لماذا أصبح أبو تمام كبير سعاة الموصل؟

شاعر يسبق الأدباء العراقيين قبل أكثر من ألف سنة في بيع كتبه

TT

أية قيمة لإنسان اتخذ طريق الرياء مبدأً في الحياة؟، أي تسويغ يجعله يزيف وجوده وفكره واحساسه ويظهر على غير ما تمليه عليه نفسه وتبان عنه حقيقته؟

حين يكون الإنسان مجبراً على النفاق، أو يجد نفسه في ظرف يمكن أن يقود الى كارثة تزول بشيء منه، أو الخائف المرعوب الذي يضطر اليه.

إن الرياء الايجابي يعد في بقاع من العالم جزءاً من حضارتها يحقق علاقة جيدة، في حالات، بين البشر، ويدل على الزيف وطفولة العقل البشري.

كيف يمكن أن نتصور الدنيا حين يقول الإنسان ما يؤمن به وحين يفصح عن رأيه بلا خشية؟ إن الكرة الأرضية لن يضطرب توازنها، فهل نستطيع أن نحث مصادر التشريع على إصدار قوانين: هل عنيت ما قلت؟ هل عنيت ما تقول؟ فإن كان الإنسان مراوغاً أوقعت عليه عقوبات قاسية، قد تمر البشرية، بعد ذلك، بمرحلة من الحقيقة لم تعتد عليها ولكنها ستتلاءم معها لأن الحياة يجب أن تكون كذلك في جوهرها.

وأبعد الناس عن الرياء هم المفكرون، ولكن شعراء لظروف بيئية واقتصادية وسلطوية أو دونية شخصية أو أنهم لم يخلقوا بلا معدة، كما يسوغ نفاقهم زكي مبارك، كأن غير الشعراء يفتقرون اليها، خذلوا هذه القاعدة في احيان فنافقوا، ودعا ابن شرف القيرواني بصراحة الى النفاق، وأتى بجناس تعيس:

إن تَدْعك الغربة في معشر ـ قد جبل الطبع على بُـغضهم

فدارهم ما دمت في دارهم ـ وأرضهم ما دمت في أرضهم

وقصد أبو العتاهية الفضل بن الربيع فقيل له إنه ذاهب الى الخليفة الأمين، وكان توقع ذلك وتهيأ له فأخرج من كمه نعلاً مطرزاً بهذين البيتين:

نعل بعثت بها لتلبسها ـ قدم بها تمشي الى المجد

لو كان يصلح أن أشرِّكها ـ خدي جعلت شراكها خدي

وأودى لممدوح برذون فانبرى رهط من الشعراء يرثونه، زاد عددهم عن ستة عشر، منهم أبو القاسم بن أبي العلاء:

عزاءً وإن كان المصاب جليلا ـ وصبراً وإن لم يغن عنك فتيلا

وخفف أبا عيسى عليك ولا تفض ـ دموعاً وإن كان البكاء جميلا

ففي كل اصْطبل أنين وزفرة ـ تردد فيه بكرة وأصيلا

ولو وفت الجرد الجياد حقوقه ـ لما رجّعت حتى الممات صهيلا

ولو أنصفته الخيل ما ذقن بعده ـ شعيراً ولا تبناً ومتن غليلا

وشعراء أدانوا الرياء، يقول الجواهري:

يا أم عوف وما كنا صيارفة ـ فيما نحب ولا كنا مرابينا

لم ندر سوق تِجَار في عواطفهم ـ وبائعين مودات وشارينا

لا نعرف الود الا أنه دنف ـ من الصبابة يعتاد المحبينا

فما نصابح الا من يماسينا ـ ولا نراوح الا من يغادينا

يا أم عوف سئمنا عيش حاضرة ـ ترب سقطين شريراً ومسكينا

وحش وإن روض الانسيُّ جامحها ـ قفر وإن ملئت ورداً ونسرينا

ويقسم ريكان إبراهيم أن الخسران يحيق بالشعراء المنافقين:

أقسم بالعصر

إن الشعراء لفي خُسْرِ

في الشعر ومن جيل كذابْ

جيل يحترف التنجيمَ

يجيد الرقص بدون ثيابْ

جيل يعرف هز البطن الشعري على الأبوابْ.

ولأمل دنقل:

قطر الندى.. يا خالْ

مهر بلا خيالْ

قطر الندى.. يا عينْ

أميرة الوجهينْ.

ويقول:

ملك أم كتابه؟

صاح بي صاحبي

وهو يلقي بدرهمه في الهواءْ

ثم يلقفه

(خارجين من الدرس كنا.. وحبر الطفولة فوق الرداءْ

والعصافير تمرق فوق البيوتِ

وتهبط فوق النخيل البعيدْ)

ملك أم كتابه؟

صاح بي فانتبهت ورفت ذبابه

حول عينين لامعتينِ

فقلت: الكتابه.. فتح اليد مبتسماً

كان وجه المليك السعيدْ

باسماً في مهابه

ملك أم كتابه؟

صحت فيه بدوري

فرفرف في مقلتيه الصبا والنجابه

وأجاب الملكْ

دون أن يتلعثم.. أو يرتبكْ

وفتحت يدي..

