رسالة لابن تيمية عن قتال الكفار أثارت ضجة في السعودية قبل نصف قرن وتم منعها ومصادرتها والتشكيك في نسبتها لشيخ الإسلام

الباحث السعودي راشد بن عساكر يكشف عن صحة الرسالة التي خلص فيها ابن تيمية إلى أن الإسلام دفاعي وليس هجوميا * منع الكتاب لأنه خالف فكراً سائداً ونظرة عامة لدى البعض بخصوص أن قتال الكفار وجهادهم لا لأجل الكفر ذاته وإنما للدفاع عن الدين * على المشككين في ال

TT

شدد باحث ومؤرخ سعودي على صحة رسالة منسوبة لشيخ الاسلام ابن تيمية بعنوان «قاعدة في قتال الكفار هل هو لأجل كفرهم او دفاع عن الاسلام»، تم تجاهلها في فتاوى ورسائل الشيخ وأحدثت ضجة داخل الاوساط العلمية الدينية في السعودية خلال الاربعينات الميلادية. وتم منع الرسالة ومصادرتها بل ان الرسالة عند وصولها الى البلاد نظر اليها بعدم القبول واتهام طابعها وناشرها بأنها مزورة وملفقة عن شيخ الاسلام.

وشدد الباحث عن ان هذه الرسالة تم منعها لانها خالفت فكرا سائدا ونظرة عامة لدى طلبة العلم آنذاك.

واوضح الباحث راشد بن محمد بن عساكر ان الشيخ ابن تيمية خلص في رسالته المهمة والواضحة الى ان قتال الكفار وجهادهم لا لأجل الكفر ذاته وانما هو الدفاع عن الدين، اي ان الاسلام في اصله دفاعي وليس هجوميا. وتساءل الباحث لماذا اخفي هذا الكتاب ولماذا الضجة حوله في الاوساط الدينية في الرياض قبل اكثر من نصف قرن.

وجاءت تأكيدات الباحث ابن عساكر رغم ان علماء ومحققين رفضوا نسبة رسالة القتال الى ابن تيمية واشاروا فيها الى ان اعرف الناس بكتب ابن تيمية وهو تلميذه المحقق ابن القيم لم يذكرها ضمن مؤلفات شيخ الاسلام، كما رفض هذه الرسالة الشيخ عبد الرحمن بن قاسم جامع فتاوى ابن تيمية ولم يدخلها ضمن الفتاوى، اذ قال: «ولم اضع في هذا المجموع الا ما اعرفه لشيخ الاسلام وقد اعرضت عن نزر قليل نسب اليه كمنظومة في عقائد ونقل محرف لترك البداءة بقتال الكفار». وقد رد عليه الشيخ سلمان بن سمحان واوضح تحريفاته في عدة كراريس، كما رد على هذه الرسالة المنسوبة الى ابن تيمية العالم المحقق الشيخ الراحل سليمان بن عبد الرحمن بن حمدان المدرس في المسجد الحرام، وذلك في كتابه «دلالة النصوص والاجماع على فرض القتال للكفار والدفاع» والمطبوع في دار الطباعة والنشر في عمان.

واورد الباحث راشد بن عساكر معلومات عن الرسالة ودلائله وبراهينه بخصوص نسبة هذه الرسالة لابن تيمية ورده على الذين يرفضون نسبتها الى شيخ الاسلام.

بداية اوضح الباحث ابن عساكر لـ «الشرق الأوسط» بقوله: «لقد اجمع المنصفون من علماء ودعاة ومؤرخين ان ابي العباس احمد بن عبد الحليم بن تيمية (661 ـ 728هـ) شخصية فريدة جمعت بين ارتقاء الفكر وعلو الكعب وعمق الاستيعاب وحدة الذكاء وقوة الاستدلال والاستنباط العجيب من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم تفرد لشخصية من الدراسات والبحوث والمؤلفات كما افرد لهذه الشخصية بما لا يعهد مثله وقل نظيره في التاريخ لأحد علماء المسلمين، وما زالت مصنفات هذا العالم حتى اليوم موئلا وموطنا للباحثين ومرتعا خصبا وهائلا لطلاب العلوم المختلفة في شتى المجالات، وبكل صدق وتجرد وانصاف. كذلك عده المؤرخون والمصنفون اعجوبة وآية من ايات الله.

