الملك عبد العزيز للأمير فيصل: الحل ان تكون مطالب أهل فلسطين أساسا للمفاوضات

TT

يثار بين الحين والآخر، لغط ونقاش حول الموقف العربي عموما، والموقف السعودي تحديدا، خلال مؤتمر المائدة المستديرة عام 1939م، وبدء مناقشة الحكومة البريطانية موضوع مستقبل فلسطين مع الوفود العربية واليهودية، استناداً إلى الوثائق البريطانية المحفوظة في أرشيف دار السجلات العامة في لندن.

الدكتور فهد بن عبد الله السماري، أمين عام دارة الملك عبد العزيز، يكشف بالوثائق حقيقة الموقف السعودي والعربي خلال تلك الاجتماعات، التي لم تكن لقاءات سرية كما ذكرت بعض الصحف، ولم يحضرها الأمير فيصل بن عبد العزيز، بل حضرها فؤاد حمزة، الذي زعمت هذه الصحف انه مندوب الملك، بينما تحدث حمزة في بداية هذه اللقاءات مع الوفد البريطاني فقط، وبصفته فلسطينيا حسب الوثيقة وباعتباره مراقبا مستقلا، وكانت مواقفه مشرفة، رفضها بشدة الوفد اليهودي، إذ اقترح تأسيس حكومة فلسطينية مؤقتة وتعيين وزراء عرب ويهود حسب تعداد السكان (وكان العرب أكثرية في ذلك الحين). وإثر هذه اللقاءات التي كانت تتم مع الوفد البريطاني، رفض اليهود مقترحات حمزة عقد مؤتمر المائدة المستديرة، والذي انتهى إلى الفشل بسبب رفض اليهود للمقترحات السعودية والعربية كافة. ويتضح من مراجعة ما دار في هذه اللقاءات، ان المملكة العربية السعودية كانت الدولة الرئيسة والعمود الفقري الذي عزز الموقف العربي ورفض المقترحات البريطانية لإعطاء اليهود الشرعية في أرض فلسطين. وقد أشارت الوثائق الخاصة بمؤتمر المائدة المستديرة، الى ان الوفد العربي رفض الجلوس مع الوفد اليهودي على طاولة واحدة، وعقدت الاجتماعات في قاعتين منفصلتين. أما رئيس الوفد السعودي، الأمير فيصل بن عبد العزيز، فقد أعلن عقب المؤتمر أن وعد بلفور غير ملزم للعرب على الإطلاق، وتأكد هذا الموقف في رسائل إلى أمين الريحاني بخط يده وفي تعليمات الملك عبد العزيز، التي نصّت على أن موقف المملكة هو تأمين مطالب أهل فلسطين، وأن أساس المفاوضات هو تأمين منع الهجرة اليهودية ومنع بيع الأراضي لليهود وتأمين استقلال فلسطين، ونص هذا الخطاب موجود في كتاب خير الدين الزركلي «شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز». وفيما يلي الورقة المدعمة بالوثائق التي كتبها الدكتور فهد بن عبد الله السماري.

