باحث فرنسي لأميركا: حذار من إذلال العرب أكثر مما ينبغي

سياسة الولايات المتحدة طوال تاريخها تتأرجح بين تيارين: واقعي ومثالي وهي مزيج معقد من عدة تيارات

TT

من يريد ان يتعرف فعلاً على هدية الولايات المتحدة الأميركية وعلى الاستراتيجية الكبرى التي تخطط لها حاليا بالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط والعالم كله، ينبغي عليه ان يقرأ هذا الكتاب الجديد لجيرار شاليان وارنو بلان، والأول، اي شاليان، هو احد الباحثين الاستراتيجيين المعدودين في فرنسا. وهو مختص اصلاً بدراسة احد فروع علم الاستراتيجية: الا وهو تحليل الصراعات الدولية. وقد شغل في السابق عدة مناصب جامعية مهمة كاستاذ زائر في جامعة هارفارد، او جامعة بريكلي، أو بقية الجامعات الكبرى.

واما الثاني، اي ارنو بلان، فهو مختص بالسياسة الاميركية والشؤون الاستراتيجية. وكان قد اكمل دراساته العليا في الولايات المتحدة ، وبخاصة في جامعتي جورج تاون وهارفارد. ثم اقام في اميركا لفترة طويلة حيث شغل منصب مدير مركز بحوث يدعى: مركز بومارشيه.

ميزة هذا الكتاب هي انه لا يكتفي بالقراءة الصحفية السريعة للاحداث، وانما يتحدث عن تاريخ اميركا منذ ان تأسست ويربط الماضي بالحاضر. وعلى هذا النحو نفهم دوافعها الحالية وتصرفات قادتها بشكل افضل.

منذ البداية يقول لنا جيرار شاليان بأنه لا يمكن ان نفهم الروح السياسية الاميركية اذا لم نأخذ بعين الاعتبار مصطلحاً هاماً هو: القدر الساطع للشعب الاميركي The manifest destiny فهذا الشعب كان يعتقد، ولا يزال، بأنه مكلف بحمل رسالة الى العالم. وهذا الاعتقاد كان في البداية دينياً، ثم اصبح علمانياً بشكل تدريجي وبمرور الزمن دون ان يعني ذلك ان الصياغة الدينية للمشروع قد زالت تماماً. فهي تنبثق بين الحين والآخر كما حصل بعد (11) سبتمبر. ولكن بما ان الحداثة الفلسفية ـ وبالتالي السياسية ـ انتصرت في الغرب كله فإن الشكل العلماني للمشروع هو الذي ساد.

بأي شيء يتمثل هذا القدر الساطع للشعب الاميركي؟ بتوسيع حدود «الحرية» الى اقصى حد ممكن وحمايتها. ولكن السياسة التي تتبعها اميركا لتنفيذ هذا المشروع تنقسم الى تيارين كبيرين: الاول هو التيار المثالي، والثاني هو التيار الواقعي. فاحيانا ينتصر هذا، واحيانا ينتصر ذاك، وفي معظم الاحيان نلاحظ ان السياسة الاميركية هي عبارة عن خليط متفاوت التركيب من الواقعية والمثالية. ففي عهد المبشر الانجيلي جيمي كارتر مثلاً كان التيار المثالي واضحاً، ولكن في عهد خلفه ريغان انتصر التيار الواقعي، ان لم نقل المكيافيلي. وهو تيار يعتمد اساساً على سياسة القوة والبطش او ما يدعى في المصطلح الالماني Macht politick وهو تيار يعتقد ان لا علاقة بين السياسة والاخلاق كما يتوهم المثاليون الساذجون. فالسياسة هي عبارة عن موازين قوى، ليس الا. انها اقصر طريق يسلكه الانسان ـ او الجماعة ـ من اجل تحقيق مآربه. ولا تهم الوسائل المتبعة على الاطلاق، هل هي اخلاقية ام غير اخلاقية الخ.. وقد ازدهر هذا التيار في اوروبا الحديثة على يد شخصيات من نوعية الكاردينال الفرنسي ريشيليو، او مترنيخ وبسمارك في المانيا، او توماس جفرسون، وتيري روزفيلت، وهنري كيسنجر، ورولاند ريغان في اميركا.