يقول ابن الزملكاني رحمه الله:

ماذا يقول الواصفون له وصفاته جلت عن الحصر هو حجة الله قاهرة هو بيننا أعجوبة النصر هو آية في الخلق ظاهرة أنوارها اربت على الفجر بلغت مصنفاته اكثر من خمسمائة مجلد وقيل بل اكثر حتى ان الصفدي يقول عن كثرة مؤلفاته: «ان في الموج للغريق لعذرا، واضحا ان يفوته تعداده وممن استفاد من هذا العالم الجليل والجبل الشامخ علماء الجزيرة العربية، ولا سيما في منطقة نجد الذين تلقوا مصنفات هذا العالم بالقبول والاهتمام والاعتناء بما لا يعهد لعالم قبله ولا بعده حتى وقتنا الحاضر والى ان يرث الله الارض ومن عليها، وقد بالغ علماء نجد في محبة هذا الشيخ واطرائه وحق لهم ان يفعلوا ذلك، بل سعوا بالبحث والتنقيب عن تراث هذا العالم، بل وظفروا بكثير من خطوطه وتعليقاته. واستمر الاهتمام بذلك حتى قيض الله حكام السعودية الذين سعوا في نشر تراث هذا العالم فأمر الملك سعود بن عبد العزيز الشيخ الجليل عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، ثم ابنه محمد بجمع فتاوى الشيخ والبحث عنها والسفر للحصول عليها، ثم طبعها، طبعت هذه الرسائل والفتاوى في 37 مجلدا سميت «مجموع فتاوى شيخ الاسلام احمد بن تيمية».

ورغم الاعجاب الفريد لمثل هذه الشخصية فقد حدث ما لم يكن في الحسبان بعدم طبع هذه الرسالة، بل ربما تجاهلها، والرسالة التي نحن بصدد الاشارة اليها بعنوان «قاعدة في قتال الكفار هل هو لأجل كفرهم او دفاعا عن الاسلام». وعندما طبعت هذه الرسالة وجلبت الى داخل السعودية نظر اليها بعدم القبول واتهام طابعها وناشرها بتزويدها وتلفيقها على شيخ الاسلام، وحدثت ضجة داخل الاوساط العلمية في الستينات الهجرية (الاربعينات الميلادية)، حيث انها خالفت فكرا سائدا ونظرة عامة لدى بعض طلبة العلم فمنعت الرسالة وصودرت لمحاولة القضاء عليها.

ولفتت نظري هذه الرسالة عند اطلاعي عليها مطبوعة ضمن مجموعة في مكتبة الازهر بالقاهرة كانت قد طبعت في عام 1368هـ ـ1949م فكان هذا مما ارجعني الى قصة منعها فسعيت لتصويرها مع غيرها، وهي محفوظة برقم 1450 مجاميع 59614 عنوانها «قاعدة في قتال الكفار هل هو لأجل كفرهم او دفاعا عن الاسلام» لشيخ الاسلام تقي الدين ابي العباس احمد بن عبد الحليم ابن تيمية الدمشقي.