يعد مؤتمر المائدة المستديرة، الذي عقد في لندن عام 1939، من الأحداث المهمة في تاريخ القضية الفلسطينية، حيث حاولت الحكومة البريطانية تقديم أحد حلولها الموالية للجانب اليهودي ووقف العرب موقفاً متشدداً تجاه مطالب الفلسطينيين في أراضيهم وحقوقهم. ورغم أن أحداث ذلك المؤتمر وما دار فيه، أصبح معلوما ونشرت عدة دراسات ومذكرات حوله، إلا أن ما ينشر في بعض وسائل الإعلام بشأن ذلك المؤتمر غير متفق مع حقيقة تلك الأحداث. فعلى سبيل المثال، نشرت صحيفة الأردن الأسبوعية، في يوم الأحد 5 نوفمبر (تشرين الثاني) 2000 في عددها رقم 229 (السنة السادسة)، خبراً حمل جزءاً من صورة لوثيقة بريطانية وبعنوان مثير جدا على الصفحة الأولى: «لقاءات سرية سعودية صهيونية في لندن». وجاء في هذا الخبر، أن «وزارة الخارجية البريطانية نشرت محاضر الاجتماعات السرية التي عقدت بتاريخ 7 مارس (آذار) 1939، بين رئيس الوزراء الإسرائيلي لاحقا دافيد بن غوريون، ووزير خارجيتها موشيه شرتوك، وحاييم وايزمان أول رئيس لدولة إسرائيل، مع مندوب الملك عبد العزيز آل سعود الشيخ فؤاد حمزة، بحضور اللورد هاليفاكس، وذلك للاعتراف بدولة إسرائيل حال قيامها». وقد جاء في الخبر، أن الوثيقة رقم 1875/263، ذكرت أن بعض المشاركين الآخرين هم: علي ماهر باشا، الذي أصبح رئيسا لوزراء مصر خلال حرب 1948، كما شارك فيها توفيق السويدي، الذي أصبح رئيسا لوزراء العراق خلال حرب 1948. وقد تم في هذا الاجتماع حسب ما ذكرته الصحيفة «الاتفاق على (عدم الممانعة) بقيام دولة حرة مستقلة في فلسطين للشعب اليهودي، كما وافقت الأطراف الثلاثة على الاعتراف بحقوق اليهود الكاملة غير المنقوصة وغير القابلة للتصرف وذلك بناء على إصرار بن غوريون على الشيخ فؤاد حمزة المبعوث الخاص للملك عبد العزيز آل سعود»، هذا هو النص الكامل للخبر الذي نشرته صحيفة الأردن الأسبوعية.

وفي مضمون الخبر، قالت الصحيفة إن وزارة الخارجية البريطانية نشرت محاضر الاجتماعات السرية التي عقدت بتاريخ 7 مارس (آذار) 1939. وهذا غير صحيح، لأن الوثيقة التي نشرتها الصحيفة هي تقرير محفوظ ضمن الوثائق البريطانية الأخرى في أرشيف دار السجلات العامة بلندن، وليست منشورة كما زعمت الصحيفة، وإنما هي متاحة للباحثين والمهتمين ضمن بقية الوثائق الأخرى في شتى الموضوعات. والوثيقة التي نشرت صحيفة الأردن الأسبوعية، جزءا من صفحتها الأولى، هي تقرير يتكون من ثماني صفحات محفوظة في أرشيف دار السجلات العامة في لندن تحت رقم (FO371/23228/E1875/6/31) ومتاحة للباحثين منذ فترة زمنية طويلة حسب نظام الأرشيف البريطاني، وليست جديدة أو منشورة حديثا كما يشير الخبر المنشور في الصحيفة المذكورة.

ويتضمن ذلك الخبر أيضا، مغالطات كثيرة، منها الزعم ان الاجتماع كان سريا، وأنه تم الاتفاق في ذلك الاجتماع على «عدم الممانعة» بقيام دولة حرة مستقلة في فلسطين للشعب اليهودي والاعتراف بحقوق اليهود الكاملة غير المنقوصة وغير قابلة للتصرف. وهذا غير صحيح، بمجرد الاطلاع على مضمون الوثيقة بشكل كامل الذي يثبت حقيقة الموقف السعودي بشكل خاص، والموقف العربي بشكل عام. فاللقاء الذي أشارت إليه الصحيفة، والذي عقد في 7 مارس (آذار) 1939، كان جزءا من لقاءات عديدة ضمن إطار اجتماعات مؤتمر المائدة المستديرة في لندن في قصر سنت جيمس، التي استمرت نحو ثمانية وثلاثين يوما خلال المدة من 7 فبراير (شباط) إلى 17 مارس (اذار) 1939. وشارك في ذلك الاجتماع كل من المملكة العربية السعودية والعراق وشرق الأردن ومصر واليمن ووفد من فلسطين، ولم يكن ذلك الاجتماع سريا، إنما كان اجتماعا غير رسمي تم عقده على هامش اللقاءات الرسمية لمؤتمر المائدة المستديرة وفق ما أشارت إليه الوثيقة. ويبدو أن عبارة «سري» التي توجد في أعلى الوثيقة البريطانية، أوحت للذي نشر الخبر أنها سرية ولم تنشر من قبل. والحقيقة هي أن عبارة «سري» تدون أصلا على هذه الوثائق للحد من استعمالها في الأقسام الأخرى في وقتها فقط، وإتاحتها عبر الأرشيف حال انتهاء المدة الزمنية التي تفرض على الوثائق، وهي ثلاثون عاما، دليل على انتهاء تلك السرية، إذ أصبحت معلنة للعموم.