في الواقع ان السياسة الاميركية هي عبارة عن مزيج معقد من كل هذه التيارات، الدينية والعلمانية، المثالية والواقعية، الاخلاقية والمكيافيلية. ولكن على المستوى الفلسفي نلاحظ ان التناقض الاساسي يكمن في الجمع بين هوبز من جهة، وجان جاك روسو وايمانويل كانط من جهة اخرى. ومعلوم ان الاول كان يشك بالطبيعة البشرية ويعتبرها شريرة من اساسها. فالانسان ذئب لاخيه الانسان. والبشر هم كالوحوش في الغابة، وبالتالي فالغلبة للأقوى. وهذا يعني ان سياسة القوة هي وحدها المسيطرة على العلاقات بين البشر، او بين الدول والأمم. واما روسو وكانط فكانا مثاليين ومتفائلين بالطبيعة البشرية وبامكانية تربيتها وتهذيبها لكي تصبح ميالة الى الخير ونابذة للشر. وكانا يعتقدان بامكانية التوصل الى السلام الدائم بين البشر عن طريق تحقيق التقدم الفكري والاخلاقي للجنس البشري.

في الواقع ان اميركا كانت مثالية طيبة طيلة القرون السابقة وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية. ويمكن القول بشكل عام انها لم تكن مكيافيلية او شريرة اثناء فترة الآباء المؤسسين: جورج واشنطن، بنيامين فرانكلين، ابراهيم لنكولن، توماس جفرسون، الخ.. في ذلك الوقت كان الحلم بالمثل العليا هو الذي يتغلب على الواقعية والمكيافيلية دون ان ينبغي ذلك وجود الاخيرة وبخاصة لدى جفرسون.

ولكن بعد الحرب العالمية الثانية انتقلت اميركا الى سياسة الواقعية والقوة والتوسع الامبراطوري وتخلت عن النزعة المثالية الى حد كبير دون ان يعني ذلك انها انتهت بالطبع. وقد حصل في اوروبا تطور معاكس. فأوروبا كانت واقعية الى درجة الوقاحة من الناحية السياسية طيلة القرن الاستعماري الكبير التاسع عشر وحتى منتصف العشرين. وبعدئذ اصبحت مسالمة وانتقلت عموماً الى سياسة تحترم القانون الدولي وتتميز بالطابع الاخلاقي الانساني، ولكن العلماني فأوروبا اكثر علمنة من اميركا بكثير. هذه نقطة ينبغي الا ننساها. في اميركا عندما تدخل الى غرفتك في الفندق قد تجد الكتاب المقدس على الطاولة. واما في اوروبا فمن المستحيل ان ترى ذلك.. اميركا «مؤمنة» اكثر بكثير من اوروبا.

ويرى بعض المفكرين ان سبب الخلاف الجاري حالياً بين اميركا واوروبا يعود الى هذا التطور التاريخي المتعاكس في كلتا الجهتين. فاوروبا شبعت من سياسة القوة الاستعمارية من كثرة ما جربتها سابقاً في الوقت الذي كانت فيه اميركا ترفض الاستعمار والتوسع الخارجي لأسباب اخلاقية. والآن حصل العكس. فاميركا تريد ان تتوسع في الخارج، بل وان تضرب كل من يعارضها او يتحداها ويستفزها في حين ان اوروبا اصبحت مسالمة تحتكم للقانون الدولي والامم المتحدة قبل كل شيء. على هذا النحو يمكن ان نفهم الخلاف بين شرودر وشيراك من جهة، وبوش وصقور البنتاغون من جهة اخرى.

