السلام المفقود (15) ـ روس: كلمة واحدة..لم يفهم معناها الفلسطينيون.. فنسفت كل شيء

عرفات قال لكلينتون هذه أفكار أعدّها دنيس روس مع باراك فقال له: تبّاً لقد عملتها أنا وإذا كنت لا تريدها فلن تصل إلى ما يدانيها

TT

اقترح الرئيس الأميركي بيل كلينتون أن يردّ عليه الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات مباشرة أو أن يرسل ردّه من خلال جمال مع أية أسئلة. الرئيس وجمال قدما عرفات إلى الخارج. وكانا متفائلين. وصف الرئيس الاجتماع قائلاً إنّه عندما عرض الأفكار في البداية على عرفات، كان ردّه الأوليّ بأن قال، «هذه أفكار أعدّها دنيس روس مع باراك». وردّ الرئيس بقوله، «تبّاً، لقد عملت جاهداً للتوصّل إلى هذه الأفكار، وإذا كنت لا تريدها فلن تصل إلى ما يدانيها». ثمّ مزح الرئيس بأنّه عمل كثيراً للوصول إلى فكرة الوصيّ، وكان جمال عاطفيّاً في محاولة تسويقها بقوله، «إنّني مستعدّ لتوقيعها بنفسي».

وحل بنا اليوم التاسع لم يوقظني أحد حتى الساعة السابعة والنصف صباحاً، كلّمني بروس قائلاً إنّ الرئيس (كلينتون) سيلتقي بعرفات في التاسعة، وسنعقد جلسة اطلاع مسبقة بعد نحو نصف ساعة. وأبلغني بروس أيضاً أنّ الأمور لم تمضِ بشكل جيّد أثناء الليل. وأوجز بأنّ الفلسطينيّين ردّوا في البداية على جمال بعدد من الأسئلة، بما في ذلك ما هو معنى الوصاية على الحرم، ولمن ستكون السيادة؟ وبما أنّ الفلسطينيّين ستكون لهم السيادة على 85 في المائة من حدودهم مع الأردن، هل ستكون السيطرة أو السيادة لإسرائيل على الـ 15 في المائة المتبقّية؟ وما معنى حلاً مرضياً لمشكلة اللاجئين. ولماذا ستحصل سبعة أو ثمانية فقط من الأحياء الخارجيّة على السيادة لا التسعة جميعاً؟ وماذا حلّ بالتبادل حجماً وقيمة بالإشارة إلى ضمّ 9 في المائة ومقايضة 1 في المائة؟ وعاد جمال بالأجوبة بعد أن عمل هو وروب وساندي عليها. ثمّ عاد الفلسطينيّون وقالوا بما أنّ الرئيس كلينتون بحاجة إلى الذهاب إلى آسيا، علينا أن نأخذ استراحة لمدّة أسبوعين يتشاور خلالها عرفات مع القادة العرب. وقاد ساندي ردّ المجموعة بأنّه لن تكون هناك استراحة، ونحن بحاجة إلى جواب على الأفكار الأميركيّة: هل تشكّل أساساً لإبرام اتفاق، نعم أم لا. وجاء الجواب «لا».

ذهلت لأنّني لم أوقظ. ولم توقظ مادلين أيضاً. اتصلت بوزيرة الخارجيّة لأبلغها ما حدث لكي تعلم قبل الذهاب إلى الاجتماع مع الرئيس. وقد غضبت بشدّة. فعدم إيقاظها أغضبها، أما عدم إيقاظي فقد جعلها متشكّكة. كيف يمكنهم وضع أجوبة من دون الرجوع إليك؟ ولم يكن لديّ ردّ.

