إشكاليات «ثنائية السيف والقلم» في أدبيات المثقف والسلطة

وزراء مثقفون كالمهلبي عوقبوا بالضرب بالمقارع لأنهم صدقوا نظرية عبد الحميد الكاتب عن حاجة السلطان لأقلامهم من دون شروط وحدود وقيود

TT

اذا قسمنا الناس على طريقة ابن عبد ربه الاندلسي فهم ثلاث طبقات -ورجرجة ـ لان هذا العالم الجليل الذي لم يسمع بالتكنوقراط والبيروقراط واتباع المثقف الوطواط يرى ان البشر اما علماء او خطباء او ادباء وما تبقى (... رجرجة بين ذلك يضيقون الاسواق ويكدرون المياه....).

وحين تهمل ـ الرجرجة ـ وهم الاغلبية، تكتشف انه لا يتحدث الا عن المثقفين ولا يرى غيرهم فالعلماء والخطباء والادباء يشكلون ما اصطلحنا ان نطلق عليه في العصر الحديث طبقة الانتلجنسيا الجديدة التي ضاعت كسابقاتها في دهاليز ثنائيات السيف والقلم واشكالياتهما المعدة فلقب ـ ذو الرئاستين ـ او ذو الوزارتين ـ كان اكثر من اشارة مختصرة لوزيري الدفاع والثقافة في بلاد تتداخل فيها الحدود والتعريفات والمصطلحات ولا تعترف نخبها الا حين تخاف بأهمية التخصص.

ولن تجد من السياسيين من ينصف هذه الطبقة التائهة من المثقفين غير الخليفة المأمون الذي كان يقول عن جزء من الانتلجنسيا في زمنه (الكتاب ملوك الناس) وقد قرن القول بالفعل فوضع الجاحظ على رأس ديوانه لكن عثمان بن بحر هرب من تلك الوظيفة دون ان يستقيل لمعرفته بعدم قدرته على احتمال تعقيدات العلاقة بين السلطة والمثقف، فالسلطة ترى في المثقف دوما، كما لاحظ ابن خلدون، بوقها واداتها وحين يخرج عن ذلك الدور تنتهي فاعليته هذا اذا لم ينته اجله.

ان العلاقة بين السلطة والمثقف تقوم على تقاسم المكاسب واول من وضع هذا الشرط الخليفة الاموي الاول معاوية بن ابي سفيان في حديث عابرلابي بكر بن عثمان بن الحارث الذي كان يكثر من الجلوس عنده دون ان يلي عملا او يطلب نائلا الى ان ضاق به صدر الخليفة، فقال له امام بقية مثقفي وكتاب عصره: يا لبن اخي هي الدنيا فاما ان ترضع معنا او ترتدع عنا.

ولاحقا سوف يصبح مبدأ الرضاعة المشتركة هو الاساس اما النشاز فهو ما تسميه كتب التراث ـ الخروج على السلطان ـ أي التمرد والعمل على تغيير النظام السياسي بالقوة وربما كانت شهوة الانقلاب تتحكم بمعظم المثقفين الذين شربوا من ذلك الثراث الخصب للعلاقة المعقدة بن المثقف والسلطة التي انتجت عشرات الفتن والمئات من حركات التمرد وخلقت ارثا ادبيا عجيبا جعل العلاقة بالسلطة محور كل الثقافة السياسية واصلاح الحاكم هو اساس عملية التغيير لا يشذ عن ذلك الا ابن رشد الذي دعا الى اصلاح الراعي والرعية معا.

ان شهوة التمرد التي زرعها القرامطة والمتصوفة الاوائل والمتنبي والحلاج وابن الاشعث وعشرات غيرهم ما تزال تفعل فعلها الى اليوم لتجعل منا امة تصفق للانقلاب ولو فشل، وذلك من كثرة ما تحويه الصدور من ضيق بالواقع الذي اصاب الجميع الاستلاب وهو عجز مركب واحباط يكاد يكون يأسا من نوع يستعصي على العلاج الى درجة ضقنا ذرعا بانفسنا واصابتنا اعراض الاكتئاب والاغتراب كلها التي يلخصها علماء الاجتماع بالنفور من الذات وخلخلة المعايير والقيم والاستلاب الكامل الذي يقود الى مناطق اللامبالاة واللاجدوى واللامعنى.

