قرع خبراء الشرطة الألمان نواقيس الحذر مع بدء العام الدراسي 2004 ـ 2005 بعد أن أذهلهم عدد الأقراص الموسيقية المدمجة المعبأة بموسيقى الكراهية الذي تسلل إلى المدارس في ذلك اليوم. وكشفت دوائر الأمن الألمانية في اليوم الأول للعام الدراسي عن خطط جديدة للمنظمات النازية الألمانية لاختراق المدارس وكسب التلاميذ عن طريق الرقص على الايقاعات العنصرية.
الأخطر في الأمر هو الكشف عن خطة مماثلة لغزو المدارس في اليوم الدراسي الأول في الولايات المتحدة والنمسا والسويد واستراليا ايضا. وإذ قدر كونراد ناومبورغ، من النيابة العامة في ولاية سكسونيا ـ انهالت بألمانيا، عدد الأقراص الموسيقية التي خططت المنظمات النازية لتوزيعها بـ 50 ألف اسطوانة في شرق ألمانيا فقط، قدر دانييل التر، من رابطة مناهضة تشويه السمعة الاميركيةAnti Defamation League ، عدد هذه الأقراص بنحو 100 ألف. وافتخر النازي الاميركي الجديد بايرون كالفيرت، 33 سنة، من أحد فرق «وايت نويز White noise»، بأنه يقف وراء هذه الحملة الرامية «لاصطياد الشباب بصنارة الموسيقى». وتثبت مثل هذه المخططات، التي تنفذ على المستوى الدولي بفضل الإنترنت، أن الخطر على المدارس لا يأتي فقط من تجار المخدرات والإرهابيين و«المختلين عقليا» الذي يقتحمون المدارس ويرشّون المعلمين والأطفال وذويهم عشوائيا بالطلقات. بل أصبح من الواضح أن هؤلاء «المشوشين» كانوا من أهم «أنصار» موسيقى الكراهية الداعية للعنف والقتل التي تحولت إلى موسيقى جنائزية ترتبط بالموت اكثر مما ترتبط بالحياة. وليس من قبيل الصدفة أن يكون منفذ مجزرة مدرسة مينيسوتا «المختل عقليا»، التي راح ضحيتها 10 تلاميذ، وهو جيف وايز (15 سنة)، معجبا بأغاني مارلين مانسون المحرضة على العنف، ومعجبا بأدولف هتلر، ومن رواد شبكة الإنترنت النازية الموسيقية وخصوصا الصفحة الإلكترونية الألمانية «توديس أنجل» (ملاك الموت).
ويكشف المخرج والكاتب الاميركي مايكل مور في فيلمه «بولنغ فور كولومباين» أن «ملاك الموت» الآخر الذي قتل معلما و 12 تلميذا في اعدادية كولومباين 1999 كان أيضا من المعجبين بأغاني مارلين مانسون، ومن المقربين للمنظمات العنصرية وهواة مشاهدة أفلام العنف.
ولا تختلف الصورة حينما ننتقل عبر الأطلسي لنتتبع الأحداث المماثلة في السويد وألمانيا والدنمارك وبريطانيا. كان المتهمون الأربعة في حريق مولن بألمانيا، الذي أودى بحياة خمس تركيات، من النازيين الجدد الذين دأبوا على حضور حفلات «الروك النازية»، ويستمعون إلى موسيقى الفرقة المحظورة «بلود اند اونور» (الدم والشرف). وأكدت مصادر الشرطة السويدية، الى جانب العديد من الصحف الالمانية والسويدية المهمة، أن قاتل وزيرة الخارجية السويدية آنا ليند، واسمه بيراولاف سفنسون، هو أحد المقربين من الرؤوس النازية التي تتزعم حركة النازية الجديدة في السويد. وهذه المنظمات كانت موضع الشبهات في جرائم قتل هزت العالم وتمتد بين اغتيال رئيس الوزراء السويدي اولوف بالمة 1986 واغتيال النقابي السويدي البارز بيورن سودربيرغ برصاصة في الرأس 1990، اضافة الى سلسلة من جرائم القتل والتفجير التي استهدفت اليساريين والنقابيين والصحافيين والاجانب طوال السنوات الماضية. وتشن المنظمات النازية حملة دائمة لجمع التبرعات لتمويل ما تسميه «كفاح العرق الآري» من خلال عشرات فرق موسيقى البوب التي يديرها «حليقو الرؤوس» والتي تجمع المال بالملايين من خلال حفلات موسيقى الكراهية التي تقيمها في مختلف ارجاء اوروبا. وتلاحق الشرطة السويدية منذ سنتين مجموعات مصغرة من النازيين الجدد نفذت عدة عمليات سطو على البنوك بهدف تمويل موسيقى «الكفاح الآري».