كنت غاضباً، لكنّني كنت متفلسفاً أيضاً. لم أكن أعرف إذا ما كانت ردودي ستحدث فرقاً، وبخاصّة لأنّني أعرف أنّ باراك بعد أن ذهب إلى حدّ بعيد، يمكن أن يسحب كل شيء عن الطاولة إذا اعتقد أنّ الفلسطينيّين يأخذون الحدود الدنيا ويحاولون الحصول على المزيد منه. ومع ذلك كنت أعتقد أنّ بعض الأسئلة مثيرة للاهتمام، حتى بالصيغة التي طرحها بروس. فنظراً لمعرفتي بأنّ الفلسطينيّين سيرتابون بأنّ أي شيء نقدّمه لا بدّ أن يكون قد حصل على موافقة باراك، ولعلمي بأنّهم يريدون وضع بصمتهم على هذه الأفكار، فقد توقّعت أن تكون الأسئلة تكتيكاً من جانب البعض في وفد عرفات في محاولة للوصول إلى «نعم» أو على الأقل إعطاء شيء غير الردّ السلبيّ. فالأسئلة، مثل هل ستكون السيادة أو السيطرة لإسرائيل على الـ 15 في المائة من الحدود مع الأردن التي لن تكون فلسطينيّة، أو لماذا لا تصبح الأحياء الخارجيّة للقدس كلها تحت السيادة الفلسطينيّة، توفّر أساساً للبحث مع الفلسطينيّين. لكن علينا أن نستكشف إذا ما كانت مقاربة ذكيّة لجعل عرفات يمسك بالأفكار كأساس. سنقول إنّ لدى الفلسطينيّين أسئلة وإنّنا نتعامل معها، لكنّنا لن نردّ عليه إلا عندما يقبل الفلسطينيّون هذه الأفكار كأساس للتسوية، غير أنّ احتمال اختبار معنى الأسئلة الفلسطينيّة قد فقد في الظاهر، من دون أن أغلق عليه الباب.

لكن لا حاجة بي لأن أغضب من أحد، فغضب وزيرة الخارجيّة يكفي كلينا. فقد انفجرت في وجه ساندي، الذي ردّ بأنّه افترض أنّ مشاركة جمال تعني أنّ وزيرة الخارجيّة وأنا سنبقى على اطلاع. وكان تفسير جمال بأنّ ساندي حدّد من سيكون مشاركاً وأنّه يريد العمل بسرعة من دون توسيع الدائرة. وقد اعتذر روب ببساطة قائلاً إنّه كان يعلم بأنّ ثمة مشكلة ستقع. في هذه اللحظة كنت أقل انشغالاً بأنّني استثنيت من المشاركة وأكثر قلقاً على بقاء القمّة. غير أنّنا وصلنا إلى هنا، وقد رفض الفلسطينيون حزمة الأفكار كأساس للاتفاق. سألت عندما احتشدنا للاجتماع إذا كانوا قد فهمواّ أنّ أساساً لا تعني أنّ عليهم قبول كل شيء. وقال جمال إنّه أمضى كثيراً من الوقت وهو يشرح ما تعنيه كلمة أساس، ومع ذلك رفضوا.

* يوم أن فاجأنا عرفات بالقول غاضبا: ليست مطالبي فحسب بل مطالب إندونيسيا وباكستان وماليزيا

* اليوم التاسع التفت الرئيس إلي، باحثاً عن كلمات يمكن أن تحرك عرفات الآن. قلت يجب أن يعرف عرفات الآن أنك تشعر بأن باراك كان مستعدا للذهاب بعيدا وأنه لم يكن كذلك. لقد وعدته بأنك لن تلوم أحدا إذا لم تنجح القمة، لكن ذلك كان على أساس الافتراض بأن الجانبين سيبذلان جهودا صادقة. ولا يمكنك القول إن عرفات فعل ذلك. وبناء على ذلك، إذا انتهت القمة الآن، فسيتعين عليك أن تضع المسؤولية عليه علناً.

واقترحت أيضاً أن يبرز الرئيس نقطة شخصية ونقطة تاريخية أكبر. على الصعيد الشخصي، «أبلغه أنك فعلت من أجل عرفات أكثر مما فعل أي شخص آخر دوليا، وأنك ذهبت الآن إلى أبعد مما كنت تعتقد أنه ممكن لإنتاج اتفاق شريف للفلسطينيين. وأنك لن تبذل مزيدا من الجهود لصالحه».