كما أن ذلك اللقاء لم يكن هو الوحيد، إنما كان لقاء غير رسمي ضمن عدة لقاءات الهدف منها استجلاء الآراء من الطرفين العربي واليهودي من أجل قيام المسؤولين البريطانيين بإعداد مذكرة لحل المسألة الفلسطينية وتقديمها للوفدين بشكل يمكن مناقشته في الاجتماعات الرسمية في مؤتمر المائدة المستديرة.

تضمنت تلك الوثيقة تفاصيل ذلك الاجتماع غير الرسمي في 7 مارس (آذار) 1939، الذي كان يتناول أساسا مناقشة اقتراح الحكومة البريطانية بإنشاء دولة مستقلة في فلسطين يمثل فيها العرب واليهود حسب عدد السكان. ولتحقيق ذلك، اقترحت بريطانيا وجود فترة انتقالية حتى تتأسس الدولة المستقلة وينتهي الانتداب البريطاني. وهذا يخالف ما ذكرته الصحيفة من أن الاجتماع انتهى بعدم الممانعة بقيام دولة مستقلة في فلسطين للشعب اليهودي والاعتراف بالحقوق اليهودية الكاملة. والحقيقة ان الذي وقف ضد اقتراح بريطانيا هذا، هم اليهود، لأن تأسيس الدولة المستقلة في فلسطين سيكون لصالح العرب، لأنهم أكثر عدداً ولهم الأفضلية في السيطرة عليها. وما تضمنته الوثيقة من رصد لمجمل النقاش الذي تم في ذلك الاجتماع غير الرسمي، يدل على هذا، ولنستعرض محتوى التقرير الذي تضمنته تلك الوثيقة:

رفض وايزمان في بداية اللقاء أن يكون الاقتراح البريطاني بتأسيس دولة مستقلة في فلسطين أساسا للنقاش وأكد على ضرورة موافقة اليهود على تأسيس مثل هذه الدولة. وطرح بن غوريون رأيه المتمثل في ضرورة التركيز على اليهود في العالم وليس في فلسطين فقط. أما علي ماهر باشا (ممثل مصر في الاجتماع)، فلقد نبه إلى أن السكان العرب الأصليين يتمتعون بالحق في أرض فلسطين أكثر من اليهود الذين لا يشكلون سوى مجتمع صغير، ودعا اليهود إلى الاعتراف بالواقع والتركيز على التفاهم مع العرب من أجل تحقيق السلام والأمن لهم ولغيرهم. وأشار علي ماهر باشا إلى أن طلب اليهود في إقامة وطن قومي لهم في فلسطين ليس له جانب روحي، إنما قومي بحت، ويمكن لهم تحقيق ذلك في مكان آخر من العالم. ورد شرتوك (عضو الوفد اليهودي) على ما قاله علي ماهر باشا من حيث الجذور اليهودية المزعومة في فلسطين. وأكد بن غوريون على عدم تنازل اليهود عن حقوقهم في فلسطين. ورد وايزمان قائلا إنه يقدر مرئيات علي ماهر باشا وانه لم يتحقق له أن حضر مثل هذا الاجتماع مع مسؤولين عرب منذ لقائه بالأمير فيصل بن الحسين في عام 1918، وأنه يثمن أهمية مثل هذه المحادثات المباشرة. وأكد وايزمان على الحق اليهودي في فلسطين خلاف ما رآه علي ماهر وقدم دعوة له ولممثلي المملكة العربية السعودية والعراق لزيارة فلسطين والاطلاع على ما يقوم به اليهود هناك. ورفض علي ماهر باشا دعوة وايزمان وكرر مطالبته بأن يتوقف اليهود عن تحركهم لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين والحصول على ودّ العرب بالتفاهم معهم. وطرح بن غوريون اقتراحا بتأسيس دولة يهودية في كامل فلسطين الغربية تتحد فدراليا مع الدول العربية المجاورة حتى لا يشعر عرب فلسطين بأنهم تحت سيطرة يهودية.