تعيد البروفيسورة هيلين لو، من المجلس الوطني للوقاية ضد الجريمة في السويد، جذور موسيقى الكراهية اليمينية العنصرية إلى اصولها البريطانية المتغلغلة في عمق حركة اليساريين الفوضويين «البانك» The Punk في نهاية الستينات. وتعبر لو عن قناعتها بأن الحركات النازية السرية اكتشف في وقت مبكر أهمية الموسيقى في الترويج لدعايتها السامة.
ونبعت حركة «حليقو الرؤوس» من نفس خليط «الهوليغان» اي المشاغبين من مشجعي كرة القدم الانجليزية التي خرجت منها حركت «البانك» حسب رأي لو. وبدأ تفكك حركة «حليقي الرؤوس» عن «البانك» في منتصف السبعينات حيث دأبت بعض الفرق الموسيقية على اطلاق الشعارات الفاشية، الأمر الذي أدى إلى أحداث عنف فوضوية بين الطرفين. ومن يتبحر تماما في موسيقى «حليقي الرؤوس»، الشبيهة بالهارد روك Hard Rockاي الموسيقي الصاخبة، يلاحظ أنها انطلقت أساسا من موسيقى «اوي» Oi، وموسيقي الاوي انتشرت اوائل السبعينيات في اوساط «البانك» في بريطانيا بعد اغنية بالاسم نفسه غنتها فرقة «كوكني ريجيكتس» وهي خليط من الهارد روك والرجي Reggie، موسيقى لاتينية صاخبة، والسكا تايب Ska Type وهي ايضا نوع من الموسيقى اللاتينية الصاخبة التي ظهرت في جامايكا 1962 . وحينما لاحظت «الجبهة القومية» البريطانية تأثير موسيقى الكراهية على الشباب احتضنت أولى فرق الكراهية (سكرو درايفر Screw driver) التي أسسها اليميني المتطرف ايان ستيوارت من دونالدسون المولود في لانغشاير 1958 . وغير دونالدسون اسم الفرقة إلى «وايت نويز»White Noise عام 1997، وأصبح عن حق «عراب» موسيقى الكراهية العنصرية. ثم سرعان ما عملت الجبهة القومية على تأسيس أول شركة لانتاج موسيقى الكراهية باسم «وايت نويز ريكوردز» White Noise Records. وانتشر الأسم بسرعة فائقة في الثمانينات فتأسست العديد من الفرق التي تحمل اسم «وايت نويز» في ألمانيا واستراليا والولايات المتحدة وغيرها.
عزفت «وايت نويز» في انجلترا وألمانيا وهولندا وبلجيكا والسويد وفرنسا وكندا والبرازيل واستراليا. وتعاون دونالدسون مع فرقة «بلود اند اونور»، ويقال إنه أسس حزبا بلا نظام داخلي وعضوية تهربا من ملاحقة الشرطة. وكتب دونالدسون 1988 في مجلة «المقاومة» التابعة لـ «وايت نويز» الاميركية «نضالنا يبدأ في أوروبا ويمتد الى كل العالم الأبيض». وقد لقي دونالدسون مصرعه في حادث سيارة 1993 وتحول بذلك إلى «شهيد» ورمز تكتب له الأغاني وتؤلف له الاشعار من قبل قطعان حليقي الرؤوس في أوروبا واميركا. وكتب العالم الأميركي في شؤون الجريمة مارك هام في كتابه «حليقو الرؤس الاميركان» أن ظهور حركة حليقي الرؤس كثقافة شبابية هابطة يفسر بالموهبة الموسيقية، والفاعلية السياسية، والعقلية المهنية، والثروة الشخصية لـ ايان ستيوارت دونالدسون. فدونالدسون أدرك قبل غيره ضرورة التخلي عن التحية الهتلرية والخطابات الرنانة لصالح مخاطبة الناس بالموسيقى. فالموسيقى طريقهم للوصول إلى الناس والأغنية التحريضية اعلامهم.
