جلس محمود عطية، 35 سنة، مدرس على أحد الكراسي القماشية الصغيرة التي تطبق وتستعمل على شاطئ البحر تحيط به زوجته وطفلاه الصغيران، ممسكا في يده بكيس ترمس، في حين كانت زوجته ترتشف زجاجة المياه الغازية بيدها، أما طفلاه فكانا يلعبان أمام أم وأب ينظران في مياه النيل الداكنة، مستمتعين بنسمة الهواء العليلة التي أنقذتهم من حرارة بيتهم الذي لا تتجاوز مساحته المائة متر، لم تكن هذه الأسرة المصرية هي الوحيدة في جلستها تلك على كوبري قصر النيل الشهير الذي يلجأ له المصريون هربا من غلاء أسعار المصايف، فمن يمر على هذا المعبر التاريخي في ليالي صيف القاهرة سيجد عشرات الأشخاص الذين يجلسون تلك الجلسة.
فعلى الرغم من انتشار كباري القاهرة على امتداد طولها وعرضها إلا أن كوبري قصر النيل التاريخي الذي يقترب عمره من قرن وربع القرن، سيظل واحدا من الكباري التي يشتاق من يمر عليه مرة للعودة للمرور عليه مرة أخرى، قد يكون ذلك بسبب جمال تصميمه والأسود الأربعة التي تحرسه من الجانبين، أو لأنه يتوسط قلب العاصمة ويطل على أشهر معالمها برج الجزيرة والأوبرا وجامعة الدول العربية والفنادق الكبرى وحديقة الأندلس الى جانب نهر النيل بالطبع.
وعندما قرر الخديو اسماعيل بناء كوبري قصر النيل ليكون بذلك أول معبر بين ضفتي النيل لم يكن يدرك أن معبره هذا سيتحول فيما بعد ليصبح مصيفا لفقراء القاهرة وغير القادرين على السفر والترحال الى الساحل الشمالي، أو أنه سيصبح مبكى وملتقى للعشاق الذين يكتفون بالنظر الى نهر النيل وفي يد كل منهم كيس «ترمس» هربا من التفكير في مشكلة كيفية اتمام الزواج التي قاربت في حلها، حل لوغاريتمات الرياضيات وكثيرا ما شهد الكوبري العديد من قصص الحب السعيدة والحزينة.
* قطعة من أوروبا:
* كان حلم الخديو اسماعيل أن يجعل مصر قطعة من أوروبا، ولهذا جاء تفكيره في إنشاء معبر من ميدان الاسماعيلية الذي حمل اسمه وهو ما يعرف الآن بميدان «التحرير» الى الضفة الأخرى من النيل، كان ذلك عام 1869، وافتتح الكوبري للمرور في العاشر من فبراير (شباط) عام 1872 بطول 406 أمتار وعرض 10 أمتار ونصف من بينها متران ونصف للرصيفين الجانبين، وقد كلف الخديو اسماعيل شركة فرنسية ببناء الكوبري ليربط بين القاهرة والجزيرة الواقعة على الضفة الأخرى من النيل، وتكلف انشاؤه 108 آلاف جنيه مصري، وكان مزودا بفتحتين ملاحيتين يتم المناورة بهما يدويا، كان طول كل منهما 32 مترا، وقد أسست دعائمه بالدبش المحاط بطبقة من الحجر الجيري الصلب، وتم تنفيذ أساساته بطريقة الهواء المضغوط، وصممت فتحاته لتحمل 40 طنا، فقد تم تصميمه لحمل عربات متتابعة وزن كل منها 6 أطنان، أو أن يحمل حملا موزعا مقداره 400 كيلو متر مربع، وكان المنشأ العلوي للكوبري عبارة عن جمالونين تربطهما كمرات عرضية ترتكز عليها أرضية الطريق، وكانت الفتحات الملاحية تدار يدويا بواسطة تروس بسيطة.
