في عام 1989 لفت المخرج الإيطالي جيوسيبي تورناتور الأنظار إليه حينما قدم تحفته السينمائية «سينما باراديسو» والتي قدم فيها تحيته الخاصة المفعمة بالحب والاعتزاز لهذه السينما الجميلة. وكان الفيلم قد حصل على عدد كبير من الجوائز العالمية وأفضل فيلم أجنبي في الأوسكار والغولدن غلوب والبافتا وغيرها.
ومؤخرا يعيد هذه التحية السينمائية اثنان من المخرجين العرب عبر فيلمي «صندوق عجب» للتونسي رضا الباهي، و«بحب السيما» المصري لأسامة فوزي، اللذين تم عرضهما للمرة الأولى في الخليج عبر مهرجان دبي السينمائي الدولي الذي اختتم فعالياته السبت الماضي. ما يجمع الحديث عن هذين الفيلمين هو القاسم المشترك والكبير بين عدد من محاور قصتيهما.. فهناك طفل متعلق بالسينما يدفعه إليها ويحببه فيها خاله، بينما يواجهه في المقابل تعنت الأب وممانعته من تعلق هذا الطفل الصغير بسحر السينما.. كما أنهما فيلمان يعكسان شيئا من السيرة الذاتية للمخرجين وإن كانت المعالجة قد اختلفت في ما بين الفيلمين كما هي طريقة السرد والتي تظهر في «صندوق عجب» بشكل أكثر عمقا وتعقيدا.
في الفيلم المصري «بحب السيما» للمخرج أسامة فوزي، وهو الفيلم الثالث له بعد «عفاريت الإسفلت» و«جنة الشياطين»، وسيناريو هاني فوزي يقدم قصة متناثرة تحاول أن تقول كل شيء بأقل ما يمكن أن يقال من عرض لصور التعنت الديني والتسلط الاجتماعي إلى القمع السياسي وانتهاء بقضية فلسفية مهمة تتعلق بعلاقة الإنسان بربه ما بين الخوف والمحبة. وكانت المشكلة الأكبر هي أن تكون الكوميديا ولا شيء غيرها هي الوعاء الطاغي لعرض كل القضايا لدرجة التهمت فيها مشاهد التهريج بناء مسار درامي مؤثر حقا رغم اللحظات الإنسانية الجميلة التي امتلكها الفيلم.
وبحسب ما صرحت به بطلة الفيلم الفنانة ليلى علوي، حين عرض الفيلم، من أنه كان معدا منذ سنوات إلا أن الخوف هو ما أخر إنتاجه إلى هذا الوقت.. وربما كان الخوف هنا منطقيا نوعا ما، حينما نرى تلك الضجة الكبيرة التي أثارها الفيلم في المجتمع المصري والأقباط خاصة، حتى وصلت إلى أروقة المحاكم وردود الفعل المتباينة من المشاهدين ما بين ساخط ومعجب. وكان مهرجان القاهرة السينمائي قد رفض عرض الفيلم بدعوى ضعفه فنيا وكونه يتناول قضية الوحدة الوطنية بشكل سطحي لا يتناسب مع طبيعة المهرجان الدولية.
الفيلم أشبه بسيرة ذاتية للمخرج نفسه تدخلت في أحداثها طبيعة العمل الدرامي، حيث يعود الفيلم إلى فترة الستينات وفي حي شبرا لنراقب مسيرة الطفل نعيم (يوسف عثمان) في عشقه للسينما، وهو من يروي ذكريات الأحداث ويعرف بشخصياتها عبر صوت الممثل شريف منير.
يعيش الطفل نعيم في ظل عائلة مسيحية يتحكم فيها أب طيب ومحب (محمود حميدة)، لكنه متزمت دينيا، يمارس الإرهاب على أولاده وتخويفهم كل يوم لاعتقاده بأنهم بطريقتهم المتحررة هذه سيدخلون النار، ولذا فهو يرى السينما والتلفزيون والغناء والرقص والرسم أمورا محرمة يجب اجتنابها. وتشاركه الحياة زوجته العاملة (ليلى علوي)، التي تخفي ألمها من كبت موهبتها وانطلاقها وتظهر الكثير من التذمر من طريقة تصرف زوجها مع الأبناء. ونحن نراقب محاولات الطفل نعيم، الذي يتمتع بذكاء وشقاوة كبيرة في إشباع رغبته وعشقه للسينما التي عرفها من خلال خاله سنجد اننا أمام صراعات الأب مع نفسهم ومحاولته لتفسير علاقته مع ربه، وصراعات الأم مع نفسها ورغبتها في العودة لارتشاف قدر أكبر من لذة الحياة وممارسة هوايتها في الرسم، خاصة بعد تعرفها على مشرف مادة التربية الفنية. ثم هناك الأخت (منة شلبي) واهتماماتها الغرامية، والخال الطامح في دخول كلية الفنون، وأخيرا جدة مقعدة وأخرى تجيد إطلاق كل قواميس الشتم والردح الشعبي.