في الواقع ان اميركا، وطيلة كل تاريخها، كانت تتأرجح بين ميلين: ميل الانعزالية والتقوقع على الذات، وميل التوسع والانخراط في مشاكل العالم. ولم يكن انخراطها دائما سيئاً كما يدعي اعداؤها حالياً. على العكس لقد لعبت دوراً ايجابياً بل وحاسماً في حل العديد من الازمات والقضايا، كما نفهم من كلام جيرار شاليان. نضرب كمثال على ذلك موقفها من سياسة التطهير العرقي الاجرامية في البوسنة والكوسوفو وقضايا اخرى عديدة ايضا. ولكنها اخطأت بشكل اساسي في فيتنام وفلسطين.

في عهد كلينتون كانت المبادئ التي تقود السياسة الاميركية بسيطة جداً. كانت تتمثل في نشر النموذج الاميركي القائم على الديمقراطية والحرية في شتى انحاء العالم، وكذلك عولمة التبادلات التجارية والمصرفية لكي تنفتح معظم الاسواق امام البضائع الاميركية. وكان فرانسيس فوكوياما ينظر لهذا الاتجاه السياسي ويخلع عليه مشروعية فلسفية عن طريق الارتكاز على هيغل، فمعلوم ان هيغل قال بأن التاريخ انتهى بانتصار نابليون في معركة «يينا» والذي كان يعني انتصار المثل العليا للثورة الفرنسية: اي الحرية، المساواة، الاخاء، لقد انتصرت الحرية على الاستبداد وانهار النظام الاقطاعي اللاهوتي القديم الذي كان يحكم اوروبا منذ مئات السنين.

وبالتالي فما الشيء الجديد الذي يمكن ان يحصل في التاريخ بعد هذا الحدث الاعظم هذا الحدث ـ الزلزال: اي الثورة الفرنسية؟! وفوكوياما قال نفس الشيء بعد سقوط جدار برلين وانهيار الكتلة الشيوعية، قال بما معناه: لقد انتصر النظام الديمقراطي الليبرالي الغربي ولم يعد هناك اي شيء جديد في التاريخ.

او قل ان الشيء الجديد الوحيد المتبقي هو ان يعمم هذا النظام على بقية شعوب الارض. وهذا هو الشعار الذي تبناه كلينتون. فالتاريخ وصل الى غاية الغايات بعد انتصار الفلسفة الغربية القائمة اساسا على فكرة الحرية.

وعندما وصل جورج دبليو بوش الى سدة السلطة كان ميالاً الى النزعة الانعزالية والتفرغ لمشاكل اميركا وعدم التدخل في شؤون العالم الا بالحد الادنى. ولكن (11) سبتمبر لم يسمح له بذلك. فبعد هذا الحدث تغيرت سياسة اميركا واولوياتها. واصبحت اميركا ـ او قيادتها السياسية ـ مقتنعة انه لا امان لاميركا ما دام اعداؤها في الخارج يسرحون ويمرحون. لقد وصلوا اليها في عقر دارها، وينبغي ان تلاحقهم في عقر دارهم ايضا. فاذا لم تضربهم ضربوها. وهكذا عادت فلسفة هوبز الى الساحة من جديد وانتصرت على فلسفة كانط وروسو المسالمة والاخلاقية.

ونفهم من ثنايا الكتاب ما يلي: القيادة الاميركية مقتنعة بأنه مع شخصيات من نوعية بن لادن وصدام وسواهما فإن سياسة الاخلاق والقانون لا تجدي نفعاً. فهم لا يفهمون إلا لغة القوة والضرب ولا يحترمونك الا اذا كنت اقوى منهم واشد فتكاً.

ولهذا السبب انتصر الصقور في واشنطن وسيطروا على مراكز القرار. وصدرت عندئذ وثيقة مهمة تحدد الخطوط العريضة للتوجه الاستراتيجي الجديد. وكان عنوانها: «استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة الاميركية في القرن الواحد والعشرين».