قابل هذه النسخة محمد عبد الرازق آل حمزة في 26 ربيع الثاني عام 1364 هـ على نسخة اخرى بخط مصطفى الفاروقي. وتقع هذه الرسالة من ص 116 إلى 146 ضمن المجموع الذي طبعه الشيخ محمد نصيف في مطبعة السنة المحمدية بالقاهرة عام 1368هـ ـ 1949م وحققها محمد حامد الفقي المعروف بنشر كتب السلف رحمه الله. وبعد فترة اطلعت على رسالة مخطوطة في جامعة الامام محمد بن سعود الاسلامية بالرياض بعنوان «ادلة النصوص والاجماع على فرض القتال للكفر والدفاع» للشيخ سليمان بن حمدان (ت 1397هـ) وهي رد على هذه الرسالة وهي محفوظة برقم 2301 نسخت في 10ذي الحجة عام 1382هـ وتقع في خمس وثمانين ورقة وبين فيها ابن حمدان ان هذه الرسالة ليست منسوبة لشيخ الاسلام وعلم الهداة الاعلام تقي الدين ابي العباس احمد بن تيمية رحمه الله ورضي الله عنه. ومضمونها ان قتال الكفار سببه المقاتلة لا مجرد الكفر وانهم اذا لم يقاتلونا لم يجز لنا قتالهم وجهادهم على الكفر، وان هذا القول هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار واستدل لما زعمه ببعض آيات شبهه بها ولبس اولها على غير معناها المراد بها مثل قوله تعالى: «وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم» الآية، وقوله تعالى: «فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه»، وقوله «لا اكراه في الدين» وحديثين وفيهما لفظا ومعنى. وضرب صفحا عن الآيات المحكمة الصريحة التي لا تحتمل التأويل والاحاديث الصحيحة التي تكاد تبلغ حد التواتر في الامر بقتال الكفار والمشركين حتى يتوبوا من كفرهم ويقلعوا عن شركهم وهذه طريقة أهل الزيغ والضلال يدعون المحكم ويتبعون المتشابه كما اخبر عنهم في قوله تعالى: «هو الذي انزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وآخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله»، ولما رآها بعض من ينتسب الى العلم وليس من اهل الدراية والفهم صادفت هوى في نفسه فطار بها فرحا ظانا انها الضالة المنشودة وراجت لديه بمجرد نسبتها لشيخ الاسلام. فسعى في طبعها ونشرها على كذبها وفشرها وما علم المسكين انه قد استسمن ذا ورم ونفخ في غير حزم وأنها محض افتراء وتزوير على الشيخ، وقد نزه الله شيخ الاسلام عن هذا الخلط الواضح والجهل الفاضح والخوض في شرع الله بغير علم ولا دراية ولا فهم، بل ان الشيخ ابن حمدان رحمه الله تجاوز بالاتهام بأبعد من ذلك فقال: «ليعلم ان هذه الرسالة مزورة عليه ولا تصح نسبتها اليه بوجه من الوجوه وان من نسبها اليه فقد شارك المفتري في عمله وما يترتب عليه من اثم».

(الورقة الاولى والثانية خط الشيخ ابن حمدان) ثم ان هذه الرسالة قد طبعت كما اشار لها الشيخ بكر ابو زيد في ترجمته للشيخ سليمان بن حمدان في تحقيقه لكتاب الاخير المسمى «هداية الاريب الامجد في معرفة اصحاب الرواية عن احمد».

ثم وقفت على نسخة اخرى مخطوطة لهذه الرسالة بعنوان «هذه رسالة ملخصة منقولة من قاعدة لشيخ الاسلام تقي الدين احمد بن عبد الحليم بن تيمية في قتال الكفار هل سببه المقاتلة او مجرد الكفر»، ثم اسفل هذا العنوان مباشرة احالة على احدى فتاوى ابن تيمية تؤكد ان هذه الرسالة قد تعرض لها في بعض فتاواه السابقة فقد جاء (قال شيخ الاسلام تقي الدين احمد بن تيمية في الفتاوى المصرية في كتاب الجهاد/ج4 ص293 س6) ومنها ان المرتد يقتل وان كان عاجزا عن القتال بخلاف الاصلي الذي ليس هو من اهل القتال فانه لا يقتل عند اكثر العلماء كأبي حنيفة ومالك واحمد.