وعلى الصعيد التاريخي، عليك أن تضع ما يحصل الآن في سياق أوسع حيث يرفض الفلسطينيون دائماً ما كان يجدر بهم أن يقبلوه: «أبلغ عرفات بأنه ليس هناك أي عضو واحد في وفده إلا ويعتقد بأن قول «لا» في سنة 1948 كان خطأ تاريخيا من قبل الفلسطينيين; لقد أبلغنا عرفات نفسه بأنه منع من قبل السوريين والسوفيات من قبول اتفاق كمب ديفيد الأصلي في سنة 1978 عندما كان هناك 5000 مستوطن في الضفة الغربية فقط وكان بوسع الفلسطينيين رفض وجود المزيد منهم; فلا تدع الجيل التالي من الفلسطينيين يندم على «لا» تاريخية أخرى تتركهم في حالة أسوأ بكثير». وختمت بالقول، سيدي الرئيس، أبلغ عرفات أنه في سنة 1948 «لم يكن بوسعك عمل شيء; وفي سنة 1978، منعت من التصرف; واليوم القرار عائد لك».

قال الرئيس إنه يدرك ما الذي سيفعله. واقترح ساندي أن تنضم وزيرة الخارجية إلى الاجتماع مع عرفات وأن أذهب أنا وهو لمقابلة باراك في هذه الأثناء لإطلاعه على ما حدث.

مع باراك تدفقت كل مشاعر اجتماعه مع كلينتون في الليلة الماضية: «لم يكن عرفات جادا قط، لم يكن شريكا البتة». وليس من الناحية السياسية في إسرائيل خيار سوى تشكيل حكومة وطنية، رغم أنه قد يكون ضعيفاً جدا لأنه سيتهم بتعريض البلد للخطر بتنازلاته. إذا لم يكن عرفات مستعدا لقبول أفكاره كأساس، فإن المواجهة محتومة.

وعندما استكشفت احتمال اتفاق محدود يتكون من اتفاق على الدولة فقط ثم التفاوض على ما تبقى من قضايا ـ الحدود والمستوطنات والأمن واللاجئين والقدس ـ باعتبارها متساوية من الناحية القانونية، كان باراك جازماً بقوله، «لا مجال لذلك». لا يمكنني حمله على النظر في بديل عن المواجهة أو إعطائي تفسيراً لسبب رفضه «دولة من أجل استمرار التفاوض على النتيجة».

أعدنا التجمع في أسبن وسمعنا عن اجتماع الرئيس بعرفات. لم يتزحزح عرفات، وأبلغني الرئيس أنه «عبّر ببساطة عن المقولة بشأن 1948 والآن». ولم يتفاجأ الرئيس برد فعل باراك، فكلينتون يشعر الآن بأن لدى باراك ما يبرر شعوره على هذا النحو. وقبل أن يقرر إنهاء القمة، رأى كلينتون أن علي الانضمام إلى مادلين وإجراء محاولة أخرى مع عرفات، إما لمعرفة إذا ما كان بوسعنا تحريكه بشأن أفكار الرئيس، وإما لحمله على قبول وضع اتفاق على كل القضايا وتأجيل القدس.

في كوخ عرفات، وقد انضم إليه صائب ونبيل أبي ردينة فقط، قال رئيس السلطة لا للخيارين. وفي أثناء إبلاغه أن عليه أن يجد طريقة ليقول نعم، قلت، «لنكن أكثر دقة. ماذا إذا تمكنا من وضع اتفاق بشأن كل شيء، بما في ذلك معظم قضايا القدس، ولكن أجلنا الحرم والمدينة القديمة فقط؟ هل تحتفظ بمواقفك بشأنهما، ولا تتخلى عن مطالبك ويمكن أن تتواصل المفاوضات؟».

قال لا ثانية; وعندما سألته ما الذي يخسره بهذه المقاربة، غضب قائلاً إنها ليست مطالبه فحسب، بل «مطالب إندونيسيا وباكستان وماليزيا»، قاطعته مادلين قائلة إنه «ينسف الأمر»، وإنه لم يفعل شيئاً هنا للوصول إلى اتفاق. انفعل عرفات كثيراً، وسألها إذا كانت تحب أن تسير في جنازته، ماذا عن رسالة الضمان التي أرسلتها بشأن الحرم في شرم الشيخ؟ لم تلتزمي بضماناتك. لم يكن ذلك استنتاجاً منطقياً، لكنه كان غاضباً الآن وكذلك كانت وزيرة الخارجية.

