نساء غيرن تاريخ السودان

الملكة شيخوا هزمت الجيش الروماني وغنمت رأس الإمبراطور أغسطس

TT

لا يعرف الكثيرون، خاصة في البلاد العربية، ان هناك نساء قد حكمن السودان، وشيدن قصورا وقلاعا ومعابد في حقب تعود الى تسعمائة سنة قبل الميلاد، ومن هؤلاء اماني شيخوا التي عرضت كنوزها ومجوهراتها الذهبية المطعمة بالاحجار الكريمة في متاحف عواصم اوروبا في حقبة التسعينات بتنسيق بين اليونسكو والهيئة القومية للآثار والمتاحف السودانية.

واخيرا، صدر كتاب ضمن سلسلة الآثار السودانية لخبير الآثار صلاح عمر الصادق بعنوان (نساء حكمن السودان قديما: نساء وملكات مملكة مروي 900 ق.م ـ 350م)، يتناول دور نساء مملكة مروي في بناء الدولة المروية والارث السليم للمرأة السودانية ومساهمتها في التطور الحضاري منذ فجر التاريخ، وانعكس هذا الدور من خلال مشاهد من السجلات الاثرية وكتابات القدامى امثال هيرودتوس (450 ق.م) في الحياة الاجتماعية والدينية والسياسية في مملكة مروي.

وتناول الكتاب اشهر هؤلاء النساء والملكات، فالملك كاشا Kasha، 760 ـ 774 ق.م من الملوك المؤسسين للمملكة المروية في نبتة «مدينة كريمة الحالية بشمال السودان»، والذين حكموا مصر باسم ملوك الاسرة الخامسة والعشرين قد كرس ابنته امترديس شقيقة الملك بعانخي PIANKHI لتتولى في مصر منصب العابدة الالهية وزوجة آمون طيبة، وهو منصب ديني كبير يعادل منصب كاهن آمون الاكبر في طيبة، وقد وجد لها تمثال في غاية الجمال من المرمر تقف فيه على قاعدة من الرخام الاسود وهو الآن بالمتحف المصري.

وتعتبر الملكة شنكر خيتو اول امرأة تصل الى عرش مروي 165 ـ 145ق.م، وقد شيد لها معبد بالنقعة يقع شرق معبد آمون على سطح الجبل وعليه وجد اسمها باللغة المروية داخل خرطوش تصحبه نقوش باللغة الهيروغلوفية المصرية، ويعتبر من اقدم المعابد في النقعة، كما وجد مشهد لها على نقش بارز جنائزي من الحجر الرملي داخل هرمها بالمقبرة الملكية الشمالية بمروي.

تميزت اللوحات التي جسدت شخصيتها بالمهارة والدقة، وقد عثر على اثر لها وهي ترتدي تاجا يمثل العقرب رمز الألهة ايزيس. وقد جلست على العرش الذي اتخذ شكل اسد وهي تحمل لواء بيمينها وغصن النخيل بيسارها، ومن خلفها جلس ولي العرش امام الالهة ايزيس بيديها المجنحتين كرمز لتوفير الحماية للاميرة.

ويقول المؤلف ان الملكة اماني شيخوا «41 ـ 12ق.م» اشهر ملكات مروي، يوجد هرمها رقم (6) في سلسلة اهرامات البجراوية بمنطقة شندي في شمال السودان، وقد كان هذا الهرم، قبل هدمه بواسطة الطبيب الايطالي فرليني في عام 1834، وهو يبحث عن كنوز ملوك مروي والذي هدم الكثير من الاهرامات في مروي، من اجمل الاهرام عمارة، وهو مشيد من الحجر الرملي ويتكون من اربعة وستين درجا، وبلغ ارتفاعه نحو الثلاثين مترا، ونقل عالم الآثار الفرنسي فريدريك كايو اثناء مرافقته لحملة محمد علي باشا على السودان الرسومات الباهرة المنحوتة على جدران الاهرام، كما تظهر الكنوز الذهبية المطعمة بالاحجار الكريمة ذات الصياغة الفنية العالية، التي نهبها فرليني من داخل هرم الملكة وباعها للمتاحف الاوروبية، وقد جمعت الآن في متحف ميونيخ بالمانيا، كما كشف مشهد جمالي للملكة اماني شيخوا بالهرم رقم 11 (مجموعة اهرامات البجراوية) مبلغ الثراء وتقدم النحت واتقانه آنذاك، حيث وقفت الملكة بكامل زينتها، ولكن في وضع حربي وهي تمسك بيدها اليسرى مجموعة اسرى وتحمل اسلحة بيدها اليمنى، وفي مشهد آخر ترتدي كامل زينتها وعلى رأسها التاج الملكي وعليه رأس كبش للاله امون، بينما تمسك بيدها اليسرى حبلا ينتهي بمجموعة من الاسرى المربوطين.

