ماسادا الرومانية غربي الجزء الجنوبي من البحر الميت، وقتل الجنود الرومان الذين كانوا بداخلها وفتح مخازن السلاح الموجودة فيها ووزعه على اتباعه من الثوار. وتحالف الأدوميون العرب ـ الذين كانوا يسكنون المنطقة الجبلية جنوب بيت لحم ـ مع ثوار اليهود. وانتشر التمرد بعد ذلك في مناطق يهودا وفي بعض المناطق الأخرى من فلسطين، حيث كان يسكن اليهود مع الاقوام الأخرى. ولكن جماعة الكهنة بقيادة «العازار» ابن الكاهن الأكبر المقتول انانياس، تمكنوا من عمل كمين لمناحم والامساك به وقتله.

وفي ربيع 67 ارسل الامبراطور نيرون جيشا بقيادة فاسباسيانوس لاخماد حركة التمرد في فلسطين، جاء عن طريق سورية في الشمال كما جاء جيش ثان من الجنوب آتياً من الاسكندرية بقيادة تيطس ـ ابن فاسباسيانوس ـ ووصل مجموع عدد القوات الرومانية 60 ألفا. ولكن القائد الروماني ـ ادراكا منه لطبيعة الصراع الدائر بين طوائف اليهود ـ فضل الا يذهب الى القدس حتى تصفية الصراع بينهم، وقام هو بالقضاء على جيوب التمرد في باقي اجزاء فلسطين. وتوقفت الاعمال الحربية الرومانية في العام التالي بسبب انتحار نيرون، وظلت متوقفة لمدة سنة نشب بعدها الصراع بين القادة الرومان على من يخلف الامبراطور بعد وفاته وجلس ثلاثة منهم في عام واحد، ولكن الامر استقر بعد ذلك في ديسمبر (كانون الاول) 69 عندما وقع الاختيار على فاسباسيانوس ـ بينما كان في فلسطين ـ ليكون الحاكم الروماني الجديد، وذهب فاسباسيانوس اولا الى الاسكندرية، حيث نصّب هناك ثم سافر الى روما تاركا وراءه ابنه تيطس لقيادة الجيش، وكان الرومان قد نصبوا حصارا حول مدينة القدس. وجاء القائد الروماني الجديد بجوزيفوس ـ وهو نفسه اليهودي الذي كتب تاريخ قومه في ما بعد باليونانية في روما ـ وجعله يخاطب اهل القدس بلغتهم عبر اسوارها. فاخبرهم بأن الامبراطور اعطاهم الأمان. لو ألقوا اسلحتهم وفتحوا ابواب المدينة امام الجيش الروماني، واستجاب عدد كبير من سكان المدينة وخرجوا منها وانضموا الى الرومان، لكن الكهنة انضموا الى الثوار ورفضوا الخروج.

وعندما أمر تيطس جنوده بالقاء قذائف الحجارة على المدينة وكسر ابوابها، فوجئ بأن بعض اليهود انفسهم اشعلوا النيران داخل الهيكل الذي دمر تماما بالنار، واقام الرومان اشباه معبوداتهم في مكانه، واخذوا الغنائم وباعوها في اسواق سورية بنصف قيمتها.

ولما خرج الكهنة بعد ذلك الى تيطس وطلبوا منه الأمان، قال لهم ان وقت هذا قد انتهى ولم يعد لهم دور على كل حال، حيث ان الهيكل ما عاد قائما، وامر بإعدامهم.

ثم عمد الرومان بعد ذلك الى حرق باقي مباني القدس، ومن لم يمت من سكانها اصبح اسيرا وعبدا للرومان.

وظلت مدينة القدس بعد تدميرها عام 70 ميلادية لمدة واحد وستين سنة انقاضا لا يسكنها احد، الى ان زارها الامبراطور الروماني هدريانوس عام 130 وقرر اعادة اعمارها وفعلا بنيت القدس الجديدة على النظام الروماني كما اطلق عليها اسما رومانيا «اليا كابيتولينا»، وجرى بناء معبد لـ «جوبيتر» كبير المعبودات الرومانية فوق ارض الهيكل القديم عند الصخرة، وكذلك معبد لفينوس وآخر لجونو، إلا ان هذه المعابد هدمها الرومان بعد ذلك في القرن الرابع، عندما تحول الامبراطور قسطنطين الى المسيحية، فظل موقع هيكل اليهود مهجورا وحلت كنيسة القيامة محل معبد فينوس.