الخيال والواقع في السرد المغربي الحديث

كتاب عن مسار وتطور القصة القصيرة والرواية في المغرب ومشروع التحديث الأدبي

TT

صدر أخيرا عن «مطبعة المعارف الجديدة» بالرباط وبدعم من وزارة الشؤون الثقافية المغربية كتاب تحت عنوان «الكتابة السردية في الأدب المغربي الحديث: التكوين والرؤية» للكاتب والروائي المغربي أحمد المديني، ليكون بذلك سادس دراسة يقوم بها الكاتب بعد: «فن القصة القصيرة في المغرب، في النشأة والتطور والاتجاهات» عن دار العودة ببيروت 1980، و«الأدب المغربي المعاصر» عن دار الرشيد ببغداد 1983، و«أسئلة الابداع في الأدب المغربي المعاصر» عن دار الطليعة ببيروت 1985، و«في أصول الخطاب النقدي الجديد» عن دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد 1987، ثم «قصص من المغرب العربي» بالفرنسية عن دار هاشيت بباريس 1994.

«الكتابة السردية في الأدب المغربي الحديث» دراسة أدبية تقع في 328 صفحة من الحجم المتوسط، يعالج فيها الكاتب أحمد المديني ظاهرة الكتابة السردية في الأدب المغربي الحديث (من 1956 الى 1980) باعتبارها نوعا أدبيا حديثا، يجسد أحد مظاهر التجديد في الأدب المغربي، وذلك من خلال البحث في القصة القصيرة والرواية باعتبارهما مكونين أساسيين في الكتابة السردية بالمغرب بغية رسم المعالم الخصوصية لتكوينهما الفني والكشف عن تراوحهما المنتظم بين الواقع كمجال حيوي والتخييل كأفق ابداعي ولون تجنيسي. تداخل المدارس انها دراسة تجاوز المقاربة التاريخية الوصفية التي رافقت تنامي وتنوع المتن السردي المغربي الغني الذي يحتاج بالأساس الى قراءات منهجية تكشف عن مكوناته وخصوصياته مقارنة مع المتن السردي العربي.

وهو الشيء الذي لجأ إليه الكاتب أحمد المديني الذي انشغل مبكرا بالسرد الأدبي المغربي منذ دراساته الجامعية الأولى لتنتهي بأطروحته الجامعية حول الانتاج الروائي والقصصي المغربي التي نال بها دكتوراه الدولة في الآداب عن جامعة السوربون بباريس عام 1990، التي حصر فيها الاشكاليات الأساسية للانتاج القصصي والروائي المغربي واختبر الإواليات المتحكمة فيه وهو يعتبر أن الرؤية الواقعية هي المهيمنة على الكتابة السردية المغربية مبنى ومعنى منذ المحاولات الأولى في تاريخ هذه الكتابة، «حيث يظهر دون لبس ثقل الواقعية في المتن السردي الى حد يدفعنا للتساؤل أحيانا عن حصة التخييل داخل هذا الإنتاج وكذا عن مشروعية الجنس الأدبي».

والكتاب يعتمد منهجية حديثة معمقة تنهل من نظرية الأدب والتاريخ الأدبي، لاطلاع القارئ العربي بصفة عامة والقارئ المغربي بصفة خاصة على المميزات الأساسية للمتن السردي المغربي بمكونيه القصصي والروائي اللذين يشكلان حصة الأسد في الأدب المغربي الحديث ويسمحان بتحديد بنية ثقافية وجمالية منسجمة على عكس الشعر المتوزع دوما بين التجربة وحس التجريب مازجا الكلاسيكية الرثة بالحداثة الهجينة.

سمات التطور وعلى هذا الأساس جاء مؤلف «الكتابة السردية في الأدب المغربي الحديث»، بعد التقديم الشامل الذي يضم تعريفا بـالمتن المدروس وبالخطاطة المنهجية، موزعـــــا الى ثلاثة أبواب (تجربة الواقعية فـــي الأدب المغربي الحديث، القصة القصيرة: تبلور جنس أدبي وتجليات الرؤية الواقعية والرواية المغربية: الصورة والمصير).