وتحدث فؤاد حمزة، قائلا إنه رغم كونه فلسطينيا (حسب الوثيقة)، فإنه يحضر هذا الاجتماع باعتباره مراقباً مستقلاً، وأيّد ما رآه علي ماهر باشا وانتقد الجانب اليهودي، قائلا بأن اليهود لم يقدموا جهدا حقيقيا للتعاون مع العرب حتى الآن. واحتج وايزمان على ما قاله فؤاد حمزة، وذكره باتفاقه مع الأمير فيصل بن الحسين وما يقوم به اليهود في فلسطين من توظيف للعرب الفلسطينيين في مشروعاتهم ومستعمراتهم. وما يشير إليه وايزمان من لقائه بالأمير فيصل بن الحسين واتفاقه معه هو تلك الاتفاقية التي وقعاها معا في 3 يناير (كانون الثاني) 1919، والتي نشرت ترجمتها الكاملة في كتاب جورج انطونيوس «يقظة العرب» المنشور في عام 1962 بترجمة الدكتور ناصر الدين الأسد والدكتور إحسان عباس (الصفحات 592 ـ 599). ونصت تلك الاتفاقية التي وقعها وايزمان والأمير فيصل بن الحسين على تأسيس دولة يهودية وفقا لوعد بلفور المشؤوم وتشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين.

وتشير الوثيقة إلى أن السيد مكدونالد ركز على نقطة الالتقاء المحتملة بين الجانبين وهي تهدئة التحرك اليهودي نحو إنشاء وطن قومي لهم في فلسطين، إلا أن بن غوريون أكد على مضاعفة الهجرة اليهودية وعدم التهدئة. وهنا تدخل فؤاد حمزة متسائلا: كيف يتحقق السلام في ظل هذا التحرك؟، واعتبر اقتراح بن غوريون مساهمة غير جادة في مناقشة موضوع يحتاج إلى مواجهة الحقيقة والبحث عن حل للمشكلة. كما تحدث فؤاد حمزة قائلا: إنه من غير المتوقع أن يناقش العرب في فلسطين مجرد التروي في حجم الهجرة، ومطالبهم هي توقف الهجرة نهائيا.

وقال اللورد هاليفاكس بأن الانطباع الذي تولد لديه من استماعه لهذه المناقشات هو أن هناك أملا صغيرا محتملا للوصول إلى اتفاق لا يتضمن استسلاما لكلا الجانبين. واعتقد السيد مكدونالد ان المناقشات في هذا الاجتماع أظهرت وجود ربما %2 أو %3 أملاً للوصول إلى اتفاق وأنه من الفائدة الاستمرار في مثل هذه المحادثات.

هذا أبرز ما حدث في اجتماع يوم الثلاثاء 7 مارس (آذار) 1939، وفقا للوثيقة البريطانية المذكورة، فهل أشير إلى وجود اتفاق على عدم الممانعة بقيام دولة حرة مستقلة في فلسطين للشعب اليهودي والاعتراف بحقوق اليهود الكاملة غير المنقوصة.. يا للعجب. لقد استعرضنا المناقشات التي تضمنتها الوثيقة والتي دلت على صلابة الموقف العربي تجاه مزاعم اليهود في أرض فلسطين العربية وتجاه معنى السلام. كما لاحظنا موقف فؤاد حمزة، الذي أشار فيه إلى معارضة آراء اليهود والتأكيد على تحقيق السلام بمفهوم العرب وليس اليهود.

وهل نتجاهل ما عبّر عنه المسؤولون البريطانيون في نهاية ذلك الاجتماع، من تشكيكهم في إمكانية التوصل إلى اتفاق بين العرب واليهود. فلقد أعلن البريطانيون أنفسهم الذين قيّموا نتائج تلك المحادثات غير الرسمية حسب ما ورد في الوثيقة البريطانية ذاتها ان الأمل ضعيف جدا وتصل نسبته إلى %2 أو %3 من الأمل للوصول إلى اتفاق بين العرب واليهود في ضوء اقتراح الحكومة البريطانية بتأسيس دولة مستقلة في فلسطين. فالعرب رفضوا الهجرة وطالبوا بتحديد مدة الفترة الانتقالية، واليهود رفضوا تأسيس الدولة المستقلة وطالبوا بفتح الهجرة.