جاء في اول الورقة بعد البسملة «فصل في قتال الكفار هل سببه المقاتلة او مجرد الكفر وفي ذلك قولان مشهوران للعلماء»، ثم جاء في نهاية هذه النسخة بقلم الفقير الى عفو ربه ومغفرته محمد السليمان العبد العزيز البسام غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين.. آمين في 8 صفر عام 1363 هـ بلغ مقابلة وتصحيحا حسب الامكان ونرجو من الله المثوبة وتم نقلها في يوم الجمعة 29 صفر عام 1365 هـ وهذه الرسالة نقلها الشيخ سليمان الصنيع (ت1389هـ) وكان آية في معرفة اسماء الكتب والمؤلفات والمخطوطات، وقد خلف مكتبة نفيسة آلت الى جامعة الملك سعود. وهذه المخطوطة من ضمن ما انتقل الى هذه الجامعة وهي برقم 1684، كما ان الشيخ محمد السليمان البسام درس على علامة القصيم الشيخ عبد الرحمن السعدي وآلت اليه كتب والده الشيخ سليمان البسام (ت1377هـ) الذي نسخ كثيرا من الكتب العلمية النادرة ومنها «مختصر الفتاوى المصرية لابن تيمية» كما ذكر الشيخ عبد الله البسام في كتابه علماء نجد خلال ثمانية قرون 2 (301، 328، 326).

والصحيح الذي لا جدال فيه ان هذه الرسالة هي لشيخ الاسلام ابن تيمية والادلة على ذلك كثيرة منها:

1 ـ اشارة ابن تيمية نفسه في الكتاب المطبوع ص 130 بقوله: «وقد كان بيننا في غير هذا الموضع ان دين المرء يعتبر بنفسه لا بأجداده»، قلت قد اوضح ذلك ابن تيمية في مجموع الفتاوى التي جمعها الشيخ ابن قاسم من المجلد 35 في قتال اهل البغي ص 223.

2 ـ قال ابن تيمية في الحديث عن المرتد قال في المطبوع ص 144 «وهذا التقسيم موجود في مذهب مالك واحمد وغيرهما وقد بسط عما يناسب هذا في الصارم المسلول على شاتم الرسول».

3 ـ قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى المجلد الثامن ـ كتاب الجهاد ـ ص 354 واذا كان اصل القتال المشروع هو الجهاد ومقصوده هو ان يكون الدين كله لله، وان تكون كلمة الله هي العليا فمن امتنع من هذا قوبل باتفاق المسلمين. واما من لم يكن من اهل الممانعة والمقاتلة كالنساء والصبيان والراهب والشيخ الكبير والاعمى الزّمْني ونحوهم فلا يقتل عند جمهور العلماء الا ان يقاتل بقوله او فعله وان كان بعضهم يرى اباحة قتل الجميع لمجرد الكفر، الا النساء والصبيان لكونهم مالا للمسلمين، والاول هو الصواب لان القتال هو لمن يقاتلنا اذا اردنا اظهار دين الله كما قال تعالى: «وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا ان الله لا يحب المعتدين». وفي السنة عنه صلى الله عليه وسلم انه مر على امرأة مقتولة في بعض مغازيه قد وقف عليها الناس فقال: «ما كانت هذه لتقاتل. وقال لأحدهم الحق خالدا فقل له لا تقتلوا ذرية ولا عسيفا». وفيها ايضا عنه صلى الله عليه وسلم انه كان يقول: «لا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا صغيرا ولا امرأة» وانظر كذلك ص 355، 356، 414 وغيرها.

4 ـ قال شيخ الاسلام في المجلد الثامن ص 534 «وقد استقرت السنة بان عقوبة المرتد اعظم من عقوبة الكافر الاصلي من وجوه متعددة منها ان المرتد يقتل بكل حال ولا تضرب عليه جزية ولا تعقد له ذمة بخلاف الكافر الاصلي، ومنها ان المرتد يقتل وان كان عاجزا عن القتال بخلاف الكافر الاصلي الذي ليس هو من اهل القتال فانه لا يقتل عند اكثر العلماء كابي حنيفة ومالك واحمد» أهـ.

5 ـ ان هذا الكتاب او هذه الرسالة هي تحمل نفسا واحدا ومعروفا له رحمه الله تعالى.

6 ـ هناك نقولات اخرى يشير اليها رحمه الله في كتابه هذا وبمتابعة بعض فتاواه تكون من سلة واحدة له.

