وفاة خبير الأسلحة البريطاني في ظروف غامضة تؤجج أزمة حكومة بلير بشأن قرار الحرب على العراق

العثور على جثة كيللي بعد أيام من استجوابه في البرلمان بشأن تقرير الـ«بي. بي. سي»

TT

رجح مراقبون ان تتفاقم المصاعب التي تواجهها الحكومة البريطانية في إطار الجدال الدائر حول سلامة قرار الاشتراك بالحرب على العراق، وذلك بسبب ملابسات موت خبير بالاسلحة لدى وزارة الدفاع اتهم بتسريب معلومات الى هيئة الاذاعة البريطانية (بي.بي.سي). ويعتقد أن وفاة الدكتور ديفيد كيللي في ظروف غامضة لا يستبعد ان تكون انتحاراً، ستكثف الضغوط على رئيس الوزراء توني بلير بغرض تشكيل لجنة مستقلة للتحقيق في قرار الحرب والمعلومات الاستخباراتية التي استند اليها. واعلنت مصادر رسمية ظهر امس ان هيئة قضائية ستكلف التحقيق بملابسات موته. إلا ان وزير الدولة السابق لشؤون الدفاع بيتر كيلفويل اعتبر ان ذلك غير كاف داعياً الى فتح تحقيق مستقل ليس فقط بوفاته، بل بكل الاحداث التي ادت ذلك.

وقد اعلنت الشرطة البريطانية صباح امس عن العثور على جثة رجل يعتقد أنه كيللي (59 عاماً)، خبير اسلحة الدمار الشامل لدى وزارتي الدفاع والخارجية الذي ادلى بإفادته أمام لجنة الشؤون الخارجية التابعة لمجلس العموم في جلسة «ساخنة» الثلاثاء الفائت.واكدت في وقت لاحق ان الجثة التي كانت على بعد كيلومترات قليلة من منزل الخبير في هاروداون هيل في منطقة اوكسفوردشاير غرب لندن، هي لكيللي الذي اختفى في ظروف غامضة منذ ظهر أول من أمس مما دفع الشرطة الى بدء عملية بحث واسعة النطاق عنه شارك فيها 70 شرطياً وطائرة هليكوبتر. وإذ اعلنت وزارة الدفاع البريطانية في وقت لاحق امس عزمها على إجراء تحقيق قضائي بملابسات الوفاة، فقد أكدت الشرطة ان ظروف الموت لم تتكشف بعد. واضافت إن التعرف على الجثة رسمياً سيتم اليوم، على ان يكشف النقاب عن اسباب الوفاة بعد ظهور نتائج التشريح. إلا ان مراقبين اعتبروا أن الاحتمال الاقوى هو أن كيللي اقدم على الانتحار نتيجة للضغوط النفسية التي تعرض لها في الايام القليلة الماضية.

وطالب كيلفويل، حكومة بلير «بتشكيل لجنة مستقلة للتحقيق بسلسلة الاحداث التي ادت الى موت الخبير وليس فقط بملابسات وفاته». وقال في اتصال هاتفي اجرته معه أمس «الشرق الأوسط» إن من الضروري الآن أن «نعرف حقيقة جملة من الوقائع فضلاً عن مدى صحة الاتهامات الموجهة للحكومة» بالمبالغة بعرض معلومات استخباراتية حول «الخطر» العراقي المزعوم. ورأى ان ذلك سيكون «في صالح الحكومة نفسها، لان الاتهامات والشكوك ستتزايد وستكبر المشكلة (بعد موت كيللي) مما سيلحق قدراً اكبر من الاذى بسمعة الحكومة». ولفت الى انه «بغض النظر عن ملابسات رحيل الرجل التي لا نعرفها تماماً بعد، فإن الرأي العام سينظر الى موت كيللي بانه مرتبط بظهوره قبل ايام امام لجنة الشؤون الخارجية في إطار تحقيقها حول ملف سبتمبر». وقال إن هناك «أجزاء كثيرة مفقودة من الراوية (الرسمية)» لأسباب الذهاب الى الحرب وكيفية تعاطيها مع المعلومات الامنية المتعلقة بالعراق.

