رفيق الحريري بدأ رجل أعمال عصاميا من عائلة غير سياسية واستقطب الزعامة السنية في لبنان ووظف رصيده في إعادة إعماره

TT

نجح رفيق الحريري، رجل الأعمال الثري، في أن يحقق انجازاً عجز عنه كل الساسة السنة في لبنان المستقل منذ رئيس حكومة الاستقلال الأولى رياض الصلح: احتكار الزعامة الفعلية للمسلمين السنة في البلاد. والمفارقة مع زعامة الحريري أنه لا يتحدر من بيت سياسة وزعامة عريق، بل نبع بروزه السياسي من عصاميته وحرصه على ان يساعد ثراؤه (تقدر ثروته الشخصية بأكثر من 4 مليارات دولار أميركي) في مسيرة النهوض والتنمية في لبنان الخارج من حرب أهلية مدمرة قتل فيها وفقد أكثر من 200 الف شخص.

* البداية

* ولد رفيق الحريري عام 1944 في عائلة مسلمة سنية من الطبقة من دون المتوسطة في مدينة صيدا عاصمة محافظة لبنان الجنوبي. والده بهاء الدين كان مزارعا. اشقاؤه شفيق، وهو حائز اجازة من كلية التجارة في جامعة بيروت العربية، وبهية، وهي نائبة في البرلمان اللبناني منذ 1992 . تلقى رفيق الحريري علومه الابتدائية في مدرسة فيصل الاول المجانية التابعة لجمعية المقاصد الخيرية الاسلامية والثانوية في ثانوية المقاصد في صيدا. ونال شهادة التوجيهية المصرية عام1964 . بدأ الحريري الشاب حياته المهنية قاطفاً للحمضيات (البرتقال والليمون) في بساتين صيدا ثم في قطاف التفاح في البقاع. ثم عمل مصحّحاً صحافياً في العاصمة اللبنانية بيروت. وفي بيروت التحق بكلية التجارة في جامعة بيروت العربية، وباشر العمل في ميدان المحاسبة للتكلف بنفقات تعليمه الجامعي. غير أنه وجد صعوبة في مواصلة مشواره الجامعي. وفي يوم من الأيام قرأ اعلاناً لوظيفة في المملكة العربية السعودية، وسافر الى المملكة، عام 1966، حيث عمل مدرّسا للرياضيات في «ليسيه جدة» لمدة سنتين، ثم عاد الى المحاسبة وتدقيق الحسابات على امتداد ست سنوات.

* الصعود المالي

* عام 1970 خطا الحريري خطواته الأولى في عالم الأعمال الحرة عندما أسس شركة صغيرة هي «سيكونيست». ثم حقق قفزة جبارة عام 1977 عندما قبل تحدياً لا يخلو من مجازفة عبر مشاركته مع شركة «أوجيه» الفرنسية للانشاءات في تشييد فندق فاخر بمدينة الطائف فرغ من تشييده خلال تسعة أشهر، بعدما جبنت شركات كبيرة عن النهوض بالمشروع. وبعدها دمج شركته الصغيرة «سيكونيست» بشركة «أوجيه» التي اشتراها وأطلق على الشركة المدمجة الجديدة اسم «سعودي أوجيه» التي تعد اليوم إحدى أكبر شركات المقاولات والانشاءات في العالم العربي، وقد امتلكها بالكامل عام 1979 . وبين المشاريع الانشائية الضخمة التي نفذتها الشركة: فندق «انتركونتيننتال» في مكة المكرمة، ومركز الشروق الحكومي في الظهران، ومجمّع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف في المدينة المنورة، والمركز الحكومي في الرياض (بتكلفة 3 مليارات ريال سعودي)، ومشروع «الفا» في الرياض الذي يضم مجلس الشورى والديوان الملكي، وفندق «المسرة» (انتركونتيننتال) في الطائف، والمدينة الحكومية في الدمام، وقصر الامويين في العاصمة السورية دمشق.

وبعد «سعودي أوجيه»، سرعان ما عزز الحريري نجاحاته ونمّى ثروته عبر استثماراته الناجحة في مختلف المجالات الاقتصادية بما فيها العقارات والقطاع المصرفي، داخل العالم العربي وخارجه، عبر الملكية التامة لمجموعة البحر المتوسط ـ التي تضم «بنك البحر المتوسط» و«البنك اللبناني السعودي» ـ وملكية بنسب متفاوتة لأسهم في بنوك عربية واوروبية منها «البنك العربي» و«اندوسويز»، واستثمارات موازية في القطاع المالي والاوراق المالية المصدرة في البورصات العالمية والعائدة لمؤسسات تعمل في حقول مختلفة. يضاف اليها استثمارات سياحية على غرار فنادق «شيراتون» في المملكة العربية السعودية، ثم الاستثمارات الاعلامية التي بدأت بتأسيس شبكة تلفزيون «المستقبل» وشراء «اذاعة الشرق» التي تبث من العاصمة الفرنسية باريس منذ عام 1981، وامتلاك امتياز مجلة «المستقبل» وجريدة «صوت العروبة» واصدار جريدة «المستقبل»، وامتلاك نسبة اسهم في دار «النهار» (باع حصته فيها لاحقاً). وبين الاستثمارات المعلنة الأخرى الاسهام بتأسيس الشركة العربية القابضة في سورية برأس مال قدره 100 مليون دولار بالاشتراك مع ثلاث مجموعات سعودية كبرى. وفي خط مواز للاعمال والاستثمارات، أطلق رفيق الحريري عام 1979 «مؤسسة الحريري»، وهي منظمة لا ربحية ساهمت في تعليم اكثر من 30 الف طالب لبناني في جامعات لبنان واوروبا واميركا، إضافة إلى تأمين خدمات صحية واجتماعية وثقافية. وجعلت المؤسسة لها مراكز في كل من بيروت وباريس وواشنطن.

