«شارع فلسطين» بجدة يبدأ بسوق الأغنام ويمر بقنصلية أميركا ويغرق في ساحل البحر الأحمر

TT

أعاد الحادث الإرهابي الذي استهدف مبنى القنصلية الأميركية في جدة صباح اول من امس، شارع فلسطين الى ذاكرة السكان، بعد ان كانوا يتحاشون المرور في الجزء الغربي منه، اذ كان مبنى القنصلية على ناصية الشارع المتقاطع مع شارع الأندلس.

وكان كثير من السكان يعتبرون ان شارع فلسطين قسم المدينة الى نسيجين متباينين: جزء شمالي تلاحظ فيه ملامح الترف الفاحش الذي جاء عقب الطفرة السعودية في بداية الثمانينات من القرن الماضي، وجزء جنوبي تشاهد فيه ذيول الفقر المدقع الذي خلفته تلك الطفرة أيضا.

ومنذ أكثر من عقدين من الزمن، وشارع فلسطين يسكن ذاكرة السعوديين كواجهة للقادمين من خارج المدينة، كونه شارع التناقضات والخدمات وقصص العشق التي سطرتها روايات وأشعار كثيرة احتلت مكانها في الادب الحجازي، خاصة أن حي الرويس الذي يوازي الشارع لاكثر من 3 كيلومترات جنوبا كان حي الفنانين الاوائل في السعودية في فترة الستينات والسبعينات من أمثال الفنانين عبدالله محمد وفوزي محسون وغيرهما من الشعراء والملحنين الذين كانت لهم صالونات فنية أيامها كامتداد طبيعي لحالة الشجن الذي شهد في هذا الحي ولادة أكثر الاغاني التي تسكن ذاكرة الحجازيين: «نسيتنا واحنا في جدة» التي كتبتها ثريا قابل، وهي أول شاعرة سعودية تظهر اعلاميا في الوقت الذي مازال الشعر النسائي حتى اليوم «تهمة» تطارد أية شاعرة سعودية.

ويتناقض شارع فلسطين بشكل كبير عندما يقارن الشخص بين مدخله الشرقي حيث «سوق الاغنام المركزي» التابع لامانة مدينة جدة ونهاية الشارع الغربية حيث «نافورة جدة» أحد أشهر المعالم السياحية في جدة والتي تعد واحدة من أعلى نوافير المياه في العالم ويصل مستوى ضخ الماء فيها الى أعلى من 260 مترا في مشهد مازال يحرك بوصلة الرومانسية في قلوب العشاق دائما الى كورنيش الحمراء حيث تتوسط النافورة هي الاخرى قلب الكورنيش الذي كان بداية عهد جديد للسعوديين للتعامل بمفهوم سياحي مع ساحل البحر، تتوافر عليه مختلف الخدمات من باعة الآيس كريم حتى عربات الخيول، على أن تسمية الكورنيش بالحمراء لها مدلولها التأثري الواضح بشارع الحمراء الشهير في لبنان الذي كان مقصد السياح السعوديين في تلك الفترة ومازال.

وتعود التناقضات لترسم نفسها في الشارع الذي شهد ولادة العديد من المطاعم الاميركية والفنادق الاجنبية في السعودية، التي افتتحت اولى فروعها على جوانبه حينما كان يعد أفخم شوارع جدة قبل أن تمتد المدينة شمالا بشكل سريع فاق تصورات خبراء التخطيط آنذاك. وقد استقبل السعوديون وقتها تلك المطاعم بترحاب كبير، كونها ساهمت في احداث طفرة اقتصادية واجتماعية وثقافية في السلوك الاجتماعي اليومي للناس، الا أن تلك الاماكن بعد 11 سبتمبر (ايلول) 2001 فقدت الكثير من شعبيتها وأصبحت تتصدر قوائم «توب تن» الخاصة بمقاطعة البضائع الاجنبية.

وشارع فلسطين نفسه، الذي شيد عليه أكبر مركز تجاري في الثمانينات على مستوى الشرق الاوسط (كلفت «ردميات» التراب في المركز فقط اكثر من 200 مليون ريال لقربه من ساحل البحر الاحمر غربا)، هو نفسه الذي باتت الكثير من المشاريع التجارية عليه تعيد ترتيب نفسها من جديد في محاولات لإعادة مرتاديها اليها، وهو الذي يستحوذ حاليا على نصيب «الاسد» من كعكة الشقق المفروشة في جدة وسوق «الجوالات» حيث تصطف به ثلاث أسواق كبيرة يقصدها معظم سكان جدة، بالاضافة الى «السوق السوداء» حيث الجوالات المسروقة وشرائح «سوا» وجوالات «الكاميرا» التي تفسحها الجمارك السعودية وتحظرها الهيئات الدينية، وربما هناك أشياء أخرى يتم تداولها عطفا على حالة الثراء التي تطرأ على بعض متعاملي هذا السوق في فترات وجيزة، كما يقول بعض أصحاب المحلات المجاورة.

شارع فلسطين الممتد طوله 15 كيلومتراً، ينطق بلغة خاصة لا يستوعبها الاسفلت بقدر ما تستوعبها كتب التاريخ، وهو شارع ناطق فعلا لأن أوله «ثغاء» يصدر من حناجر قطعان الماعز والخرفان التي تساق يوميا الى سوق الاغنام المركزي وآخره «ماء» يلامس «جزر ومد» الشاطئ تحت أقدام القادمين لارتشاف لحظات فارهة بالأوكسجين في مدينة مكتظة بالناس والزحام ووجوه الغرباء.