كان نقش الكتابه

بارزاً في صلابه

دارت الأرض دورتها حملتنا الشواديف من هدأة النهر

ألقت بنا في جداول أرض الغرابه

نتفرق بين حقول الأسى.. وحقول الصبابه

فطرتين التقينا على سلم القصرِ

ذات مساء وحيدْ

كنت فيه نديم الرشيدْ

بينما صاحبي يتولى الحجابه

ونرى فريقاً من الشعراء يبكي على رزقه أولاً، وفي آخر القائمة ليلاه، إن وجدت، لأن البكاء على ليلى مع الافلاس لا يجدي، ولهذه الأسباب الاقتصادية برزت مقولة وراء كل شاعر رصيد من المال لا ينضب مصدره، النفاق. وانطلق شعراء يؤكدون الحالة القائمة ويسوغونها، فإن أفلحوا أوغلوا فيما يفعلون من غير ما خجل وتنعموا بالأموال الزائلة، وإن فشلوا شكوا وبكوا وهجروا الشعر، وهذا ما فعله الغزي:

قالوا هجرت الشعر قلت ضرورة ـ باب الدواعي والبواعث مغلق

خلت الديار فلا كريم يرتجى ـ منه النوال ولا مليح يعشق

والشعراء كانوا يدركون واقع نفاقهم والمهانة التي يمرغون مواهبهم فيها، والبحتري، بالرغم من مكانته عند المتوكل والأعطيات التي اكتنزها، يقول:

فلا بورك الشعر من صنعة ـ ومن قيل فيه ومن قالهُ

هو الحظ ينقص مقداره ـ لمن وزن الحظ أو كالهُ

ولا عجب فحسان بن نمير جاء بقصيدة عصماء فأجيز على الشعر شعيراً:

يقولون لم أرخصت شعرك في الورى ـ فقلت لهم من عُدم أهل المكارم

أجازوا على الشعر الشعير وإنه ـ كثير إذا خلَّصته من بهائم

فهل يمكن أن تصبح الشعرية مهنة ووسيلة ارتزاق؟ وهل يستطيع الشاعر أن يحترف الشعر ويعيش منه وفيه؟ وهل الشعر رائج دوماً يقيت العيال ويدعم الجيوب؟ إن كان كذلك لمَ صارت ضالة الحطيئة الابتزاز بالهجاء؟ ولمَ أصبح أبو تمام كبير سعاة بريد الموصل؟ ولمَ طالب المتنبي بولاية؟ ولماذا ترك الشعراء مهنهم الحقيقية ولجأوا الى الشعر أو هجروا الشعر وعادوا الى ممارسة أعمالهم السابقة، يقول السري الرفاء، وهو رفاء:

وكانت الإبرة فيما مضى ـ صائنة وجهي وأشعاري

فأصبح الرزق بها ضيقاً ـ كأنه من ثقبها جاري

ولعلي بن الجهم موقف مغاير لكثير من الشعراء المنافقين حين يقيم موازنة بين الأدب والمال:

لو قيل لي تملك الدنيا بأجمعها ـ ولا تكون أديباً تحسن الأدبا

لقلت لا أبتغي هذا بذاك ولا ـ الى غيره مستدعياً أربا

لجلسةٌ معْ أديب في مذاكرة ـ أنفي بها الهم أو أستجلب الطربا

أشهى اليَّ من الدنيا وزخرفها ـ ومِلئها فضةً أو مِلئها ذهبا

وينفي شاعر هذا المنحى بصرامة:

فصاحة سحبان وخط ابن مقلة ـ وحكمة لقمان وزهد ابن أدهم

إذا جمعت في المرء والمرء مفلس ـ ونودي عليه لا يباع بدرهم

ويدين الأحيمر السعدي السؤال والاستعطاء:

وإني لأستحيي من الله أن أُرى ـ أجرر حبلاً ليس فيه بعير

وأن أسأل العبد اللئيم بعيره ـ وبعران ربي في البلاد كثير

ولشاعر باع كتبه ليطعم أطفاله وسبق في ذلك، بأكثر من ألف سنة، أدباء العراق وشعراءه المحدثين:

وما كان ظني أنني سأبيعها ـ ولو خلدتني في السجون ديوني

ولكن لضعف وافتقار وصبية ـ صغار عليهم تستهل شؤوني

وأبو الحسين الجزار، أحد شعراء القرن السابع الهجري، كان قصاباً فأصبح شاعراً ثم ما لبث أن عاد الى مهنته الأولى:

كيف لا أشكر القصابة ما عشت ـ حياتي وأهجر الآدابا

وبها صارت الكلاب ترجيني ـ وبالشعر كنت أرجو الكلابا

ولمهيار الديلمي:

ودلوني على رزق بعيدٍ ـ وإن هو قل، عن بذل السؤال

فلو قنن الجبال زحمن جنبي ـ وقعن أخف من منن الرجال

ويطالب شاعر أن نستر الفقر والفاقة:

كم فاقة مستورة بمروءة ـ وضرورة قد غطيت بتجملِ

ومن ابتسام تحته قلب شجٍ ـ قد خامرته لوعة ما تنجلي

ولكن رأس مفلسي بغداد عبد الباقي الأنصاري لا يعترف بذلك:

بغداد دار لأهل المال طيبة ـ وللمفاليس دار الضنك والضيق

ظللت حيران أمشي في أزقتها ـ كأنني مصحف في بيت زنديق

ويقول يوسف الصائغ:

ها أنا واقف

فوق أنقاض عمري

أقيس المسافة

بين غرفة نومي وقبري

وأهمسُ

وا أسفاهُ

لقد وهن العظمُ

واشتعل الرأسُ

واسودت الروحُ

من فرط ما اتسخت بالنفاق

سلام على هضبات الهوى

سلام على هضبات العراق