ولدى سؤاله عن مدى تفاؤله بان يستجيب بلير لندائه هذا بفتح تحقيق مستقل، لاسيما ان مجلس العموم في عطلة حتى سبتمبر القادم، قال كيلفويل إن «من المرجح ان يعمد رئيس الوزراء الى ذلك، وقد سمعت قبل قليل (ظهر امس) بان وزارة الدفاع تستعد للاعلان مبدئيا عن نيتها فتح تحقيق مستقل بالامر«بيد انه اشار الى عدم معرفته بطبيعة التحقيق او الموضوعات التي سيتركز عليها». ومن جهته أعرب دونالد اندرسون رئيس لجنة الشؤون الخارجية، عن اسفه لوفاة كيللي، معتبراً انه «كان مرتاحا» خلال إدلائه بشهادته امام اللجنة. ويُشار الى أن أندرسون وجه رسالة الى وزير الخارجية جاك ستروعقب الجلسة قال فيها إن الخبير «قد عومل (من جانب الحكومة) بصورة رديئة». واعتبر امس ريتشارد اوتاوي، وهو واحد من ثلاثة نواب محافظين أعضاء في اللجنة المؤلفة من 11 نائباً بينهم 7 عن حزب العمال الحاكم، ان الراحل لم يستطع تحمل المتاعب التي جلبتها له شهرته المفاجئة. واشار الى انه «لمح الى الضغط الذي يعاني منه حين قال انه لم يكن قادراً على الذهاب الى بيته في ذلك الوقت بسبب فضول وسائل الاعلام». وقال جون مابل، عضو اللجنة المحافظ، إن كيللي «بدا لي غير سعيد» لان اسمه أعلن من قبل الوزارة.

وجدير بالذكر ان الخبير بدا منكسراً خلال إدلائه بإفادته، ولوحظ أن رئيس لجنة الشؤون الخارجية طلب منه مراراً رفع نبرة صوته لصعوبة فهم ما يقوله. بيد ان صوت اختصاصي الاحياء الدقيقة خريج جامعة اكسفورد، كان لا يلبث أن يخبو مجدداً مما لفت الانتباه الى الضغوط التي كان يرزح تحتها. واضطر أندرسون في احدى مراحل الجلسة الى إصدار التعليمات بإطفاء اجهزة التكييف، عسى ان يجعل غياب ضجيجها البسيط صوت كيللي الخافت أقل غموضاً. وعلى رغم توتره، كان الراحل يرد على الاسئلة بشكل هادئ. إلا ان علامات الحزن طغت على وجهه حين قال له النائب العمالي أندرو ماكينللي في سياق الاستجواب ذاته، بانه ضحية دفعتها الحكومة «الى الذئاب» كي تخلص نفسها من مأزق الجدال المتصل بتضخيم المعلومات. والدكتور، الذي عمل مستشاراً من الدرجة الرفيعة للأمم المتحدة في العراق حول الحرب البيولوجية منذ 1994 وحتى 1999، كان ملتحياً يضع على عينيه نظارات مذهبة. وقد شبه صحافيون بريطانيون ملامحه في تلك الجلسة بملامح الدكتور هارولد تشيبمان، الذي ادين بقتل عشرات السيدات المتقدمات في العمر بمدينة مانشستر شمال انكلترا قبل سنوات قليلة.

وكان الخبير الذي عمل بين 1991 و1999 في العراق ضمن فريق مفتشي الاسلحة التابع للامم المتحدة، قد غدا شهيراً على نحو مفاجئ قبل ايام. وجاء ذلك حين أعلنت وزارة الدفاع أنه «تطوع» بالاعتراف أنه نقل للصحافي آندرو غيلغان معلومات للبي.بي.سي عن كيفية إعداد الملف الذي اصدرته لندن حول اسلحة الدمار الشامل العراقية المزعومة في سبتمبر (ايلول) الفائت. إلا انه نفى تورطه بنقل تسريب معلومة الـ45 دقيقة، التي لاتزال تثير جدلاً واسعاً بين الحكومة والبي.بي.سي. وقال للجنة الشؤون الخارجية التي أعادت فتح تحقيقها بقرار الحرب للاستماع الى شهادته، ان هذا الزعم عن إمكان اعداد بعض الاسلحة العراقية في هذا الوقت القصير غير منطقي. وطلب وزير الدفاع جيف هون إثر «الاعتراف» التطوعي من البي.بي.سي تاكيد او نفي أن يكون كيللي هو مصدر المعلومة التي تضمنها تقرير أعده غيلغان أواخر مايو (آيار) الماضي لبرنامج «توداي» (اليوم) الاخباري في راديو فور، حول «تضخيم» مكتب بلير المتعمد لمعلومات استخباراتية عن الاسلحة العراقية المفترضة. غير ان الهيئة اعتذرت عن عدم الاستجابة. وتم توجيه اتهامات الى آلاستر كامبل، وهو مدير الاتصالات والاستراتيجية في مكتب رئيس الوزراء، بانه اضاف الى الملف معلومة تزعم أن بغداد قادرة على تجهيز بعض اسلحتها البيولوجية والكيماوية للإطلاق في غضون 45 دقيقة، وذلك خلافاً لرأي أجهزة الاستخبارات البريطانية. وتنكر الحكومة بشدة تهمة «العبث» بالمعلومات الاستخباراتية لجعلها «أكثر إثارة».