انها ليست صدفة جغرافية ابدا ان يقع في الشهر الماضي انقلابان من اقصى المحيط الى ابعد نقطة في الخليج (نواكشوط، ورأس الخيمة) فهذان تأكيدان جديدان على ان شهوة الانقلاب تتحكم بنا منذ ايام ثقافة الخروج على السلطان وسوف تظل كذلك الى وقت طويل فنحن انقلابيون بالوراثة لان كل من يرفض ان يكون بوقا يجب ان يتمرد بالضرورة والتربية التراثية فنحن ندرك منذ ان نعي ما حولنا ان الصعود السياسي الطبيعي من خلال احزاب وتيارات فكرية من رابع المستحيلات، وهكذا تحفر شهوة الانقلاب عميقا في الروح والعقل في غياب البدائل الاخرى. وتعود سيرة التغيير بالقوة لتخدعنا لانها اكثر جاذبية عند الكسالى واصحاب النفس القصير الذين لا يدركون ولا يستطيعون انتظار تكون مؤسسات المجتمع المدني التي تستطيع وحدها محمية بالاعراف والقوانين ان تقلم اظافر السلطة.

* المكشوف والمستور

* لقد كان المثقفون على الدوام شركاء في السلطة مع انهم ينكرون ذلك وكانوا يقومون بأدوار مكشوفة ومستورة على الدوام قبل تبلور ثنائية السيف والقلم. فقد اعتمد المروانيون على الحجاج بن يوسف الثقفي وهو من اكبر مثقفي زمنه، واعتمد المأمون على المعتزلة وهم النخبة الثقافية الاولى في ذلك العصروكان حول كل امير او خليفة او حاكم عشرات المثقفين الذين ينصون ويشيرون ويستلم بعضهم مناصب تنفيذية ويتفرغ آخرون لتعليم السياسيين شؤون الحكم، فالكثير من الكتب التي تناولت هذا الموضوع ـ الاحكام السلطانية ـ للماوردي ـ وسراج الملوك ـ للطرطوشي تم تأليفها بطلبات حكومية وطبقها حكام كثيرون ومع ذلك ما يزال المثقف يدعي التعفف وشكو عدم المشاركة في السلطة قديما وحديثا مع انه كان على الدوام من عظام الرقبة مشاركا وضالعا في كل ما يجري من خراب وفساد.

ان هذا الخراب السياسي المعاصر من صنع المثقفين ايضا فلا يستطيع المثقفون العرب مهما اوتوا من قوة الحجة والالمعية ان ينكروا انهم حكموا مباشرة وبالنيابة وفشلوا لانهم وضعوا نرجسياتهم وطموحهم الشخصي قبل مصالح الامة منذ ابن خلدون الذي تدلى بقفة من اسوار دمشق ليقابل الغازي المغولي الى آخر مستشار تافه في أي دائرة حكومية معاصرة يقبل الا يرفع صوته والا يحتج على هذا الخراب كله ليحمي الفيلا والسيارة ومصروفات الزوجة والعشيقات. وكي لا نظلم المثقفين كثيرا لا بد ان نشير الى ان فشلهم كان حتميا، ففي غياب المؤسسات السياسية المقننة ذات الدور الواضح والمحروس بالرغبة الشعبية والقانون تظل المبادرة الفردية رقصة مؤقتة في فراغ هائل مصيرها الزوال والتلاشي.

لقد كانت الناصرية سلطة مثقفين وكذلك البورقيبية وعلال الفاسي ورواد حركة الاستقلال بالمغرب، وكان البعث في سورية والعراق حركة مثقفين وهناك اكثر من حاكم عربي هذه الايام تلبسته شهوة التأليف والكتابة واحاط نفسه ليظل رب السيف والقلم بشلة مثقفين بعضهم حاول ان يؤثر ويغير ويطور والاغلبية اكتفت بذهب المعز تاركة لسيفه وحرسه ومخابراته قيادة البلاد الى الهاوية.