* دخول عالم السياسة

* كان الحريري، وفق من عرفوه في شبابه، مثالاً للشاب المسلم الصيداوي المؤمن بشدة بالقومية العربية. ويؤكد بعض هؤلاء أنه ظل متحمساً لهذه الهوية رغم انغماسه في عالم المال والأعمال غير أنه صار أكثر «براغماتية»، وانفتح على تيارات عديدة في العديد من الدول العربية والأجنبية، وأنشأ شبكة علاقات وطيدة مع طيف واسع من رجال السياسة في عواصم القرار الدولي. وهذا بالذات ما أهله لدخول ساحة السياسة اللبنانية في مرحلة ما بعد الحرب من الباب الواسع وأن يشغل منصب رئاسة الحكومة للمرة الاولى في تاريخه. والواقع أن الظهور «السياسي» على ساحة الاحداث جاء عام 1982 من الباب الاقتصادي، عندما اطل متبرعاً ومغيثاً وواضعا امكاناته المالية وشبكة علاقاته الواسعة بتصرف الدولة اللبنانية، بالاضافة طبعاً الى استثماره بجيل الشباب الذي أنفق على تعليمه. وقد ساهمت أموال الحريري وطواقم مؤسساته في ازالة آثار الاجتياح الاسرائيلي للبنان الذي بلغ العاصمة بيروت. بعدها، عام 1983 نشط في مهام حوارية وتفاوضية مع القيادات والزعامات السياسية اللبنانية ساهمت في إخراج لبنان من نفق النزاع الأهلي المظلم. وفي العام التالي 1984 شارك في مؤتمري الحوار الوطني اللذين عقدا في مدينتي جنيف ولوزان بسويسرا وحضرهما أبرز ممثلي القوى السياسية والطائفية اللبنانية، وأطلق عدة مبادرات عملية لانهاء الحرب الأهلية اللبنانية المستمرة منذ 1975 . وأثمرت جهود الحريري عام 1989 في عقد «مؤتمر الطائف» بالمملكة العربية السعودية تحت رعاية المملكة، وهو المؤتمر الذي أبرم فيه «اتفاق الوفاق الوطني» وأنهى فعلياً ودستورياً الحرب اللبنانية نهائياً.

* في الواجهة السياسية

* وفي اكتوبر (تشرين الأول) من عام 1992 أولاه الزعماء والقادة اللبنانيون ثقتهم وكلفه رئيس الجمهورية ـ يومذاك ـ الرئيس الياس الهراوي بتشكيل أول حكومة يترأسها وكانت عملياً أول حكومة «وفاقية» في لبنان ما بعد الطائف. وفي العام نفسه انتخب نائباً في البرلمان عن بيروت واحتفظ بمقعده حتى اليوم. وألف الحريري حكومته الثانية في مايو (أيار) 1995. ثم بعد انتخابات سبتمبر (ايلول) 1996 التي فاز بها على رأس قائمته التي ضمت 13 مرشحاً في بيروت، ألف حكومته الثالثة في أكتوبر من العام نفسه. وفي عهد هذه الحكومة أجريت في لبنان أول انتخابات بلدية منذ عام 1963، كما أعيد افتتاح مطار بيروت الدولي الموسع الجديد عام 1998. ومما يذكر أن الحريري أطلق من خلال مشاركته غير المنقطعة في الحكم على امتداد 6 سنوات (بين 1992 و1998) أضخم عملية إعمار وبناء في تاريخ البلاد، من علاماتها البارزة إعادة إعمار وتأهيل وسط بيروت التجاري ومرافقها الحيوية الذي بدأ عام 1994 عبر شركة «سوليدير». كما أنشأ عام 1993 وزارة للمهجرين نشطت في تأمين عودة عشرات الآلاف من مهجري الحرب ومشرديه الى مدنهم وقراهم.

