التسلح في المغرب والجزائر إلى أين؟

محمد العربي المساري

TT

نشر مؤخرا في المغرب «التقرير الاستراتيجي لسنتي 99/2000». وهو وثيقة أكاديمية يحررها باحثون أغلبهم من الوسط الجامعي. وفي كل سنة منذ 1995 يرصد التقرير بشكل مركز علاقات المغرب مع مختلف الدول والمنظمات الدولية. وتضمنت الطبعة الأخيرة فصلا خاصا بالمغرب العربي، كالمعتاد، اشتمل على نبذة حول ميزان القوى العسكرية في المنطقة تركزت على المغرب والجزائر واستطرادا وردت في النبذة معطيات عن إسبانيا.

وبرزت في التغطيات التي أوردتها الصحافة المغربية عن هذا التقرير، الأرقام المتعلقة بالمغرب والجزائر، بما في ذلك التسلح النووي. وورد في المادة المذكورة، أن النفقات العسكرية في المغرب انتقلت من 1.4 مليار دولار في سنة 1997 إلى 1.7 مليار في سنة 1998، بينما بلغ مجموع القوات المسلحة الملكية 196300، منهم 175 ألفا في القوات البرية، و7800 في القوات البحرية، و13500 في القوات الجوية.

أما بالنسبة للجزائر فقد انتقلت النفقات العسكرية من 1.8 مليار دولار في 1998 إلى 1.9 مليار في 1999، بينما بلغ مجموع الجيش الوطني الشعبي 122 ألفا، منهم 105 آلاف في القوات البرية، و700 في القوات البحرية، 10000 في القوات الجوية.

إن ميزانية الدفاع في الجزائر كانت دائما مهمة. أما في المغرب فإن ميزانية الدفاع قد أصبحت لها أهمية ملحوظة بسبب مشكل الصحراء. وقبل ربع قرن لم تكن ميزانية الدفاع تحتل مثل الأهمية التي أصبحت لها اليوم. وقد ورد في مذكرات ينشرها في جريدة «العلم» السفير محمد التازي، الذي مثل المغرب في كل من تونس والأردن والسعودية ومصر في ظروف دقيقة من تاريخ الدبلوماسية المغربية، أنه في غضون التحريك الحاسم لمسلسل تحريك الصحراء الغربية، كان الجيش المغربي مفتقرا إلى الحد الأدنى من المقومات العسكرية. وذكر كيف أنه حينما كان سفيرا في الأردن أشرف على محاولة أقدم عليها المغرب قصد اقتراض طائرات للتدخل السريع، ريثما يتوصل بطائرات كان قد طلبها من السوق الأميركية. ووصف الحالة التي كان عليها تسلح الجيش المغربي حينئذ، بأنها كانت في منتهى الحرج. وكان المغفور له الحسن الثاني قد شرح ذلك علانية، وقال إن المغرب لم يكن يسعى أبدا لأن تكون له قوات مسلحة قوية، وانه فضل الاستثمار في الفلاحة والتعليم والصناعات الخفيفة. وكان قد ذكر أن فترة تحريك ملف تحرير الصحراء، قد أتت بعيد مشاركة المغرب في حرب أكتوبر 1973، وهي لم تكن مشاركة رمزية، وأن القوات المسلحة المغربية كانت قد عادت من جبهتي سيناء والجولان، تاركة عتادها هناك. وهذا ما أدى إلى أن المغرب حينما خاض المعركة من أجل تحرير الصحراء لم تكن له إلا قوى رمزية.

ويمكننا اليوم أن نفهم لماذا. فقد كانت مراهنة الحسن الثاني رحمه الله قوية على الوسائل السلمية، وعلى أن إسبانيا إذا ما أشعرت بجدية الموقف، لن تتواني عن الركون إلى التفاوض. وهذا ما قامت عليه استراتيجية تنظيم «المسيرة الخضراء». وكان قد أوضح لوفد صحافي إسباني في خضم الوضع الذي خلقته المسيرة، أن هناك سببين لتمسكه بالمقاربة السلمية. الأول هو أن الجيش الإسباني أقوى بكثير من المغربي. والثاني أنه سيكون جريمة في حق المستقبل أن تحدث حرب لن تغير الوضع في شيء، ولكن تترك جروحا لا تندمل عبر أجيال. والمغرب لا يتصور علاقاته مع إسبانيا إلا في ظل حسن الجوار والتعاون.

ولعل الظن كان يذهب إلى أن العامل الحاسم في الموضوع كان هو تركيز الضغط على إسبانيا. خاصة أن الدول العربية في مؤتمر القمة بالرباط في 1974 كانت قد قررت الوقوف جماعيا لتأييد المغرب في قضية الصحراء. بل إن المرحوم هواري بومدين، كان قد صرح في ذلك المؤتمر، بأنه يؤيد الاتفاق المغربي ـ الموريتاني على توحيد موقفهما تجاه إسبانيا. لكن الأمور انقلبت في ما بعد على نحو ما هو معروف.

لم يكن تعداد الجيش المغربي في 1975 أكثر من خمسين ألف رجل. وبعد عام من استرجاعه للصحراء ارتفع التعداد إلى 80 ألفا. وتقول إحصاءات سنة 1977، أي بعد عام من استرجاع الصحراء، إن مخصصات الدفاع الوطني أصبحت تمثل 3.2 في المائة من الدخل الوطني الخام. وهو شيء مرهق بالنسبة للمغرب. وفي أرقام 1977 كان المغرب قد أصبح يخصص 346 مليون دولار للنفقات العسكرية، أي 19 دولارا لكل نسمة. وفي الجزائر كان الأمر يتعلق بـ387 مليون دولار، أي 23 دولارا لكل نسمة. وكان عدد الطائرات في المغرب إذذاك 45 طائرة، والجزائر 177.