حاول صائب التدخل، قائلاً إنه قد تحقق تقدم كبير، «فلنواصل التفاوض. إننا بحاجة إلى مزيد من الوقت. فيتوجه دنيس إلى المنطقة لمدة أسبوعين». فقالت مادلين، لقد اكتفينا بألاعيبكم، وخرجت غاضبة.

تبعت مادلين إلى خارج الغرفة لكنني لم أغادر الكوخ. جاء صائب إلي وناشدني عدم التخلي عن الأمر. وفي نبرة أسف، لا غضب، أوضحت أن الرئيس قد ذهب إلى أبعد ما يستطيع; فإذا لم يكن الفلسطينيون مستعدين لقبول ما عرضه الرئيس كأساس، يمكنهم فقط إنقاذ القمة بإثارة بعض الأفكار الجديدة مع الإسرائيليين مباشرة. وبدون ذلك، «ينتهي العمل».

* آخر المحاولات مع الحرم.. سيادة فوق الأرض للفلسطينيين وتحتها للإسرائيليين

* لم أكن أحاول التلاعب بصائب. كانت القمّة توشك على الانهيار. لقد بذل الرئيس أفضل ما بوسعه، وكذلك فعل باراك الآن. وقال عرفات لا لكل شيء. وناشدت صائباً إنقاذ الوضع بعرض فكرة جديدة يمكن أن تقنع باراك ـ أو الذين حوله على الأقل ـ بأنّ كل شيء لم يذهب هباء.

سأل صائب، ماذا لو أصبحت الأحياء الداخليّة مناطق (أ)؟ ولكي أسبر أغوار تفكيره، سألته لماذا يجد الإسرائيليّون ذلك أمراً مثيراً للاهتمام؟ وأجاب لأنّ ذلك يعني الآن أن نحصل على «الولاية القانونيّة لا السيادة». فاقترحت أن يجرّب ذلك مع الإسرائيليّين. استمع ثمّ سأل إذا كان لديّ أي فكرة أخرى. أجبته، الكرة في ملعبكم يا صائب، وليس في ملعبنا. لن يقبل الرئيس أي أفكار ما لم تصدر منكم. أومأ برأسه، لكنّه سأل ثانية، «هل لديك أفكار أخرى»؟ كان صائب مثلي يبحث عن أي احتمال. لذا أبلغته، لمَ لا تحاول ما يلي بالنسبة للحرم والأحياء الداخليّة. بالنسبة للحرم، يحصل الفلسطينيّون على السيادة فوق الأرض، وتكون السيادة تحت الأرض للإسرائيليّين; أنتم تحتاجون إلى السيادة على السطح، وهم بحاجة إليها تحت الأرض حيث كان الهيكل. وبالنسبة للأحياء الداخليّة، لماذا لا يكون هناك استفتاء لتحديد الوضع بعد عشر أو خمس عشرة سنة. بهذه الطريقة يستطيع الإسرائيليّون القول إنّهم حافظوا على السيادة، ومع ذلك يستطيع الفلسطينيّون أن يشعروا بأنّهم سيحصلون عليها في نهاية المطاف. وقلت إنّ كلاً من هاتين الفكرتين يمكن أن تلبّي الاحتياجات الأساسيّة للجانبين، لكّني أطرحهما عليك كطرق محتملة للخروج من المأزق; لا تقدّمهما على أنّهما من أفكاري، لقد نفد صبر الرئيس وهو غير مستعدّ لأن نعرض مزيداً من الأفكار.

استمع صائب لكنّه لم يردّ، وتركته وغادرت إلى أسبن. كان الرئيس ) كلينتون) جالساً حول الطاولة مع ساندي ومادلين وجون بودستا. وصفت حواري مع صائب، وذكرت فكرته بالنسبة للأحياء الداخليّة وأشرت إلى أنّ ذلك يبيّن أنّ لدى الفلسطينيّين بعض الأفكار.