في نوفمبر (تشرين الثاني) 1998، وسط تنافر واضح بين الحريري ورئيس الجمهورية الجديد اميل لحود حول صلاحيات الرئيسين، ومن منهما الرأس الفعلي للسلطة التنفيذية، أحجم الحريري عن ترؤس الحكومة، فكلف لحود بتشكيلها رئيس الوزراء السابق سليم الحص المعروف بأنه من منتقدي الحريري وخصومه السياسيين في العاصمة اللبنانية.

أشرفت حكومة الحص على انتخابات نيابية عام 2000 شابتها حملات اعلامية حكومية منظمة ضد الحريري عبر عدد من السياسيين وأجهزة الاعلام الرسمية. الا أن هذا العداء من قبل الرئيس لحود والاستهداف المباشر للحريري أوجد حالة تعاطف اسلامية غير مسبوقة له في الشارع البيروتي كانت نتيجتها، في سبتمبر (أيلول) 2000 اكتساح قوائم الحريري الثلاث العاصمة مجدداً حاصدا المقاعد الـ18 المخصصة للمدينة، وسقوط الرئيس الحص نفسه في هذه الانتخابات. وكانت تلك أول حالة سقوط لرئيس وزراء في السلطة في انتخابات برلمانية في لبنان. وعلى الأثر، ونتيجة المشاورات النيابية اضطر الرئيس لحود، في اكتوبر لتكليف الحريري مجدداً بتشكيل حكومته الرابعة بعد ما سماه لرئاستها 103 نواب من أصل مجموع نواب البرلمان الـ128. ثم عاد الحريري فشكل حكومته الخامسة في ابريل (نيسان) 2003 بعدما رشحه للمنصب 93 نائباً (من الـ128)، الا ان علاقاته برئيس الجمهورية ظلت على حالها من السلبية.

* نهاية الطريق مع لحود...ودمشق

* وفي صيف عام 2004 اشتد التجاذب في الساحة السياسية، وازدادت الضغوط السورية لتعديل الدستور لكي يتسنى تمديد فترة حكم الرئيس لحود أمام تردد الحريري ومعارضة حليفه القوي الزعيم الاشتراكي الدرزي وليد جنبلاط، وكذلك الرفض المعلن من جانب الولايات المتحدة وفرنسا. وفي نهاية المطاف، وتجاوبا مع الضغوط السورية وافقت حكومة الحريري على التمديد. وفيما امتنع معظم اعضاء كتلته عن تأييد القرار لدى احالته في مجلس النواب، صوتت كتلة جنبلاط علناً ضد التمديد. وبعدها شعر الحريري أنه لم يعد قادرا على البقاء في الحكم في وجه تأييد دمشق الواضح للرئيس لحود فاستقال. وقاطع نواب كتلته ونواب حليفه جنبلاط الحكومة البديلة التي كلف لحود بتشكيلها رئيس الوزراء الأسبق عمر كرامي، أحد خصوم الحريري المزمنين. وجاء تشكيل الحكومة بمثابة اعلان حرب على حلف الحريري ـ جنبلاط، اذ ضمت عدداً من ألد خصومهما السياسيين إلى جانب حلفاء للحود وممثلين عن الأحزاب المؤيدة أو التابعة لدمشق.

غير أن هذا «السيناريو» ساهم في استحصال واشنطن وباريس على قرار من مجلس الأمن الدولي (رقم 1559) يطالب بانسحاب القوات السورية من لبنان وتجريد كل القوى غير الشرعية (بما فيها المقاومة اللبنانية) من أسلحتها وارسال الجيش اللبناني الى الجنوب. كذلك ساعد على تنامي صفوف المعارضة، اذ طوى جنبلاط صفحة عداوته القديمة مع قوى اليمين المسيحي، بما في ذلك جماعتا الجنرال ميشال عون قائد الجيش السابق المقيم في فرنسا، والقائد السابق لميليشيا «القوات اللبنانية» سمير جعجع السجين في مقر وزارة الدفاع اللبنانية بضواحي بيروت.

وبالتدريج أخذ نواب كتلة الحريري يعمّقون تنسيقهم مع تحالف جنبلاط والمعارضة المسيحية في وجه الرئيس لحود وداعميه من القوى المؤيدة لدمشق وعلى رأسها القوتان الشيعيتان الرئيسيتان «حزب الله» وحركة «أمل».

* وضعه الشخصي ـ متزوج مرتين. زوجته الثانية الحالية نازك عودة الحريري.

ـ تقدر ثروته وفق مسح مجلة «فوربز» الأميركية لأغنى أغنياء العالم بـ4.3 مليار دولار محتلاً بذلك المرتبة الـ108 بين أغنى الأغنياء لعام 2004 . ـ يحمل الجنسية السعودية منذ عام 1987 الى جانب جنسيته اللبنانية.

ـ تشغل شقيقته النائب بهية الحريري أحد المقعدين البرلمانيين لمدينة صيدا (مسقط رأسه) في البرلمان اللبناني، وهي حالياً رئيسة لجنة التربية في البرلمان.