والشيء اللافت للانتباه في هذه الوثيقة. كما يقول جيرار شاليان، هي انها تعطيك الانطباع الغريب بالعودة الى الماضي. انها تجسد كل القيم المتراكمة في اميركا او من قبل اميركا على مدار القرون. والواقع ان الاستراتيجية الاميركية الجديدة هي استراتيجية كفاح وصراع. فالقيادة الاميركية تعتقد بأن المواجهة الكبرى بين قوى الخير وقوى الشر قد اندلعت. واذا كانت اميركا واثقة من نهاية الصراع لصالحها الا انها تعرف انه سيكون صعباً ومريراً وطويلاً. ولكن بما ان قوى الخير تتمتع بتفوق عسكري وتكنولوجي ساحق، فإن قوى الشر ستنهار. بالطبع فإن قوى الشر، او ما تدعوه اميركا كذلك، سوف تعوض عن ضعفها العسكري في المواجهة باللجوء الى اساليب الضعيف: اي الارهاب وزعزعة الحضارة الغربية عن طريق بعض العمليات الرهيبة التي تحصد المئات داخل عواصم الغرب اذا امكن. وكل ذلك عن طريق استخدام اسلحة كيماوية او بيولوجية او حتى ذرية، لِمَ لا؟.

وبالتالي فالمحور الاساسي للاستراتيجية الاميركية، كما يرى شاليان، هو الشعور بالرسالة او المهمة التاريخية. فاميركا تعتقد بأنه تقع على كاهلها مهمة انقاذ الحضارة الغربية. وهي لم تختر ذلك اختياراً وانما واجب فرض عليها ومسؤولية. فلو انها خيرت لربما اختارت العزلة وراء حدودها والعيش بنعيم ورفاهية بعيداً عن المشاكل. ولكن الظروف اجبرتها على ذلك. وينبغي عليها ان تكون على مستوى التحدي. ولكي تنجح في اداء مهمتها الجديدة بعد ان اطاحت بامبراطورية الشر، اي الشيوعية، فإنها بحاجة الى التصرف بكل حرية بمعنى آخر فإنها ستعود الى ما يدعى بالسياسة الواقعية او المكيافيلية التي تقول بأن الغاية تبرر الوسيلة. وبالتالي فكل الضربات اصبحت مباحة ومشروعة بعد (11) سبتمبر. فبما ان العدو لن يتورع عن استخدام اشد انواع الارهاب قتلاً وتدميراً فإن محاربته لن تكون بالمواعظ الاخلاقية.

ولكن هل يحق لاميركا ان تتدخل في العالم كما تشاء وتشتهي، ام انه ينبغي عليها ان تتقيد بالقانون الدولي؟ بمعنى آخر: الا توجد حدود لسياسة العصا الغليظة والحرب الوقائية؟ واذا كانت تريد محاربة الخارجين عن القانون في هذا العالم فلماذا تهمل بعضهم وتركز على البعض الآخر. لماذا تهمل مثلاً ارييل شارون وسياسته الاجرامية في الاراضي الفلسطينية المحتلة؟ وكم هو عدد القرارات الصادرة عن مجلس الأمن والتي داست عليها اسرائيل بقدميها؟

اسئلة عديدة لا يمكن لقياصرة البنتاغون ان يتجاهلوها طويلاً. واذا ما تجاهلوها واستمروا في دعم حكومة اليمين المتطرف في اسرائيل فإن حرب الحضارات سوف تندلع وسوف تتحقق نبوءة صموئيل هانتنغتون ليس بسبب التطرف الاصولي وبن لادن فقط، وانما بسبب السياسة غير العادلة التي تتبعها اكبر قوة عظمى في العالم.

واخيراً يختتم الكتاب بالقول بما معناه: حذار من اذلال العرب اكثر مما ينبغي! فغضب المقهورين قد يكون كبيراً، والانتقام قد يجيء عاجلاً او آجلاً، وليس من مصلحة الغرب ان يؤلب ضده ثلاثمائة مليون عربي ومليار مسلم.

* عنوان الكتاب: اميركا قادمة! القياصرة الجدد للبنتاغون.

America is back. les nouveaux cesars du pentagone.

* اسم المؤلف: جيرار شاليان. آرنو بلان.

Gerard Chaliand, arnaud Blin

* دار النشر: باريس. بايار. 2003.

Bayard. paris. 2003