ولنرجع إلى الوثائق البريطانية الأخرى والمحفوظة في أرشيف دار السجلات العامة بلندن حول الاجتماع ذاته ونستعرض بقية الملف الذي يعكس حقيقة اجتماع يوم الثلاثاء 7 مارس (آذار)، وما نتج عنه. فالوثائق الأخرى تشير إلى عدم نجاح اجتماع 7 مارس (آذار)، مما جعل الحكومة البريطانية تقوم بعقد اجتماعات غير رسمية أخرى مع كل جانب على حدة محاولة منها لتقريب وجهات النظر، لكن دون جدوى.

ففي اليوم التالي لاجتماع 7 مارس (آذار)، عقدت الحكومة البريطانية اجتماعا غير رسمي آخر مع أعضاء الوفد العربي في يوم الأربعاء 8 مارس (آذار) في الساعة الرابعة والنصف مساء في قصر سنت جيمس، (التقرير الخاص بهذا الاجتماع محفوظ في أرشيف السجلات العامة بلندن في الوثيقة رقم FO371/23228/E1913/6/31). وسأل السيد مكدونالد في هذا الاجتماع سؤالا هو: هل سيقبل العرب في فلسطين تحديد الهجرة اليهودية في السنوات الخمس المقبلة بالشكل الذي يتفق عليه وبعد انتهاء مدة الخمس سنوات تتم مناقشة الهجرة مرة أخرى بين الأطراف المعنية؟، أجابه فؤاد حمزة بأنه من المستحيل إقناع عرب فلسطين بالاقتراح خاصة إذا كان المسؤولون البريطانيون غير مستعدين لتحقيق مطلب استقلال الفلسطينيين العرب. وقال حمزة بأن العرب في فلسطين ربما يقنعون بالموافقة على ثلاثين أو أربعين ألف مهاجر خلال تلك المدة شريطة أن يعطوا الضمان ضد الهجرة غير القانونية، وأن مطالبهم في الجانب القانوني تتحقق. ويقصد هنا بالجانب القانوني إعطاء الفلسطينيين دولتهم المستقلة في فلسطين وفق الدستور الذي يكفل للعرب كامل حقوقهم، وأيد توفيق السويدي رأي فؤاد حمزة.

وفي يوم الخميس 9 مارس (آذار) 1939، عقدت الحكومة البريطانية اجتماعا غير رسمي آخر مع أعضاء الوفد اليهودي في قصر سنت جيمس بلندن، (التقرير الخاص بهذا الاجتماع محفوظ بأرشيف دار السجلات العامة بلندن في الوثيقة رقم FO371/23228/E1874/6/31). ناقش الجانبان في هذا الاجتماع مسألة نشر التعليمات الرسمية المبلغة للقائد هوجارث في يناير 1918 بشأن الرد على احتجاج الشريف حسين على وعد بلفور. وأشار وايزمان إلى أن تلك التعليمات تنص على أن التقسيم كان هو الحل وعودة اليهود إلى فلسطين والاعتراف بالوضع السياسي والاقتصادي للعرب في فلسطين. وطالب وايزمان السيد مكدونالد بتحديد موقف الوفد البريطاني تجاه إنشاء الوطن القومي اليهودي في فلسطين والمحدد في نظام الانتداب، واعترض على الاقتراح البريطاني بتحديد الهجرة في الخمس السنوات الأولى واعتبر ذلك أمراً مفزعاً. وقال وايزمان إن الاجتماع غير الرسمي مع الوفد العربي في 7 مارس (آذار)، وما تحدث به علي ماهر باشا، لا يدل على حدوث تغيير لوجهة نظر الوفد العربي حول موضوع حق العرب في إيقاف الهجرة.

كما يتضمن ملف الوثائق البريطانية الخاصة بالموضوع ذاته، وثيقة أخرى تتعلق بالتقرير الخاص باللقاء الذي تم بين السيد مكدونالد وفؤاد حمزة في 3 مارس (آذار) 1939م، الذي تضمن نقاشا لعدد من المسائل المتعلقة بفلسطين، (الوثيقة محفوظة في أرشيف دار السجلات العامة بلندن في الوثيقة FO371/23228/E1759/6/31). وجاء في الوثيقة إصرار فؤاد حمزة على القول بأن بداية الحل للسلام في المنطقة يكمن في تأسيس الدولة الفلسطينية من خلال حكومة مؤقتة تبدأ في التحضير لذلك على أن تعطى الوزارات لوزراء فلسطينيين. وكان الاقتراح يتمثل في تعيين وزراء عرب ويهود وفق حجم السكان الموجودين في فلسطين آنذاك، الذي كان لصالح العرب، وتشرف عليه الحكومة البريطانية حتى يتأسس. وأوضح فؤاد حمزة، أنه قابل وايزمان بناء على دعوة من السيد جيمس روتشايلد، ووجد أن طريقة تفكير وايزمان في حل المشكلة بعيدة عن الواقع من حيث موضوع الهجرة وتأسيس اتحاد عربي، وشكك في إمكانية نجاح مؤتمر المائدة المستديرة إذا لم يؤخذ في الاعتبار واقع الفلسطينيين. وهذا ما حدث بالفعل، حيث لم يحقق المؤتمر أي نتائج أو حتى الأمل في الوصول إلى اتفاق بين الطرفين.