والكلام هنا عن الجزائر وعن الطائرات ليس صدفة، بل إن الخصاص الكبير الذي كان يعاني منه المغرب هو في الطيران. والصعوبات التي تعرض لها كانت بالذات تأتي من جهة الشرق. في أمغالة كانت المواجهة مع الجيش النظامي الجزائري، وبعد ذلك كانت مع الفرق التي كانت تنطلق من التراب الذي يقع تحت سيطرة الجزائر. ومنذ استقلال الجزائر، وخاصة بعد نشوب ما عرف بحرب الرمال بين البلدين، كان واضحا أن علاقات قلقة ستسود وقتا طويلا بين الجزائر والمغرب. وقد حالت حالة اللاثقة القائمة بين البلدين، دون أن تسود علاقات طبيعية بينهما، بل إن تلك الحالة عرقلت باستمرار مساعي التنسيق والتعاون على صعيد المنطقة، أي مسيرة بناء المغرب العربي.

وكمحاولة لتخفيف الأضرار، كان المغرب قد أقدم على مبادرة ذات قيمة كبيرة، إذ أعلن ضرورة إيقاف سباق التسلح بين البلدين. ففي 28 فبراير 1967، أي منذ 34 سنة، كان الحسن الثاني طيب الله ثراه، قد وجه إلى الأمين العام للأمم المتحدة، السيد يو ثانت في ذلك الوقت، رسالة يقترح فيها تكوين لجنة مشتركة تكون لها مهمتان:

ـ توصية المغرب والجزائر بالتخلي عن أي سباق في التسلح، بعدم العمل على تنمية قواتهما العسكرية.

ـ المراقبة في عين المكان، بالطرق الملائمة، لللأسلحة التي توجد لكل من الطرفين من حيث الكم والنوع، وتقدير مستوى الحاجات الضرورية لكل من الطرفين لتأمين الحفاظ على الأمن. وكان الدافع إلى تلك المبادرة، هو الوصول في ظرف عامين بعد ذلك، إلى إرساء الثقة بين البلدين، قصد تنشيط ديناميكية التنسيق على صعيد دول المغرب العربي، من خلال اللجنة الاستشارية المشتركة لكل من ليبيا وتونس والجزائر والمغرب. وكان من شأن تلك المبادرة أن تؤدي إلى تصفية أسباب التوتر، بين دولتين رئيسيتين في المنطقة، باعتبارهما تمثلان ثقلا ديموغرافيا، وتوجد بينهما تناقضات، أكبر مما يوجد بين غيرهما. ولكن الأمور اتجهت حينئذ وجهة أخرى، غير التي كان يرتجيها المغرب.

ولا يسعنا اليوم إلا أن نتطلع إلى أن تسود ظروف تساعد على استلهام الروح التي دفعت إلى تلك المبادرة الخيرة، وأن تتوجه الخواطر إلى مسيرة جديدة تمكن فعلا دول المنطقة من تحرير طاقاتها المجمدة ومن بناء مسيرة منسجمة.

إن سعي المغرب والجزائر إلى التسلح، أمر غير منطقي. أولا لأن جزءا هاما من موارد البلدين يوجه إلى ميدان عقيم على حساب ما كان يمكن أن يوجه إلى التعليم والصحة والإسكان. والبلدان هما على حد سواء في الخصاص في كل هذه المرافق. إن المغرب والجزائر هما معا في عداد المائة دولة الأخيرة في جدول التنمية البشرية الذي يصدره برنامج الأمم المتحدة للتنمية. والسباق في مجال التسلح بينهما عقيم، لأن سعي كل منهما لمزيد من التسلح، لا يعني إلا أن السلاح الذي يتراكم لديهما، لن يستعمله أي منهما إلا في مواجهة الآخر. وبديهي أن كل مواجهة بينهما لن يكون لها من أثر إلا إحداث خدوش لمدة تسع ساعات، ينفد بعدها كل ما بيديهما من مفرقعات، ولكن سينجم عن ذلك مزيد من الآلام والأضرار.

إن الأرقام التي بين يدي، عن آخر المعطيات التي يتضمنها التقرير الأخير للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، تقول إن المغرب خصص 5 في المائة من دخله الوطني الخام في سنة 1998 للنفقات العسكرية (1.630 مليون دولار)، بعد أن كان الرقم 4 في المائة في السنة التي قبلها (1.386 مليون دولار)، بينما خصصت الجزائر في عام 1988 (2.336 مليون دولار) و1997 (2.114 مليون دولار) وهو ما يمثل 5 في المائة من دخلها. وهذه الاستعدادات لن تستهدف عدوا مشتركا، بل ذلك العدو الذي ترسمه خيالات لحظة انفلات.

لقد كانت بين البرازيل وأرخنتينا (الأرجنتين) حالة انعدام ثقة مماثلة لما بين الجزائر والمغرب. وأقدمت كل منهما على تطوير معامل السلاح، بما في ذلك السلاح النووي. وفي لحظة إشراق، قرر الرئيسان صارني وألفونسين، أول رئيسين مدنيين تم انتخابهما بطريقة ديمقراطية، أن ينهيا حالة اللاثقة المزمنة التي تأججت في ظل الحكم العسكري في البلدين، فقررا بمباركة جماعية من البرلمان والرأي العام في كل من البرازيل وأرخنتينا، أن يتبادل الخبراء من الجانبين زيارة المنشآت النووية في كل من البلدين. وكان ذلك بداية انفراج، ثم أمكن لدول المنطقة أن تتجه إلى بناء مستقبلها المشترك في حظيرة «الميركو سور»، أي ثالث تجمع اقتصادي في العالم بعد الاتحاد الأوربي ومجموعة دول آسيا الجنوبية الشرقية.