يؤكد ذلك ماتي سونكويست، مغني فرقة «وايت نويز» السويدية (سواستيكا)، في مقابلة نشرتها مجلة «المقاومة» 1996. يقول المغني «ان الموسيقى مهمة جدا لابقاء شعلة الحماس متوهجة، ولتجنيد الشباب وللتسلية. لاحظنا أن اهتمام الجمهور بنا قد ازداد بفعل الموسيقى»، في اشارة الى زيادة الاهتمام بآيديولوجيا التحريض على العنف والكراهية ضد السود والملونين والأجانب واليهود والغجر التي كان هتلر يدعو لها في كتاب سيرته الذاتية «كفاحي». كما تستمد موسيقى الكراهية افكارها من أشد الحركات العنصرية مثل «الكوكلوكس كلان» في الولايات المتحدة والنازيين الجدد في ألمانيا و«الآريين» في السويد.
وكتبت هيلين لو في دراستها «لكل حركة ثورية موسيقى وأغان وأشعار وشعراء. الموسيقى بحد ذاتها لا تخلق تنظيمات، ولا يقود الموسيقيون الثورة، لكن موسيقى الاحتجاج الثورية تزرع في أذهان أعضاء الحركة أحلاما وأوهاما وفانتازيا الثورة والمجتمع المثالي الذي تحلم به الحركة».
اما موسيقى «البوب» الفاشية والعنيفة فقد خرجت من رحم الحركة الفوضوية اليسارية (البانك) في انجلترا، كما نبعت من اصول الغناء الريفي الغربي (الكانتري ميوزيك) في الولايات المتحدة من حناجر اشخاص مثل كليف تارهان وليروي لي بلانك وجيمس كرو، ومن «المنظمة السويدية» او BSS (مختصر «حافظ على سويدية السويد») التي تأسست في نهاية السبعينات، كما خرجت من المستنقع النازي في ألمانيا. وكشف استطلاع للرأي اجري في السويد عام 1996 أن 12.2% من تلاميذ المدارس يستمعون إلى موسيقى الكراهية. وأحصى الخبراء الألمان تخصيص المنظمات النازية لنحو 50 ألف اسطوانة موسيقية تحمل عنوان «التوافق جبن» (المقصود بالتوافق هو التمسك بالنظام المدرسي والتوافق مع الهيئة التعليمية وبقية التلاميذ) كي توزع في مدارس شرق ألمانيا في اليوم الأول من العام الدراسي 2004 ـ 2005 . وكانت النيابة الألمانية العامة قد منعت توزيع مثل هذه الاسطوانات في المدارس، إلا أن الشباب النازي صار يوزعها سرا بالمجان. وكشف تقرير الخبراء أن اكثر من 50 منظمة وفرقة روك نازية تنسق «خطة المدارس» بينها عبر الإنترنت. وتقوم هذه المنظمات بتوزيع ألعاب الكومبيوتر واٌقراص الموسيقى المجانية التي تحرض على العنف والعدوان ضد الملونين والأجانب.
وتعتبر فرق البوب والروك النازية من أهم ممولي المنظمات النازية ومن أهم أدواتها في استقطاب الشباب والمراهقين الألمان. ويقول تقرير دائرة حماية الدستور إن عدد فرق الروك النازية ارتفع من بضع فرق عام 1993 إلى 100 فرقة عام 2002. وانتجت هذه الفرق ما مجموعه 1.5 مليون اسطوانة أصلية خلال الأعوام العشرة السابقة. وتلجأ هذه الفرق الى استنساخ هذه الاسطوانات بدقة عالية الجودة وفق تقنية نادرة لا تعرف الشرطة كثيرا عنها. كما تلجأ إلى قرصنة اسطوانات المغنين العالمين من دون أن تفقد شيئا من جودتها وتبيعها بأسعار متهاودة للشباب. وكانت هذه الفرق قد طرحت 6 اسطوانات فقط إلى سوق البوب النازي 1989، لكن العدد قفز إلى 35 البوما 1993 ثم إلى 40 اسطوانة 1994. وطرحت 100 فرقة نازية 100 البوم جديد للسوق النهم للموسيقى النازية 2000 حيث تم بيع ما بين 500 الى 6000 اسطوانة منها حسب شهرة الفرقة. واقامت هذه الفرق 112 حفلة موسيقية في مختلف المدن الألمانية عام 2002 ( 80 حفلة عام 2001). وتفردت فرقة Rock-on-Roma، وهو اسم يعني ضمن ما يعنيه «صخور على الغجر»، بالانتاج والشهرة لأنها توزع اكثر من 6000 اسطوانة ولديها، حسب تقرير الأمن، 10 آلاف مشترك دائم على صفحتها الإلكترونية.