لم أكن مستعدّاً للاستسلام. فاستشهدت بكلمات الرئيس إلى أبو علاء في وقت سابق من هذا الأسبوع، «لنقنع أنفسنا بأنّنا فعلنا كل ما يمكننا عمله»، واقترحت بأن يستقبل الرئيس واحداً من كل جانب ليرى إذا كان يمكن وضع أفكار جديدة على الطاولة يمكن أن تنقل إلى باراك، وبعدها يجمع الرئيس باراك وعرفات معاً. كانت مادلين الوحيدة التي دعمت ذلك لشعورها بعدم وجوب إنهاء القمّة من دون أن يعقد الزعيمان اجتماعاً جوهريّاً جادّاً.

قال الرئيس إنّ ذلك معقول، لكنّه يريد أولاً أن يجري اتصالات بالرئيس مبارك، ووليّ عهد المملكة العربيّة السعوديّة الأمير عبد الله، والملك عبد الله عاهل الأردن، والرئيس التونسيّ بن علي. وكان يأمل أن يؤثّروا على عرفات. ونظراً لحساسيّة باراك من كشف ما كان مستعدّاً للقبول به، لم يكن الرئيس سيطلعهم على الأفكار التي قدّمها إلى عرفات. بدلاً من ذلك، كان سيطلب منهم الضغط على عرفات لتأجيل القدس ومحاولة حلّ كل شيء آخر. وفي حين كنت أشكّ في نجاح ذلك، كان ساندي يعتقد أنّها الطريقة الوحيدة لإنقاذ القمّة.

أمضينا الساعات التالية جالسين في أسبن بانتظار إجراء المكالمات. وفي حين قال كل القادة العرب إنّهم سينظرون فيما يمكن أن يفعلوه، وحدهما الملك عبد الله والرئيس بن علي كانا راغبين في المساعدة بالفعل. وقال كل منهما إنّه سيتصل بعرفات ويحثّه على قبول التأجيل. وأبلغ بن علي الرئيس بأنّ عرفات خائف جدّاً من اتخاذ قرار وأنّه قد يكون بحاجة إلى مزيد من الوقت. في الواقع، بدا الوفد الفلسطينيّ شديد اليأس والخوف في هذه المرحلة، يريدون منّا أن ننقذهم لكنّهم غير قادرين على فعل أي شيء من تلقاء أنفسهم. وكانت الفكرتان اللتان أعطيتهما إلى صائب حبلي نجاة لم يتمسّكا بهما.

ذهب يوسي غينوسار إلى كوخ عرفات ووجده جالساً بمفرده، مشلولاً ويائساً. أبلغت ذلك إلى الرئيس، وتقرّر أن يذهب الرئيس لمقابلة عرفات وأن يجري محاولة أخيرة ليرى إذا كان سيقبل خيار التأجيل. وقد قابله لكنّه لم يصل إلى أي نتيجة ، بل إنّه سمع هذه المرّة خرافة فظيعة جديدة، «لم يكن هيكل سليمان في القدس، بل في نابلس». كان عرفات يتحدّى جوهر العقيدة اليهوديّة ويسعى إلى إنكار أي مطلب لإسرائيل في المدينة القديمة.

قرّرنا أن يتحدّث الرئيس إلى باراك لثنيه عن جعل المواجهة المسار المحتوم. فهناك بالطبع خيار بين السلام الكامل ومسار المواجهة الحتميّ. سمعنا أنّ باراك توجّه إلى لوريل لتناول الطعام، فتوجّهت أنا ووزيرة الخارجيّة إلى هناك. وقد جلستْ مع باراك وبدأت العمل عليه، وحثّته على استمرار العمليّة وعدم إيصالها إلى نهاية صداميّة. وبعد ذلك وصل الرئيس وجلس بمفرده مع باراك أكثر من نصف ساعة (أبلغنا الرئيس لاحقاً أنّه قال لباراك: «أنت أذكى مني، أنت متمرّس في الحرب، وأنا غير متمرّس فيها. غير أنّني أكثر خبرة منك في السياسة وهناك أشياء كثيرة تعلّمتها. وأهمّها ألا تحشر خصومك وألا تحشر نفسك; اترك دائماً لنفسك مخرجاً. لا تحبس نفسك في خيار خاسر»).