هل يستطيع محمد حسنين هيكل ان ينكر انه كان من اكبر الفاعلين في الحقبة الناصرية؟

وهل يستطيع محمد مزالي الذي صار رئيسا للوزراء في بلده ان يتنكر لحقيقة فاجعة وهي ان تحويل الخطاب الثقافي الى خطاب امني تم بموافقته وتوجيهاته؟

وفي سورية حيث انطلق البعث ألم يكن عفلق والبيطار والخش وسليمان العيسى وغيرهم كثير هم النخبة الفاعلة ثقافيا وسياسيا ايضا وهم اول من قدم السيف على القلم والكومبيوتر.

ومع الامتداد الطبيعي للبعث الى العراق هل نستطيع ان نغفل ان حمدان وعبد الجليل وطارق عزيز وشفيق الكمالي كانوا على رأس النخب العراقية المثقفة؟

ان جميع هذه الامثلة تدحض الفكرة القائلة ان المثقفين العرب لم يشاركوا في السلطة السياسية في العصر الحديث فهم هناك تنظيرا وتنفيذا لكن حصيلة تأثيرهم محدودة لأن منطق السلطة الواضح لديهم ولدى السياسي لا يمكن ان يقبل بازدواجيتهم بحيث ينالون المكاسب ويتبرأون من المثالب فقد تمرغوا واترعوا ورضعوا ولا حاجة لهذه البراءة المتأخرة التي يحاولون الايحاء بها فهي لا تقنع احدا.

ان مشكلة المثقف المعاصر تشبه مشكلة جده الثراثي، وهي تخليه عن اولويات الثقافة القائمة على الحريات والعدل والمحبة والتسامح لصالح اولويات السلطة التي لا تنهض دون ربط وضبط وحزم يتحول غالبا الى بطش وقمع.

لقد جاء المعتزلة اصحاب العدل والتوحيد انقياء الى السلطة زمن المأمون ومجرد ان جربوها وذاقوا عسلها ولبنها تحولوا الى خليفيين اكثر من الخليفة فهم الذين صنعوا مشكلة خلق القرآن ليضطهدوا غيرهم، وممارساتهم في تلك الحقب افظع من ان توصف وتشير في معظمها وكما تأكد لنا في العصر الحديث ان المثقف بمجرد ان يتسلم سلطة يبدأ بخيانة الثقافة.

وليتهم في حب السلطة كانوا واضحين كالمتنبي الذي كان يبحث علنا عن حكم ضيعة او ولاية اما ان يتعففوا ويلقوا اللوم على الاخرين وكلهم رغبة بلبن السلطة وعسلها فهذه ازدواجية مرفوضة ونفاق ممجوج.

في الماضي القريب اثبت طه حسين انه لا ضير في ممارسة المثقف للسلطة فمارسها كاتبا واكاديميا واعلاميا ووزيرا وحزبيا وكان عنده وعند جيله اهداف تمكنوا من تحقيق بعضها نتيجة لتلك الممارسة السياسية والانخراط الفعلي في التغيير الاجتماعي وذاك درس يمكن استحضاره والنسج على منواله بدل الاعجاب بتجربة الوزير العباسي ابن الزيات المثقف الحر اللوذعي الذي استثمر وجوده في السلطة في تطوير وسائل القمع والتعذيب فهو اول من ادخل فكرة شي الخصوم بالتنور واضافها الى قاموس القمع في العصر الوسيط. ومن سوء حظه رفسه الخليفة بعد حين ووجد من يعذبه بذات الاداة التي استخدمها لانتزاع الاعترافات من الآخرين.

ان تجارب الشعوب لا تقيم هذا الفصل الحاسم بين الثقافة والسياسة فالممارسة السياسية لا تصبح مرفوضة الا حين يساوم المثقف ويتنازل عن ثوابته ومبادئه وهذا ما يجعل المطالبة بدور سياسي فاعل للمثقف ضرورة فنحن لا نستطيع بعد كل ما حصل ان نكتفي بالكلام في اعمدة الصحف وعلى ارصفة المقاهي فكل الخراب العربي الذي حولنا يؤكد اولوية الثقافة السياسية وضرورة انخراط المثقف في العمل السياسي بكل الوسائل. فمهما قلنا عن التعليم والاعلام والتنمية والتقنية ستظل الجهود على تلك الجبهات ضائعة ومبعثرة لعدم وجود ما يضمن تراكمها المنتج واستمرارها.