7 ـ ان من قرأ هذه الرسالة قراءة متأنية لقصد الوصول الى الحقيقة المطابقة للنصوص الشرعية التي تأمر بالقتال فان شيخ الاسلام ابن تيمية اشار الى ان القتال هو للدفاع ولكبح المتطرف الكفري، بحيث يحس الكافر بقوة المسلم وصلابته في دينه وانه قادر على رد الاعتداء، بحيث اذا رغب الكافر بالطمأنينة وتخلى عن عدوانه فان الآية تدل على جواز ذلك وعدم البدء بالقتال لان الله تعالى يقول: «وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا» فالمفهوم وكما دلت عليه النصوص ان الكافر اذا لزم الحياد وآثر السلم ولم يعتد فانه يخلى بينه وبين نفسه.

وفي المقابل نجد قوله تعالى: «وقاتلوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيدكم الى التهلكة» فان هذا تنظيم إلهي لعملية القتال وان على المقاتلين ان يتعرفوا على واقعهم لئلا يؤدي ذلك الى انزال الهزيمة بالمسلمين وتكون الغلبة للعدو فانه حينئذ عليهم ان يدبروا امرهم ولا يبدأون بالقتال، وان من تتبع الآيات التي وردت في القتال وفهمها على الوجه الصحيح وعلم ان هذه الآيات لا يضرب بعضها بعضا فانه يتبين انه لا يجوز ابتداء الكفار بالقتال.

وان مضمون هذه الرسالة وما توصل اليه شيخ الاسلام فيها هو مطابق لكلامه في كثير من المواضع التي تكلم فيها عن القتال ودوافعه واسبابه نجد ذلك واضحا لا يحتاج الى تبيان، حيث ان منهجه او (نفسه) موافق لفتاواه الاخرى وتقريراته المتعددة وان هذه الرسالة تتوافق مع ظاهر القرآن وسيرته صلى الله عليه وسلم.

ابرز النقاط التي بين فيها شيخ الاسلام هذه المسألة:

اولا: بين ان الاصل في هذه المسألة لها قولان مشهوران، الاول: قول الجمهور كمالك واحمد بن حنبل وأبي حنيفة وغيرهم، الثاني: قول الشافعي وربما علل به بعض اصحاب احمد، ثم ساق آراء الفريق الثاني ومناقشة الادلة وتفسير قوله تعالى: «وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا ان الله لا يحب المعتدين واقتلوهم حيث ثقفتموهم واخرجوهم من حيث اخرجوكم والفتنة اشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فان قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين» البقرة 190.

وخلص شيخ الاسلام في تفسيرها الى ما ذكره الجمهور ان قوله تعالى: «ولا تعتدوا» وان العدوان مجاوزة الحد فدل على ان قتال من لم يقاتلنا هو عدوان. ويدل عليه قوله بعد هذا «فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم» فدل على انه لا تجوز الزيادة، وان قوله بعد ذلك «واقتلوهم حيث ثقفتموهم» ولم يقل: قاتلوهم، ثم قال «وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله» والفتنة: ان يفتن المسلم عن دينه كما كان المشركون يفتنون من اسلم عن دينه ولهذا قال تعالى: «والفتنة اشد من القتل» وهذا انما يكون اذا اعتدوا على المسلمين.

ثم بين قول الرسول صلى الله عليه وسلم «امرت ان اقاتل الناس حتى يشهدوا ان لا اله الا الله واني رسول الله فاذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم واموالهم الا بحقها وحسابهم على الله» هو ذكر للغاية التي يباح قتالهم اليها، بحيث اذا فعلوها حرم قتالهم.

والمعنى: اني لم اؤمر بالقتال الا الى هذه الغاية ليس المراد اني امرت ان اقاتل كل أحد الى هذه الغاية فإن هذا خلاف النص والاجماع فإنه لم يفعل هذا قط، بل كانت سيرته ان من سالمه لم يقاتل. ثم بين شيخ الاسلام بعض تفصيلات هذه الآية وقيل انها نسخت. ومناقشة ذلك ورد على من قال «ولا تعتدوا» بأنها منسوخة فهذا القول ضعيف فان الاعتداء هو الظلم والله لا يبيح الظلم قط الا ان يراد بالنسخ بيان الاعتداء المحرم.