أما أول تجربة تحميل للكوبري فقد تمت من خلال تمرير طوبجية مدفعية راكبة مكونة من 6 مدافع مع ذخيرتها، مرت أولا بالخطوة المعتادة ثم مرت مرة أخرى بخطوة سريعة، ثم قسمت قسمين مرا سويا من دون أن يحدث للكوبري أي اهتزاز.
في 4 فبراير عام 1931 وبعد 60 عاما من انشائه قام الملك فؤاد الأول بتجديد كوبري قصر النيل وأطلق عليه اسم كوبري الخديو اسماعيل إحياء لذكرى والده وراعى في تجديده الناحية الفنية والجمالية ليناسب أهمية موقعه فأصبحت عند كل من مدخليه منارتان من حجر الجرانيت على رأس كل منها مصباح، وأمامها واحد من الأسود الأربعة التي كانت قائمة على مدخلي الكوبري القديمة احتفظ بها لتكون أثرا يدل على صاحب المشروع الخديو اسماعيل، وعند نهاية الكوبري شرفتان جميلتان تطلان على شاطئ النيل.
وقد اشترطت مواصفات دهانات الكوبري أن تدهن جميع الأجزاء المعدنية بأربع طبقات، والطبقة الأولى من السلاقون، وتدهن بالمصنع، والثانية تدهن في موقع العمل قبل التركيب والثالثة والرابعة من بوية تقرها المصلحة والمعمل الكيماوي على أن تكون الطبقتان من لونين مختلفين ليتمكن المهندس المشرف على صيانة الكوبري مستقبلا من معرفة حالة الدهان ودرجة تأثره بالمتغيرات الجوية والزمن وخلافه.
وقد سمي الكوبري بهذا الاسم لمجاورته لقصر نازلي هانم (الذي بناه محمد علي لابنته على ساحل النيل) وقد هدمه سعيد باشا فيما بعد، ليبني محله قشلاق قصر النيل لاقامة العساكر به.
* رسوم العبور
* ويشير بعض المؤرخين الى رسوم كان يدفعها كل من يعبر الكوبري القديم من البشر أو الدواب كانت تستخدم في صيانة الكوبري فضلا عن رد بعض تكاليف الانشاء، فقد فرض على (الجمل المحمل) قرشين رسم عبور، والفارغ قرشا واحدا، والخيول والبغال المحملة قرشا و15 بارة لكل واحدة وعربات الكارو المحملة 3 قروش والفارغة قرشا وكل واحدة من الغنم والماعز 10 بارات، أما الرجال والنساء فيدفع كل فرد 100 بارة وعربات الركوب قرشين محملة والفارغة قرشا واحدا مع إعفاء الأطفال حتى سن 6 سنوات، وتضمن المرسوم الملكي أيضا فرض رسوم عبور على النعام الصغير والكبير والغزال والكلاب والخنزير والحلوف والضبع والدب ويسدد كل منها 10 فضة.
اختلف إذن كثيرا كوبري قصر النيل منذ ذلك الوقت حتى الآن فلم تعد الغزلان والكلاب والنعام تمر ولا حتى عربات الكارو، بل أصبح الكوبري ملجأ حقيقيا للأسر المصرية من حر الصيف، ومهربا لالتماس نسمة هواء رقيقة من حر الصيف، كما تحول الى ملتقى لأولاد وبنات يلتمسون خطواتهم الأولى في عالم الحب، ويخطون بأقلام رصاص، وفلوماستر على أسوار الكوبري كلمات عن الحب والفراق والذكريات.
فقط سيقفون جميعا منتعشين ساكتين حينما تعبر عوامة من أسفل الكوبري تحفها الأضواء ويحيط بها الهدوء، وينبعث منها صوت هادئ رخيم محاط بنغمات عذبة مقبلة من ذلك الزمن الجميل، ستلتقي عيونهم جميعا على تلك العوامة وآذانهم تنصت مشدوهة لذلك الصوت الرخيم «امتى الزمان يسمح ياجميل، وأقعد معاك على شط النيل».