لقد قيل مليار مرة ان استقلالية القضاء وحرية الاعلام وتطوير مناهج التعليم يغير من طبيعة المجتمعات والدول ويجعلها اكثر تقدما لكن ذلك لم يحصل عندنا ولن يحصل، لان الانظمة السياسة الشمولية وغير الشرعية ـ بدرجات متفاوتة ـ لا تسمح بقيام مؤسسات تحاسبها وتسلبها سلطاتها وهذا ما يدفع نخبة مثقفة معاصرة الى الاعتقاد بأن خلق مؤسسات سياسية شرعية تؤمن آليات انتقال غير دموي وغير خداعي للسلطة هو المهمة التي لا يجوز تقديم أي شيء عليها الا لمن شاء ان يحرث في الماء ويبذر في الهواء من دون تفكير بمستقبل ما يغرس.

المثقف العربي في هذه الايام صار مضطرا ان يأكل السياسة ويشربها وينام معها وان يتظاهر وينتظم ويحرض وان يمتلك الجرأة الكافية لالغاء خطوط الحظر التقليدية والاستماتة في سبيل خلق مؤسسات سياسية شرعية تحرس التطور وتراكمه، فتراجع دور الكلمة وشل فاعلية الثقافة الوطنية لم يكن بسبب وفرة الانغماس السياسي بل نتيجة لقلة ذلك الانغماس المتأتي من تراكم الاحباطات ويستطيع كل مدقق في تاريخ الثقافة العربية خلال قرن ان يلاحظ ان تأثير رجال الثقافة يزداد كلما اوغلوا في العمل السياسي وما جيل النهضة ثم جيل الدولتين الليبرالية والقومية الا امثلة ساطعة على الدور الفاعل للمثقف في حياة مجتمعه اثناء اتقانه لدوره السياسي وتفاعله الايجابي مع الاحداث العربية والعالمية التي تحدد مصير امته.

* أسياد وخدم

* لقد كان الافغاني مسيسا من اخمص قدميه لقمة رأسه وكذلك محمد عبده وشكيب ارسلان واحمد لطفي السيد وشلي الشميل والبساتنة في لبنان وعبد الرحمن الكواكبي في سورية، وهؤلاء جميعا لم يجدوا ضيرا في التورط السياسي بل ادركوا انه الطريق الاقصر لاحداث تغييرات حقيقية في مجتمعاتهم بعيدا عن ثنائية انفصال دور السيف عن دور القلم.

لقد تحكمت ثنائية صراع السيف والقلم والمفاضلة بينهما في ادبيات العصر الوسيط والقديم وكان الذي يتولى الوزارة من الكتاب يحاول التوفيق بينهما وظلت الغلبة دوما للسيف ولسان هذه الاغلبية المثقف الذي اراد ان يصبح سياسيا فمنعوه، فالمتنبي هو القائل في حسم ذلك الصراع الطويل.

حتى رجعت وأقلامي قوائل لي ـ المجد للسيف ليس المجد للقلم

فاكتـب بنا أبدا بعـد الكتاب به ـ فانما نحـن للاسـياف كالخدم

ولم يفعل ابن خلدون لاحقا في نص ـ الكتابة آلة السلطان ـ الذي لن ننص عليه لشهرته اكثر من التنويع على هذا المعنى الاساسي من دون ان يعني ذلك ان الكتاب والشعراء كانوا جميعا على هذه الشاكلة فهناك تيار آخر دخل محاورات ثنائية السيف والقلم وهو يعتقد ان الكتاب اهم ما في الكون وهو عبد الحميد الكاتب الذي يؤثر عنه قوله منذ العصر الاموي موجها حديثه للكتاب «يا اهل هذه الصناعة بكم ينتظم الملك وتستقيم الملوك امورهم وبتدبيركم وسياستكم يصلح الله سلطانهم ويجتمع فيؤهم وتعمر بلادهم ولا يستغني عنكم منهم احد ولا يوجد كاف الا منكم فموقعهم منكم موقع اسماعهم التي يسمعون بها».