ثم ساق شيخ الاسلام ما ذكر في الاعتداء وانه على اربعة اقوال كما ذكر ابو الفرج.

اولها: انه قتل النساء والولدان. قاله ابن عباس ومجاهد.

والثاني: ان معناه: لا تقاتلوا من لم يقاتلكم، قاله سعيد بن جبير وابو العالية وابن زيد.

والثالث: انه اتيان ما نهوا عنه. قاله الحسن.

والرابع: انه ابتداؤهم بالقتال في الشهر الحرام.

ثم بين الدليل للوجهة الصحيحة والرد على المخالفة في هذا الامر، حيث انه قد جاء في الصحيح ان النبي صلى الله عليه وسلم مر في بعض مغازيه على امرأة مقتولة فقال: «ما كانت هذه لتقاتل» فعلم ان العلة في تحريم قتلها انها لم تكن تقاتل لا كونها مالا للمسلمين، ثم قوله صلى الله عليه وسلم «انطلقوا باسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله ولا تقاتلوا شيخا فانيا ولا طفلا ولا صغيرا ولا امرأة ولا تضلوا وضموا غنائمكم واصلحوا واحسنوا ان الله يحب المحسنين».

وايضا قوله تعالى: «لا اكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي» وهذا نص عام. إنا لا نكره احدا على الدين: فلو كان الكافر يقتل حتى يسلم لكان هذا اعظم الاكراه على الدين.

ثم بين ما نقله اهل السلف في تفسير قوله تعالى «كتب عليكم القتال» وان سبب نزولها اربعة اقوال، ثم تعرض لها رحمه الله بالايضاح، ثم اشار ابن تيمية الى قول الرسول صلى الله عليه وسلم «امرت ان اقاتل الناس حتى يشهدوا ان لا اله الا الله وان محمدا رسول الله فاذا قالوها عصموا مني دماءهم واموالهم الا بحقها وحسابهم على الله»، وانكر على اسامة بن زيد لما قتل رجلا قد اسلم وقال «انما قالها خوفا من السيف» ولكن فرق بين ان يكون هو او احد اكرههم حتى يسلموا وبين ان يكون قاتلهم ليدفع ظلمهم وعدوانهم عن الدين فلما اسلموا صاروا من اهل الدين فلم يجز قتلهم وكان من يعلم منه انه لا يظلم الدين واهله لا يقاتله لا كتابي ولا غير كتابي.

ثم ينقل شيخ الاسلام ان الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقاتل النصارى حتى ارسل رسله بعد صلح الحديبية الا ان النصارى عمدوا الى قتل بعض من اسلم من كبرائهم بمعان «فالنصارى هم حاربوا المسلمين اولا وقتلوا من اسلم منهم بغيا وظلما»، ثم ارسل الرسول صلى الله عليه وسلم سرية لقتال النصارى بمؤتة وتأمير زيد بن حارثة عليها الى ان اخذ الراية خالد بن الوليد. وقبل ذلك اوضح ابن تيمية نقولات العلماء في تتبع سيرته مع الكفار فقال: «وكانت سيرته ان كل من هادنه من الكفار لا يقاتله وهذه كتب السيرة والحديث والتفسير والفقه والمغازي تنطق بهذا وهذا متواتر من سيرته فهو لم يبدأ احدا بالقتال ولو كان الله امره ان يقتل كل كافر لكان يبتدئهم بالقتل والقتال» ص 116 ـ ص126.