فيما كان الرئيس مجتمعاً بباراك، جاءني حسن عصفور بشكوى واقتراح. أولاً أبلغني حسن بما كنت أتوقّعه: «لقد ارتكبتم خطأ كبيراً بعدم أخذ أسئلتنا بشأن ما قدّمه الرئيس إلى عرفات». كان عليكم أن تتناقشوا معنا بشأن الحدود وعدد أحياء القدس التي تحصل على السيادة وأفكاركم بشأن اللاجئين. «إنّنا نعرف أنّ هذه أفكار إسرائيليّة وكانت تلك طريقتنا في التعامل معها. إنّكم تعرفوننا فلماذا لم تفهموا ذلك»؟ وعندما لم أردّ، تابع قائلاً، حسناً، لم تلتقطوا طريقتنا الأوليّة في التعامل مع الأفكار، إليك طريقة أخرى لعمل ذلك: ليتعامل المجتمع الدوليّ مع مسألة السيادة على الحرم/جبل الهيكل وتعاملوا مع بقيّة الأفكار كأساس.

في حين أنّ ذلك قريب من خيار التأجيل، لكنّه في الواقع أكثر إثارة للاهتمام. فهو يحافظ على الحزمة بأكملها لكنّه يدوّل السيادة على قضيّة الحرم/جبل الهيكل الحسّاسة. كنت أعرف أنّ باراك قد يقاوم ذلك على أساس أنّه لا يعطيه ما يريد بشأن جبل الهيكل، لكنّه يقدّم تنازلات أساسيّة في كل شيء آخر. ومع ذلك، كانت طريقة خلاقة لنزع فتيل أصعب القضايا. أبلغت حسناً بأنني سأنظر فيما يمكنني أن أفعل.

أبلغت الرئيس عن حواري بعد أن فرغ من الحديث مع باراك. ووافق أن أحاول جسّ نبض باراك بشأنه، وقد فعلت. لم يعجب باراك بذلك كما كنت أتوقّع، فهو غير مستعدّ لأن يسلّم بكل شيء آخر إذا لم يحصل على السيادة الاسميّة على جبل الهيكل على الأقل. ومع ذلك قال إنّه سيفكّر في الأمر.

بعد قليل من حوارنا، اتصل بالرئيس واقترح، وكما اكتشفنا لاحقاً، المقاربة التالية: يبقى الجانبان في كمب ديفيد فيما يتوجّه الرئيس إلى قمّة الدول الثماني. وتجرى مباحثات ثنائيّة بين الجانبين إلى أن توضع الصيغة المطلوبة; وعندما يتمّ التوصّل إليها، يتمّ التباحث الرسميّ ثانية على أن تكون أفكار الرئيس هي الأساس. وافق الرئيس على ذلك وقال إنّه سيعرضه على عرفات.

جرت المكالمة فيما كنت لا أزال في كوخ باراك أتحدّث إلى أمنون وعوديد. لم يكن أي منّا يعرف أنّ ذلك ما سيحدث، لكنّهما أبلغاني بأنّ الوفد بأكمله تقريباً يعملون على باراك لكي يبقى يوماً آخر على الأقل. فلم يكن أحد يرغب في الإسراع نحو المواجهة.

جئت أبلغ عن هذا الحوار، وأطلع الرئيس فريقنا بعبارات عامّة على حديثه مع باراك. وقد حان الوقت لمقابلة عرفات، لكن أصرّ ساندي قبل أن نفعل ذلك على أنّنا بحاجة إلى تعهّد باراك بالبقاء طيلة مدّة غياب الرئيس ـ «ستكون كارثة إذا أمضى باراك الليل وغادر بعد رحيل الرئيس». ونزولاً عند إلحاح ساندي، اتصل الرئيس بباراك وقال إنّه يوشك على الذهاب لمقابلة عرفات لكنّه بحاجة إلى ضمانة من باراك بأنه سيبقى إلى حين عودة الرئيس، فوافق باراك.