وطبعا كان للملوك رأي آخر فدور الاسماع للاجهزة ودور الكتاب مهما علت مكانتهم كالخدم، فالوزير المهلبي كما يخبرنا المؤرخون تعرض للضرب بالمقارع في مجلس معز الدولة البويهي الذي لم يكن افضل من كافور في لعبة استغلال حاجة المثقفين لاذلالهم فالسلاطين يحتاجون لارباب الاقلام فعلا لكن بحدود وقيود وشروط يضعهونها هم وما على المثقف والكاتب الذي يقبل بها الا السمع والطاعة اما الذي يرفضها فيظل اكثر حرية في التمرد والرفض والاعتراض.

لقد انتقل المثقف الغربي بقلة حصافة من ثنائية السيف والقلم الى احادية الحركة المعروفة بنظرية الجسر وفارسها وضحيتها الدكتور سعد الدين ابراهيم الذي كتب مطولا عن تجسير الفجوة بين المفكر والامير واخترع لذلك بدل الجسر الواحد ثلاثة انواع من الجسور الذهبي والفضي والخشي وقد تحطمت به تلك الجسور جميعها حين تجاوز الخطوط الحمراء واراد ان يصنع من المثقف رقيبا فعليا على الحكومة.

ولعل الذين نادوا ذات يوم بتجسير الفجوة بين السلطة والمثقف ـ مع كل الاحترام لدورهم وافكارهم ـ قد انتبهوا الى ان كل الجسور قد تحطمت، ففي اللحظة الحاسمة ترك السياسيون والتجار المشروع الوطني خوفا وفرقا وهذه رفاهية لا يستطيعها المثقف المطالب بالعودة بكثافة جنونية الى العمل السياسي وبعدم ترك بوصلة التطور بيد المافيا السياسية والتجارية التي تطعم المشهد العام بحفنة من المثقفين الانتهازيين حتى لا يقال انها اهملت روح الشعب.

ان الانظمة الشمولية ليست بحاجة الى مثقفين، فالليبراليون وحدهم يحتاجون مع حكوماتهم الى التغطية الايدولوجية والغطاء الثقافي اما المستبدون فتكفيهم الابواق ولا يطربهم غير المصفقين واصحاب المدائح غير النبوية وبالتالي فان المراهنة على مشرع ثقافي عربي تتبناه الدول وتنفذه اجهزتها الحالية مسألة ميؤوس منها.

ان الثقافة الرسمية العربية لا يمكن الا ان تكون ذيلية للانظمة السياسية التي تمثلها فاي رهان على الثقافة الرسمية يظل خاسرا ما لم يتم ادخال تعديلات جوهرية على بنية الانظمة السياسية العربية واشراك المجتمع الاهلي بالشأن الثقافي.

الثقافة حركة مجتمعات كاملة وليست دورا فرديا وكلما تعددت عناصر المساهمين فيها وتنوعت هوياتهم ازدادت فاعليتها. ولعل من اخطر ثغرات الثقافة العربية المعاصرة انها ظلت شأنا حكوميا بحتا فتأثرت نتيجة لذلك بكل الانهيارات التي اصابت السياسات الرسمية ولنعترف دون مداورة بان إلحاق النشاط الثقافي بالدولة ألحق بها اكبر الاضرار، فالذي يدفع للزمار كما يقولون في الامثال الانجليزية هو الذي يفرض طبيعة اللحن ونوعه وهكذا صارت حرية العمل الثقافي العربي الممول رسميا بمثابة نكتة موسمية لا تستطيع الا ان تضحك عليها وعلى كل من يعتقد ان النظام السياسي العربي يمكن ان يدفع اموالا لتقوية مثقفين يعارضونه في المواقف والرؤى.