والحقيقة أن التركيبة بهذا الشكل ليست جديدة على السينما المصرية، فهي تقليدية لحد كبير، وهو ما يشكل، برأيي، تشتتا لا يخدم بناء القصة دراميا بقدرما يعطي مساحة أكبر من افيهات الكوميديا والتهريج، وهو ما يملكه الفيلم بشكل كبير. لكننا يجب أن نعترف بأنه حينما نذكر أهم أفلام السينما المصرية مؤخرا، فإن هذا الفيلم سيكون من بينها حتما.
أما الفيلم الآخر فهو الفيلم التونسي «صندوق عجب"» للمخرج رضا الباهي، الذي كان سابقا قد حصل على موافقة الممثل الكبير مارلون براندو ليشارك في فيلمه «براندو براندو» قبل أن يلغى المشروع بعد وفاة براندو، وكان قد أخرج مجموعة من الأعمال المهمة مثل «شمس الضباع» و«الملائكة» و«السنونو لا تموت في القدس» و«الذاكرة الموشومة». وكان فيلم «صندوق عجب» قد حصل على جائزة الصقر الذهبي لمهرجان الفيلم العربي في روتردام في دورته الثالثة، كما حصل على جائزة لجنة التحكيم الخاصة في أيام قرطاج، واختير أيضا للمشاركة الرسمية في مهرجان فينيسيا.
الفيلم من سيناريو رضا الباهي أيضا وتمثيل هشام رستم وماريان بسلار والفنان لطفي بوشناق، الذي وضع موسيقى الفيلم أيضا.
في هذا الفيلم يروي رضا الباهي قصة هي الأخرى أشبه بسيرة ذاتية عن حياة رؤوف مخرج أربعيني يعمل على كتابة نص يفصح عن علاقته بالسينما منذ الطفولة وسط جو عائلي متوتر بسبب زوجته الفرنسية التي ترغب في العودة إلى فرنسا ومغادرة تونس. وهنا كان على المخرج أن ينتقل بنا بين زمني الفيلم عند رؤوف، مخرجا ورجلا طامحا، وفي الستينات أيضا عند رؤوف ذاك الطفل القيرواني الذي عشق السينما منذ أن كان يجلس بجانب خاله في عربة يطوف بها المدينة للإعلان عن الأفلام المعروضة وكيف كان تعلقه بشخصية زورو الأسطورية والتي يختزل من خلالها تعلقه بسحر السينما وأجوائها، والطفل رؤوف هو الآخر كما هو نعيم في «بحب السيما» يواجه معارضة متعنتة من أبيه (لطفي بوشناق) في هذا الشغف السينمائي الذي زرعه فيه خاله كما فعل خال نعيم أيضا.. وبطبيعة الحال فإن هذا الجزء الذي يعيد فيه رضا الباهي ذكريات المخرج رؤوف أو لنقل ذكرياته هو نفسه، كان هو الأكثر إثارة للمشاهد حينما يسجل ذكرى تلك الفترة الستينية من تونس بكل تقاليدها وطبيعة أعرافها بل وحياتها الاجتماعية كشيء تقليدي نشاهده كثيرا في أفلام المغرب العربي (كما هو مشهد الختان أو دار الدعارة).
الفيلم هنا رغم مزجه بروح فانتازية مثل تمثل غناء رؤوف الطفل بصوت عبد الحليم، وكذا نهاية الفيلم المفتوحة على أكثر من تفسير، إلا أنه يبدو أكثر تماسكا من فيلم «بحب السيما» والأفضل على مستوى التعبير البصري، كما أنه كان ذكيا في بناء خطين دراميين بشكل متواز. كما أن رضا الباهي في هذا الفيلم يبدو أكثر قربا من أجواء الفيلم الإيطالي «سينما باراديسو»، وأكثر اعترافا بذلك كما في مشهد الفتاة التي يلتقيها المخرج رؤوف في إحدى المناسبات فيحدثها عن مشروعه السينمائي فتقول إنه فيلم «سينما بارديسو اذا.
في الأخير فأن مثل هذه الأفلام التي تقدم احتفاءها الخاص وتحيتها للسينما بكل سحرها وجمالها هي ظاهرة جديدة على مستوى السينما العربية وبالتالي فهي مشوقة أيضا وتدفع محبي السينما لانتظارها دائما.