ويصف المؤلف عهد الملكة شيخوا بالرقي والازدهار بدليل وجود المزامير والآلات الموسيقية، وقد وجدت داخل الغرفة الجنائزية رقم (6) الخاصة بالملكة. واشار الى تنوع نشاطات هذه الملكة ودورها في كافة المواقع المروية والسجلات الكلاسيكية القديمة، وكذلك اعتبر اعظم الاعمال الحربية والمعمارية التي تركتها اماني شيخوا في ذكرى انتصارها على الجيش الروماني عند اسوان، وقد غنمت منهم رأس الامبراطور اغسطس والذي كان الجنود الرومان يحملونه معهم اثناء حروبهم. وقد خلدت هذا الانتصار باقامة معبد لها داخل مدينة مروي، ووضعت رأس الامبراطور تحت سلالم المعبد عند موطئ قدمها عند صعودها درج المعبد. وقد وجد هذا التمثال في مكانه بواسطة فارستانج لدى تنقيبه للمعبد في عام 1910، ونقل الرأس وهو من البرونز الى المتحف البريطاني، كما توجد نسخة منه في متحف السودان القومي بالخرطوم، ووجدت مسلة خاصة بالملكة شيخوا بدومة الحمداي بالشمالية.

وتناول الكتاب سيرة الملكة اماني تيري التي تولت الحكم بعد وفاة أمها الملكة اماني شيخوا في عام 12ق.م، وقد شكلت مع زوجها الملك نتكاماني ثنائيا متكاملا في الحرب والسلم، واهتما بالمنشآت العمرانية والحربية والدينية والمدنية، وقد قاما باعادة ترميم وصيانة معبد آمون بمروي، وكذلك قاما بتشييد العديد من المعابد مثل معبد الاسد ومعبد آمون، كما بنيا قصرا كبيرا ومتقدما في تصميمه تحت سطح جبل بركل وجدت به تماثيل من الحجر الرملي، ويقول المؤلف ان اروع المشاهد التي خلفتها الملكة اماني تيري وهي تلبس زيا حربيا مع زينتها وتمسك بيدها اليسرى سيفا مرفوعا لاعلى، وبيدها اليمنى تقبض على الاعداء بينما في الاسفل مشهد لمجموعة من الاسرى مقيدين الى الخلف، وتظهر الملكة في كافة جدران المعبد، ويمضي المؤلف الى القول: ان هذه النماذج من الملكات اللائي حكمن السودان في تلك الحقب البعيدة تعكس مكانة المرأة في مملكة مروي من الناحية الدينية والسياسية والاجتماعية. واظهرت النقوش واللوحات التتويج والقصور والمعابد والمسلات في العديد من المواقع ما تحقق من تقدم هائل خلال حكمهن، كما ان الدور السياسي لملكات مروي برز بوضوح ابان حكم الملكة شكند خيتو، حيث اقامت المعابد وشيدت القصور، واهرامات الشمالية ويعتبر هرمها من اضخم واجمل الاهرامات.

واعتمد المؤلف على عشرات المراجع الاجنبية والبحوث والتقارير العلمية التي اعدها المؤرخون والمنقبون عن الآثار القديمة في المناطق الشمالية، وكذلك ضمن الكتاب لوحات نقلت من جدران المعابد والقصور للملكات من مختلف المناسبات.