المديرة الجديدة للمتحف المصري: انتهى عصر التفكير التجاري في صناعة المتاحف في العالم وأصبحت مراكز إشعاع ثقافي

د. وفاء صديق لـ«الشرق الأوسط»: نعيد ترتيب عرض 160 ألف قطعة بالمتحف المصري حالياً ومنع التصوير نهائياً داخل المتحف

TT

على جدول أعمال الدكتورة وفاء صديق، المدير الجديد للمتحف المصري، أفكار وخطط تطوير حالية ومستقبلية ورؤى استراتيجية تصب جميعها في تحويل المتحف من مجرد متحف ـ وان كان يضم مجموعات من اهم اثار العالم ـ الى مركز اشعاع ثقافي وحضاري يعتمد على مخاطبة الفكر والروح والقلب. وأوضحت المديرة الجديدة، في حوار مع «الشرق الاوسط»، الكثير مما يشير الى نظرة غير تقليدية ستكون سمة بارزة من سمات ادائها مهمتها في احد أهم متاحف العالم الأثرية.

الواقع ان الدكتورة وفاء صديق ليست اول سيدة تتولى ادارة المتحف المصري، إذ تولّت الدكتورة ضياء الدين أبو غازي ـ شقيقة وزير الثقافة السابق بدر الدين ابو غازي ـ قبلها هذا المنصب بالاضافة الى موقعها كرئيس لقطاع المتاحف بالمجلس الاعلى للآثار، وكانت مسؤولة في الوقت نفسه عن كل متاحف مصر. وهنا توضح الدكتورة وفاء «اما انا فقد كنت مسؤولة عن مكتب الابحاث العلمية في المجلس الاعلى للآثار قبل 17 سنة عندما سافرت مع زوجي الى ألمانيا في رحلة دراسة وعمل خاصة به، وفي المانيا اكتشفت انهم رغم فقرهم النسبي في الآثار نجحوا في مجال طرق العرض المتحفي حتى صاروا نموذجا يحتذى في هذا العلم. وطوال سنوات وجودي في المانيا تفرغت للابحاث العلمية في مجال المتاحف وكانت رؤيتي وقناعتي هي انه لا بد من تغيير سياسة المتاحف تماماً من مجرد كونها اماكن للزيارة الى مراكز للاشعاع الثقافي. ولذا دارت ابحاثي المنشورة عالمياً حول طرق تقديم المعلومات الاثرية للزائر، وكيفية المحافظة على هذه المعروضات داخل المتحف، وتقريبها الى قلب الزائرين لنقول لهم ان ماضينا هو مستقبلنا».

* البداية

* وتتطرق الدكتورة وفاء صديق الى سيرتها الذاتية والمهنية قائلة «منذ بداية اطلاعي على ما هو حولي كنت أتمنى ان أكون صحافية لذلك التحقت بكلية الآداب في جامعة القاهرة. ولكن قبل ان أتقدم في العام الثاني لشعبة الصحافة سافرت في رحلة مع الكلية الى متحف الكرنك وحين شاهدت قاعة الأعمدة الكبرى هناك وعدت من الرحلة صار شكل كل من الاعمدة يطاردني في المنام واليقظة. وهكذا ذهبت للكلية وتقدمت الى شعبة الآثار وكنت اول بنت في الاسرة تدخل مثل هذا المجال وتذهب الى منطقة الهرم والمناطق النائية لعمل حفائر ثم تخرجت في الكلية وكان ترتيبي الثالثة على الدفعة. ومن ثم حصلت على منحة دراسية لدراسة الدكتوراه في النمسا، وكانت هذه فرصة جيدة للتعرف على متاحف عالمية في حجم المتحف المصري. فعلاً بقيت في النمسا 4 سنوات حتى حصلت على درجة الدكتوراه وعدت مرة اخرى لمصر مديرا للمكتب العلمي في المجلس الاعلى للآثار، واصدرت مجلة «عالم الاثار» عن المجلس وكانت مجلة شهرية ونجحت نجاحاً بلا حدود، الا انها توقفت لاسباب خارجة عن الارادة، وندرس حالياً إعادة اصدارها باسم اخر وبشكل متقدم وبتمويل من المجلس».

وعن المشاريع المستقبلية تشير المديرة الجديدة للمتحف المصري الى ان ثمة مشروعين في الطريق سيخففان من ازدحام مخازن المتحف بالآثار: الاول مشروع المتحف المصري الكبير والثاني متحف حضارة الفسطاط. ثم تقول «للاسف السياسة الحالية للمتحف المصري لدى النظر الى التقدم الحاصل عالمياً في صناعة المتاحف هي مجرد تجميع للآثار ولا يوجد اسلوب للعرض المتحفي. لذا ستكون اول المهام البحث عن افضل طرق للعرض المتحفي في المتحف المصري، وفي الوقت ذاته توفير اماكن وفرص للزوار لتأهيلهم قبل دخول المتحف، بالاضافة الى التوسع في ورشة التربية المتحفية للاطفال، وزيادة عدد اماكن تقديم الخدمات والهدايا في المتحف وجعلها على مستوى عالمي وراقٍ. كل هذا سيتوازى مع عملية نقل جزء كبير من الآثار الموجودة راهناً في مخازن المتحف وأقبيته».

وتتابع الدكتورة صديق كلامها قائلة «اثناء العمل للاحتفال بمئوية المتحف وجدت آثارا من اجمل القطع محفوظة في البدروم (الأقبية) اعتبر انها لا تصلح للعرض في القاعات الا ان البحث يدور اليوم حول عرض هذه القطع في المتحف ولكن قبل ذلك لابد من انتظار بدء عمل المتحفين الاخرين لكي تتوفر مساحات للعرض».