ويشتمل الباب الأول على فصلين: فصل يعرف بالمجهود النقدي المغربي المبذول حول مفهوم الواقعية والعناصر المشخصة له في الأدب المغربي وكيفية نشأة وتطور هذه الاسهامات النقدية والنظرية. وفصل ثان حول السرد الواقعي ومشروع التحديث في الأدب المغربي. فيما ينقسم الباب الثاني من هذه الدراسة والمعنون بـ«القصة القصيرة: تبلور جنس أدبي وتجليات الرؤية الواقعية» الى ثلاثة فصول يرصد الكاتب في الفصل الأول منها المحاولات الأولى للنثر السردي بالمغرب ويصنف ويرتب الأشكال التي اتخذتها القصة القصيرة ذات الطبيعة البدئية المتقلبة في التجربة، ويبحث في التيمة المشتركة بين مجموع هذا المتن السردي التي تعكس الانشغالات الكبرى لمجتمع يتحول ويتفاعل مع قضايا الهوية والسيادة الوطنية. وفي الفصل الثاني يتحدث الكاتب عن مسار القصة القصيرة بالمغرب في العقد الستيني التي ستعرف تطورا ملحوظا في الشكل والمضمون ومن ناحية تسخير العناصر الفنية، بحيث أصبحت القصة القصيرة أفضل الأجناس للتعبير عن الموقف بتواز مع حرص على استحقاق أكبر للشكل الفني.

وانطلاقا من هذه الرؤية يمكن فرز ثلاث رؤيات: رؤية مطبوعة بأسبقية الواقع الخارجي الخام وبخطاب الشهادة والاعتراض، ورؤية ثانية تتخطى هذا المستوى حيث تتجسد الواقعية بطرح شخصيات تسعى الى البحث عن حلول لمشاكل مادية وأحيانا سيكولوجية، ورؤية ثالثة يتحقق فيها التغير النوعي حيث يتم تجاوز السرد المرتكز على مناورات الحكاية والتيمة. وفي الفصل الثالث يحدد الكاتب سمات التطور المميزة للقصة القصيرة خلال العقد السبعيني عبر جملة نصوص كما في الفصول الأخرى، حيث اتجه القاص في هذه المرحلة الى استدعاء الغريب والعجائبي وعمل على ازدهار الطرائق التقنية في السرد، هذا دون أن تغيب الواقعية كقيمة دلالية في العمل الأدبي.

أما في الباب الثالث «الرواية المغربية: الصورة والمصير» وعبر فصوله الثلاثة فيستقصي، الكاتب عناصر نشأة الرواية المتأخرة شيئا ما عن القصة القصيرة، وينظر في مكوناتها الأساسية وعلاقتها بالسيرة الذاتية التي ارتبطت بها في البداية، علائم تكوين هذا الجنس الأدبي الذي ظهرت علائم نضجه في الستينات وتطورت في الثمانينات.

وفي ختام هذه الدراسة التي اقتصرت على الأدب المغربي المكتوب باللغة العربية، أو في ما يعتبره أحمد المديني «الختام المؤقت»، يدرج الكاتب مجموعة من الملاحظات حول السرد المغربي الحديث وحول اشكالية البحث في جنسي القصة القصيرة والرواية اللذين مازالا بحاجة الى قراءة محترفة ومنتظمة تكشف عن عناصر التميز والمغايرة فيهما. يقول: «إن القصص والروايات المجددة، المغايرة عموما، ليست وافرة مقارنة بالكم التقليدي. ورغم أن الثقافة الأدبية والنقدية المعتنقة إما في المحفل الجامعي أو في وسط أدبي بعينه تزعم حمل لواء التجديد، وتسارع الى تبني آخر الاجتهادات والخطاطات في ميدانها، الا أنها تظل قاصرة عن أن تطول قامة الابداع السردي المختلف، وقراءته بأدوات من صميم تكوينه، ومن قلب خطابه لا من خارجه».