إذن الحقيقة هي أن مؤتمر المائدة المستديرة في لندن وبعد أسابيع عدة من الاجتماعات الرسمية وغير الرسمية بين الوفدين العربي واليهودي وممثلي الحكومة البريطانية المستضيفة، انتهى إلى الفشل وليس إلى الاتفاق على عدم الممانعة على تأسيس دولة للشعب اليهودي في فلسطين، كما ذكر الخبر المنشور في صحيفة الأردن الأسبوعية.

والحقيقة الأخرى، هي أن المملكة العربية السعودية، كانت الدولة الرئيسة والعمود الفقري الذي عزز الموقف العربي في تلك الاجتماعات ورفض المحاولات البريطانية لإعطاء اليهود الشرعية في أرض فلسطين. ولم يكن الموقف السعودي غامضاً أو سرياً على الإطلاق. فالأمير فيصل بن عبد العزيز رئيس الوفد السعودي، لم يشترك في المحادثات غير الرسمية التي تجمع اليهود والعرب على طاولة واحدة كما تشير إلى ذلك الوثائق البريطانية، إنما شارك فؤاد حمزة بصفته الشخصية، كما نص على ذلك بنفسه في ذلك الاجتماع غير الرسمي.

ولقد أشارت الوثائق الخاصة بهذا المؤتمر إلى أن الوفود العربية، رفضت الجلوس مع الوفد اليهودي على طاولة واحدة، مما جعل الحكومة البريطانية تعقد الاجتماعات الرسمية في قاعتين منفصلتين. كما لجأت الحكومة البريطانية إلى عقد بعض الاجتماعات غير الرسمية مع الوفدين بشكل مستقل واجتماع مشترك يضم بعض الأعضاء من الوفود العربية واليهودية، ولم يكن بينهم رئيس الوفد السعودي على الإطلاق.

والدليل المؤكد لوضوح الموقف السعودي وحقيقته المشرفة، هو قيام رئيس الوفد السعودي الأمير فيصل بن عبد العزيز، نائب الملك في الحجاز ووزير الخارجية آنذاك، بالأمر بترجمة الكلمات ومحاضر جلسات وتقارير اللجان في مؤتمر المائدة المستديرة المنعقد بلندن وطبعها باللغة العربية.

صدر هذا الكتاب بعنوان «مؤتمر فلسطين العربي البريطاني المنعقد في مدينة لندن في 18 ذي الحجة 1357هـ الموافق 7 فبراير 1939م» وذلك في عام 1359 ـ 1940، وقام بترجمته إبراهيم بن عبد القادر المازني وأشرف على طبعه خير الدين الزركلي. ويقع هذا الكتاب في طبعته العربية التي طبعت بأمر الأمير فيصل بن عبد العزيز في 391 صفحة. هذه هي حقيقة تلك الوثيقة البريطانية التي تعلن لنا عن موقف صلب تجاه مطالب اليهود ومطامعهم. هذه هي حقيقة موقف المملكة العربية السعودية الذي أعلن للعموم عن ما دار رسميا في اجتماعات لندن وما تحدث به العرب من مواقف قوية وملتزمة بدعم القضية الفلسطينية. ولقد أعلنت المملكة العربية السعودية بكل جلاء، عن موقفها تجاه الحل العادل لمسألة فلسطين في الكلمة التي ألقاها رئيس الوفد السعودي الأمير فيصل بن عبد العزيز في 14 فبراير (شباط) 1939، وجاء فيها أن قضية فلسطين هي قضية المسلمين جميعا، وأن وعد بلفور غير ملزم للعرب على الإطلاق، وعلى بريطانيا الوفاء بوعدها للعرب.