* الاستثمار المعرفي ...والمادي

* ولمحت الدكتورة صديق الى انه «انتهى عصر التفكير التجاري البحثي في التعامل مع المتحف وبدأت مصر تطوير العلم واستثماره معرفياً ومادياً ... لذا سأبدأ بمنع جميع أشكال التصوير داخل قاعات المتحف وصالاته تماماً، وستصبح ادارة المتحف صاحب الحق الوحيد في بيع كل متعلقات المتحف المقلدة أو المصورة أو الشرائح الملونة أو النماذج المصغرة للمتحف والمعروضات، وهذا نظام عالمي معمول به عالمياً. فالمتحف البريطاني ليس له رسم دخول اذ ان الدخول مجاني، ولكن دخله الضخم يتحقق من بيعه كل ما هو مستمد من محتويات المتحف. وفي رأيي ان مصر تعيش اليوم كارثة التحف الصينية المقلدة في الاسواق المصرية دون النظر لسمعة مصر وقيمة الاثار المصرية. وفي خطتي، بالتعاون مع المجلس الاعلى للآثار، انهاض الفن المصري القديم عبر مركز متخصص يضم مجموعة من فناني مصر العظام في مجالات النحت والفنون التطبيقية والجميلة للوصول بالمنتجات المقلدة المستمدة من التاريخ المصري الفرعوني الى جعلها تباع وتشترى حصراً برعاية المتحف المصري، خاصة ان عدد زوار المتحف العام الماضي من الاجانب بلغ مليونا و326 الف زائر من المصريين و316 الفا من الأجانب منهم 99 الفا طالب. وفي الطريق اطلاق اتفاقيتي تآخ مع متحف بوسطن في الولايات المتحدة والمتحف البريطاني، بالاضافة الى ان المتحف بصدد تأسيس جمعية اصدقاء المتحف المصري برئاسة الفنان نور الشريف».

من ناحية ثانية، أشارت صديق الى «ان الاثار المصرية سحرها الخاص، فالطفل في الخارج من سن 10 و 11 سنة يدرس في منهج التاريخ بالمدرسة ما لا يقل عن 60 % عن الحضارة المصرية، ثم تأتي باقي الحضارات. لذلك يتولد عند الطفل في هذا السن الانبهار والولع بالحضارة المصرية، وحقاً ترى ان كل طفل اجنبي يحلم بزيارة مصر. وشخصياً شاهدت طوال 17 سنة في الخارج اطفالا مهوسين بزيارة مصر لمشاهدة تاريخها القديم وآثارها، ولك ان تعرف انه ليست هناك حضارة في العالم بقي منها من آثار حتى الآن ما بقي من آثار الحضارة المصرية رغم ما تلتها من حضارات اخرى عدة».

* مطالبة

* اليوم تطالب الدكتورة وفاء صديق باعادة النظر في نظم تعليم طلاب الآثار والسياحة«... فالمستوى الحالي لعدد كبير منهم في حاجة الى تطوير واعادة نظر. وبالفعل أصدم من المستوى العلمي المتواضع لأوائل خريجي كلية الاثار وعوزهم لروح البحث واعتمادهم كلياً على حفظ المناهج. ولذلك أدعو وزارة التربية والتعليم للتعاون مع المتحف ومع المجلس الاعلى للآثار لتدريس التربية المتحفية بدءا بالمدارس الابتدائية والاعدادية وتعليمهم ان الحضارة القديمة ليست فقط تماثيل ومعابد وآثارا ولكن حياة كاملة وحضارة غير مسبوقة».

كما تبدي المدير الجديد للمتحف المصري الأسف لاعتماد العرض المتحفي في مصر على التجميع «... فنصف العدد الضخم الموجود من الآثار على الاقل موجود في مجموعات حسب ترتيبها التاريخي ومواضيعها في حين العالم كله يتجه حالياً في متاحفه الى التقليل من التجميع والاعتماد على الابراز ... ابراز أهم القطع، وان تكون في كل فترينة عرض قطعة تعطي معلومة تجعل الناظر يتفاعل معها، بالاضافة الى حدوث تغيير كامل اليوم في اعداد بطاقات الشرح الخاصة بالقطع في المتاحف العالمية الكبرى». أخيراً، لدى سؤالنا عن التغيير الذي حدث للحياة اليومية للدكتورة صديق بعد اسناد المنصب الجديد اليها، أجابت «لم تتغير طبيعية حياتي اليومية بعد المنصب، فما ازال ابدأ يومي الساعة 4 صباحاً بقراءة التقارير العلمية التي تحتاج الى تركيز ثم بعد ذلك اقوم بدور الأم حتى الساعة 9 صباحاً، وبعدها أصير مديرة للمتحف حتى الثالثة بعد الظهر. وفي اغلب الايام يمتد العمل حتى غروب الشمس بالمتحف، ثم بعد ذلك اعود الى منزلي لسماع الموسيقى الكلاسيكية وقراءة الروايات خاصة لنجيب محفوظ والطيب صالح. وللعلم منزلي متحف هو الاخر من حصيلة زياراتي لجميع دول العالم، ولدي نماذج لاشهر القطع الاثرية في العالم، ومشكلتي الوحيدة هي ان ابني الصغير سعيد جداً بأنني «امتلك» حالياً كل المتحف المصري ويريد ان ينقل موجوداته الى بيتنا حتى يشاهدها اصحابه في الخارج عندما يأتون لزيارته».