كما بين شيخ الاسلام آيات البراءة وتفاصيلها والمراد بالاشهر الحرم وأخذ الجزية من الكفار والمجوس وآراءه في هذه الفئة الثانية والتفريق بينهم وبين اهل الكتاب في مفهوم الجزية ومذهب الجمهور فقال شيخ الاسلام ما نصه «وقد تتبعت ما امكنني في هذه المسألة فما وجدت لا في كتاب ولا سنة ولا عن الخلفاء الراشدين الفرق في اخذ الجزية بين اهل الكتاب وغيرهم، والنبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول آية الجزية كان يقر المشركين واهل الكتاب بلا جزية كما اقر اليهود بلا جزية واستمروا على ذلك الى ان اجلاهم عمر وكان ذلك لحاجة المسلمين اليهم ولما نزلت آية الجزية كان فيها ان المحاربين لا يعقد لهم عهد الا بالصغار والجزية» ص131.

ثم اشار شيخ الاسلام الى انه تجوز مهادنة الكفار بغير جزية وصغار كما كان الامر عليه.

اولا: في حالة ضعف الاسلام كان يهادن الكفار من المشركين واهل الكتاب بغير جزية وصغار ص136.

ثانيا: بما تقدم من الادلة يصل شيخ الاسلام الى ان الاصل في هذه المسألة ويقرر «فهذا الاصل الذي ذكرنا وهو ان القتال لأجل الحرب لا لأجل الكفر هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة وهو مقتضى الاعتبار وذلك انه لو كان الكفر هو الموجب للقتل، بل هو المبيح له لم يحرم قتل النساء كما لو وجب او ابيح قتل المرأة بزنا او قود او ردة».

فلا يجوز مع قيام الموجب للقتل او المبيح له ان يحرم ذلك لما فيه من تفويت المال، بل تفويت النفس الجرم اعظم وهي تقتل لهذه الامور، ثم اخذ يناقش شيخ الاسلام هذه المسألة ويرد بعض الشبهات المخالفة ص138 ـ ص139.

ثالثا: ان الله تعالى قال في قتال الكفار: «فاذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى اذا اثخنتموهم فشدوا الوثاق فاما مناً بعد واما فداء» سورة محمد، آية 4.

ولو كان الكفر موجبا للقتل لم يجز المن على الكافر ولا المناداة به كما لا يجوز ذلك ممن وجب قتله كالزاني المحصن والمرتد، وقد مَن النبي صلى عليه وسلم على غير واحد من الكفار وفادى بكثير منهم، ففادى بالأسرى يوم بدر.

ولو كان الكفر موجبا لوجب قتل كل اسير كافر وقد مَن على ابي غزة الجمحي وعلى ثمامة بن اشار الحنفي وغيرهما ص140.

رابعا: لو كان مجرد الكفر مبيحا لما انزل النبي صلى الله عليه وسلم قريظة على حكم سعد بن معاذ.

ولو حكم فيهم بغير القتل لنفذ حكمه، بل كان يأمر بقتلهم ابتداء وانما قال له لما حكم فيهم بالقتل «لقد حكمت فيهم بحكم الله» لان قتل تلك الطائفة المعينة من الكفار كان في نفس الامر مما امر الله به ورسوله وكان ارضى الله ورسوله فإنهم لو اطلقوا لعاد على الاسلام من شرهم ما لا يطفأ. وهذا يدل على ان بعض الكفار يتعين قتله دون بعض وهذا حجة لكون مجرد الكفر ليس هو الموجب للقتل وانما الموجب كفر معه اضرار بالدين واهله فيقتل لدفع ضرره واهله لعدم العاصم لا لوجود الموجب فان الكفر وان يكون موجبا فصاحبه ليس بمعصوم الدم ولا المال، بل هو مباح الدم والمال فلم تثبت في حقه العصمة المؤثمة، فلو قتله قاتل ولا عهد له لم يضمنه بشيء حتى نساؤهم وصبيانهم لو قتلهم قاتل لم يضمنهم وما نعلم في هذا نزاعا بين المسلمين مع انه لا يحل قتلهم مثل كثير من الحيوان لا يحل قتله لو قتله قاتل لم يضمنه بشيء وهو مباح الدم والمال كما نقول في ما خلق من النبات والصيد هو مباح ثم مع هذا لا يجوز اتلافه بلا فائدة، فلا يجوز قتل الصيد لغير مأكله ولا اتلاف المباحات لغير منفعة فان هذا افساد والله لا يحب الفساد، كذلك الكافر الذي لا يضر المسلمين هو غير معصوم، بل مباح وهو من حطب جهنم، لكن قتله من غير سبب يوجب قتله فساد لا يحبه الله ورسوله. ص141.