لقد اهرق حبر كثير في موضوع المثقف والسلطة وثنائيات السيف والقلم وتناسى المثقفون ـ وهذه من هفواتهم ـ ان قواعدها لم تتغير كثيرا منذ ايام ابن خلدون، فاما ان يكون المثقف (آلة السلطان واداته) ويقتنع بدوره الهامشي المحدود او يغامر بالنفي من الملكوت الرسمي. وقد نفى كثيرون انفسهم وابتعدوا عن الثقافة الرسمية لكنهم لم يستطيعوا ان يخلقوا الثقافة البديلة لأن مؤسسات المجتمع المدني التي نبالغ في الحديث عنها غير موجودة ومحدودة التاثير حين توجد، وفي هكذا اوضاع كانت مجتمعاتنا اكثر حاجة للمثقف (الغرامشي) القادر على بلورة حركة للاصلاح السياسي متداخلة مع حركة الاصلاح السياسي. لكن ذلك لم يحصل فقد ظلت فكرة المثقف السارتري ـ الشاهد والشهيد ومزعج الطغاة ـ اكثر جاذبية للمثقفين العرب الغارقين في سراب البطولات الوهمية من الغرامشية ومن (المادية الثقافية) التي نادى بها مارفين هاريس والتي تقدم الاحتياجات المادية على النظم الفكرية والمذاهب الاجتماعية.

يقال عن المثقفين انهم اصحاب رؤى وحملة مشاعل وحراس ضمير. وكلها ادوار مثالية لا غبار عليها لكني من بين جميع التعريفات انحاز في ظروفنا الحالية اليوم لتعريف (ادوارد شيلز) الذي يعرف المثقفين بأنهم: ذلك القطاع من المتعلمين الذين لهم طموحات سياسية اما مباشرة بالسعي لكي يصبحوا حكاما لمجتمعهم او غير مباشرة بالسعي الى صياغة ضمير مجتمعهم والتأثير على السلطة السياسية في اتخاذ القرارات الكبرى.

هنا الدور واضح ومفهوم ومقبول نخبويا وعند العموم فالاصلاح الثقافي بمعزل عن الاصلاح السياسي مضيعة للوقت والجهد والمال في بلاد لا ضوابط قانونية تحكمها ويستطيع أي مغامر ان يقلبها رأسا على عقب في ظرف سنوات من التسلط وعدم المراقبة التي لا تسمح بها الشيم العربية في ممارسة السلطة وبما ان شهوة الانقلابات ستظل متحكمة بنا الى امد طويل فالأولى بالمثقف الذي يقوم بمهام لم يكلفه بها احد ـ بالتعريف السارتري ـ ان يكلف نفسه ان لم يمارس السلطة مباشرة بالرقابة الشعبية المكثفة لسلوك الحكومات وان يبدأ بتعلم المشاركة الشعبية ويتخلص من ذلك الداء القديم الذي حكى عنه ابن خلدون وما يزال فينا، وذلك حين قال عن قلة خبرة الانتلجنسيا بالشأن العام في فصل من المقدمة عنوانه ـ فصل في ان العلماء من البشر ابعد عن السياسة ومذاهبهاـ:

«فهم متعودون في سائر انظارهم الامور الذهنية والانظار الفكرية ولا يعرفون سواها، والسياسة يحتاج صاحبها الى مراعاة ما في الخارج وما يلحقها من الاحوال ويتبعها فانها خفية».

ان معرفة المثقف بالسياسة في العالم العربي توازي معرفة السياسي إن لم تتفوق عليها فالاثنتان نتاج مجتمعات لا توجد فيها تقاليد للتربية السياسية، واحزابها لا تختلف كثيرا عن قبائلها، وعليه فإن الاثنين يتعلمان ويجربان بالشعوب العربية ولا حل للخروج من هذ المأزق الا بفتح النوافذ على مداها ليتقدم الاكثر حنكة وخبرة ومعرفة، ويعتزل في صومعته من يريد الاعتزال فكل الادوار مطلوبة من المثقف والعالم التخصصي الى المثقف الشامل الاقدر من غيره على المشاركة وتطوير الشأن العام.

ثنائية السيف والقلم لم تنفع السياسي واضرت بالمثقف وكذلك الطريق الاحادي بكل جسوره، فلماذا لا نحاول شيئا مختلفا بعيدا عن الثنائيات والاحاديات وندخل في الافق التعددي مشاركين لا منظرين فحسب،* فقد تهدينا الممارسة التعددية وتجربتها الى ما لم نستطع الوصول اليه بالنظريات والتأملات من خلف نوافذ الصوامع والابراج.