وفي رسالة من الأمير فيصل بن عبد العزيز، إلى أمين الريحاني في 3 مارس 1939، أثناء مشاركته في اجتماعات مؤتمر لندن هذا، أشار إلى الجهود المبذولة في دعم القضية الفلسطينية قائلا: «عزيزي الاستاذ أمين الريحاني بعد التحية.. قد تأخرت عليكم بجواب كتابكم وعذري في ذلك معلوم لديكم ولا شك فإننا منذ وصولنا إلى هنا لم نسترح مطلقا، فمن اجتماع إلى آخر ومن مقابلة إلى مقابلة ومن حفلة إلى حفلة أخرى، والآن قد وصلنا إلى النقطة الجوهرية في العمل وتروننا نواصل الليل بالنهار لإقناع الانجليز بعدالة ومطالب العرب، وان مصلحة الانجليز تقضي عليهم بالاتفاق مع العرب، وقد توفقنا حتى الآن إلى زحزحتهم عن موقفهم السلبي وحصلنا منهم على أسس جديدة متعلقة بالاستقلال وتحديد دور الانتقال وتحديد الهجرة نهائيا، واننا ما زلنا في أخذ ورد معهم للوصول إلى أشياء جديدة ونرجو أن نتوفق لنوال المقصود. فيصل آل سعود».

والحقيقة الأخرى من بين حقائق كثيرة جدا، هي أن الملك عبد العزيز أعطى الأمير فيصل بن عبد العزيز عندما قرر له رئاسة وفد المملكة العربية السعودية في مؤتمر المائدة المستديرة بلندن تعليمات مهمة للتعامل مع تلك الاجتماعات. قال الملك عبد العزيز للأمير فيصل بن عبد العزيز: «ليست لنا غاية خاصة في الشكل المقترح للحل غير تأمين مطالب أهل فلسطين وأن نجعل تلك المطالب كأساس لتلك المفاوضات، وكل مشروع إجمالي يحوي (أولا) تأمين منع الهجرة اليهودية، (ثانيا) يمنع بيع الأراضي لليهود، (ثالثا) تأمين استقلال فلسطين». هكذا وجه الملك عبد العزيز ابنه الأمير فيصل بأساس الموقف السعودي الذي يمكن أن يبني عليه مفاوضاته مع اخوانه العرب في لندن. وأكد الملك عبد العزيز في كلمته هذه للأمير فيصل سبب إيضاح هذا الموقف له قائلا: «وبالنظر لأن أبحاث المؤتمر قد تكون على عجلة وقد لا يكون هناك مجال لاستشارتنا في ما يعرض عليكم، والشيء الذي تخشون فوات المنفعة فيه أو دفع المضرة، فلا بأس أن تمضوا فيه إذا كان مطابقا لما ذكرناه لكم أعلاه». ويمكن الاطلاع على كامل نص خطاب الملك عبد العزيز هذا الموجه إلى الأمير فيصل في كتاب خير الدين الزركلي «شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز» الجزء 2 الصفحات 769 ـ 772 (بيروت: دار العلم للملايين، 1977).

تتفق تلك التوجيهات والمبادئ التي حددها الملك عبد العزيز للموقف السعودي تجاه دعم القضية الفلسطينية مع ما ورد في العديد من الرسائل التي بعث بها الملك عبد العزيز إلى رئيس الوزراء البريطاني «نيفيل تشمبرلين»، وإلى رئيسي الولايات المتحدة الأميركية «فرانكلين روزفلت» و«هاري ترومان» وغيرهم من المسؤولين والديبلوماسيين.

هذه هي حقيقة الموقف العربي في اجتماعات مؤتمر المائدة المستديرة في لندن، والذي يدل على موقف موحد تجاه المطامع الصهيونية ودعم المطالب والحقوق الفلسطينية. وجاء فشل ذلك المؤتمر بسبب صلابة الموقف العربي رغم الوسائل التي قامت بها الحكومة البريطانية من خلال عقد اجتماعات غير رسمية ومحاولة تقديم اقتراحات غير عادلة.

واللّه الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

* هذا الموضوع ينشر اليوم في جريدة «الأردن» الاسبوعية