خامسا: لو كان مجرد الكفر موجبا للقتل لم يجز اقرار كافر بالجزية والصغار فان هذا لم يبذل الكفر ولهذا لما كانت الردة موجبة للقتل لم يجز اقرار مرتد بجزية وصغار.

ثم بين شيخ الاسلام في ردة احد الملحدين بقوله: «ونحن قد بينا ان القتال لم يكن على مجرد كفرية فغاية الجزية والصغار ان تكون عاصمة لدمه من السيف والسيف لم يعجزه على كفر ولا دفع به عن عقوبة الآخرة، بل اريد دفع شره وعدوانه وصده لغيره عن الدين».

ثم ناقش شيخ الاسلام بعض الآراء التي قيلت في الجزية ومعناها واصلها وهل هي اجرة ام عقوبة او عصمة ص145 ـ 146.

اخيرا: «واذا كان الصيد في جوف الفراء كما يقال فإن شيخ الاسلام ـ رحمه الله تعالى ـ خلص بما تقدم في هذه الرسالة المهمة ووضحه فيها ان قتال الكفار وجهادهم لا لأجل الكفر ذاته وانما هو الدفاع عن الدين. اي ان الاسلام في اصله: «دفاعي وليس هجوميا».

ويشدد الباحث على ان من شكك في هذه الرسالة وعدم نسبتها الى شيخ الاسلام ابن تيمية فعليه الرجوع تأكيدا لذلك الى مجموع الفتاوى وارقامها التي ذكرت في سياق هذا البحث وعند ذلك يتبين له ان هذه الرسالة صحيحة.

اما بخصوص ما ذكره ابن القيم في تعداده وذكره لمؤلفات ابن تيمية فان الاحاطة ممتعة في كل ما ألفه شيخ الاسلام، حيث يذكر المتقدمون والمتأخرون بخصوص مؤلفات شيخ الاسلام انها عجزت عن الحصر ولعل من اكثر من استوفى مؤلفات شيخ الاسلام ابن تيمية هو الدكتور علي الشبل المدرس في قسم العقيدة بجامعة الامام محمد بن سعود الاسلامية، حيث اورد هذه الرسالة ضمن مؤلفات ابن تيمية في كتاب سماه «الاثبات» وطبع العام الماضي عن سلسلة من اصدارات مكتبة الملك فهد الوطنية في الرياض، كما ان العالمين الشيخين الصنيع والبسام هما من اعرف الناس لكتب شيخ الاسلام ابن تيمية ولم يشككا في هذه الرسالة بل نقلاها، وأكدا نسبتها الى شيخ الاسلام.

* الباحث في سطور

ـ راشد بن محمد بن عساكر من مواليد مدينة الرياض عام 1974.

ـ طالب في المرحلة النهائية بقسم التاريخ بجامعة الامام محمد بن سعود الاسلامية.

ـ له مؤلفات وبحوث تاريخية، وكتب تحت الطبع، حيث اصدر اربعة كتب عن تاريخ المساجد والاوقاف القديمة في بلد الرياض صنع عام 1373هـ، وتحقيق بعنوان «نبذة في انساب اهل نجد» لمؤلفه جبر بن سيار المتوفى عام 1664 وهي اقدم نبذة نجدية في الانساب حتى اليوم، وكتاب خاص للاسرة بعنوان «الرياض الزاهر في تاريخ آل عساكر» وبحث بعنوان «قوافل الحج النجدية في القرن العاشر الهجري ـ العارض نموذجا ـ من خلال وثيقة عثمانية عام 981هـ».

وللباحث عدد من الكتب تحت الطبع مختصة بتاريخ الرياض وعلمائها ومكتباتها القديمة، ومقالات متعددة في الصحف السعودية عن الترك والمخطوطات.