قابل الرئيس عرفات وأبلغه بأنّه أقنع باراك بالبقاء لحين عودته من آسيا والسعي إلى مباحثات ثنائيّة إلى أن يتمّ التوصّل إلى صيغة بشأن الحرم. وقال الرئيس إنّ الإسرائيليّين «سيتشدّدون» في كل شيء ما لم يتم التوصّل إلى الصيغة. وكانت تلك طريقة غير منضبطة لوصف ما اتفق عليه مع باراك، لكنّها كانت متوافقة مع الطريقة التي وصف بها حواره معه.

لكن الرئيس في وصفه للحوار بهذه الطريقة لم يشر للأسف إلى «أفكاره» ـ ما قدّمه إلى عرفات ورفضه الفلسطينيّون ـ على أنّها أساس كل شيء سوى الحرم. كنت حاضراً أثناء الاجتماع مع عرفات لكنّني لم أجد سبباً لصقل ما قاله الرئيس. غير أنّ الارتياح الفلسطينيّ بدا واضحاً لأنّ القمّة لن تنتهي.

* ما قبل احتضار القمة.. نعمان مقيدتان

* اليوم الثالث عشر كان من المقرر أن يعود الرئيس كلينتون في المساء الباكر، فبدأت نهاري بالتركيز على كيفيّة تقديم تحسينات على أفكارنا. كنت أعرف من شلومو وآخرين في الفريق الإسرائيلي أن بوسعهم اجتياز «الميل الإضافي» إذا كان لديهم «الذخيرة» التي تبرر القيام بذلك. ومفتاح ذلك الحصول على «نعم» كافية من عرفات للرجوع إلى باراك والقول إننا عدنا إلى العمل.

كان جورج تنيت قد قابل عرفات وشعر بأنه حصل على نعم مقيدة منه بشأن أفكار الرئيس. لكن عندما وصف ما قاله عرفات، كان بوسعي أن أرى «التقييد» لكنني وجدت صعوبة في رؤية «النعم». قال عرفات نعم شريطة حصوله على الحي الأرمني في المدينة القديمة والتجاور والسيادة في كل الأحياء الداخلية. ومن المؤكد أن يفسر باراك ذلك على أنه «لا».

لكن باراك بدّل عندئذ الإشارات. فقد طلب مقابلة مادلين وأنا معها، وأبلغنا أنه وجد بعد كثير من التأمل أن عليه التراجع. فقد شعر أنه لا يستطيع تنفيذ ما اقترحه الرئيس من قبل. بإمكانه منح المزيد بشأن السيادة على الأحياء الداخلية، لكنه لا يستطيع أن يمنح أي شيء سوى نظام خاص للمدينة القديمة. بعبارة أخرى، السيادة خارج أسوار المدينة المقدسة ممكنة، وغير ممكنة داخل الأسوار.(كل الإشارات للأحياء، والمدينة هنا المقصود بها القدس.. الإيضاح من الشرق الأوسط).

فجأة أصبح لدينا «نعمان» كبيرتان مقيدتان، وما من سبيل سهل للتوفيق بينهما. هل نعترف بالفشل أم نحاول ضرباً آخر من الإجراءات؟ قررت انتقاء الخيار الأخير واقترحت أن يرسل كل جانب مفاوضاً أو اثنين للقاء الرئيس مع تفاهم بأن يأتوا بدون الخطوط الحمر وخطاباتها ليستعرضوا كل قضية. وستسمح لنا هذه المقاربة بلورة الاختلافات الجوهرية وتحديد طريق للتوافق في كل قضية، ووضع كل قائد في موقف تقرير إذا ما كان يقبل أفكار جسر الهوة التي يطرحها الرئيس.

عندما اقترحنا هذه المقاربة على كل قائد، حتى قبل مجيء الرئيس ـ وافق الاثنان بدون تردد. كان مزاج باراك قد تحسن كثيراً، وأوحى لي بأنه فكر الآن ملياً في كل شيء وأنه مرتاح إلى موقفه الجديد.

أطلعنا الرئيس على ما حصل عند عودته، وأعجب بفكرة جلوسه مع مفاوض أو اثنين من كل جانب ومراجعة القضايا واحدة بعد أخرى. لم نتدخل بقوة في المناقشات الأمنية إلى أن جاء جورج إلى كمب ديفيد. فقررنا البدء بالأمن معتقدين أننا قد نحقق تقدماً ونبني بعض الزخم.