عبد الناصر والأكراد.. قصة «العلاقة الخاصة»

المبادئ أم السياسة وراء موقف القاهرة المتميز من أكراد العراق؟

TT

مثل احدى اغنياتهم الشعبية، واحيانا مثل نشيدهم القومي «أي رقيب» يردد الاكراد ـ خصوصا اكراد العراق ـ اسم مصر، وبالذات مصر الناصرية. وهذا مخالف كثيرا لخيبة املهم واحباطهم من مواقف مؤسسات وحركات وشخصيات قومية عربية اخرى يشعرون بالمرارة القوية تجاه مواقفها منهم كشعب وامة. وهي مواقف تجاوزت مجرد عدم الفهم بالتأييد الصريح لحملة الابادة الجماعية التي شنها ضدهم احد انظمة القومية العربية، هو نظام حزب البعث في العراق.

الاسبوع الماضي، كما في مثل هذا الوقت من كل عام، احتفلت الاوساط الثقافية والاعلامية الكردية بالذكرى السنوية السابعة بعد المائة لصدور اول صحيفة كردية في التاريخ، كان اسمها «كردستان» وناشرها ورئيس تحريرها هو الامير مقداد بك بدرخان المتحدر من كردستان الجنوبية التي كانت حتى اوائل القرن الماضي جزءا من الدولة العثمانية (ألحق في منتصف عشرينات القرن بالعراق ضمن ولاية الموصل). ولما لم يكن في مقدور الامير الكردي المثقف اصدار صحيفته في مدينته السليمانية ولا في أي مدينة كردية اخرى خاضعة للسيطرة العثمانية او الايرانية، فقد توجه الى القاهرة المستقلة عن العثمانيين لاطلاق مشروعه الثقافي ـ السياسي الرائد باللغتين الكردية والتركية، ويحتفل الاكراد بذكراه مع شعور عميق بالتقدير والعرفان لمصر التي كان لها فضل في اصدار احد اهم وثائق اثبات الهوية القومية للامة الكردية. لأمد طويل بعد ذلك ظلت قضية الاكراد «منبوذة» من القوميين العرب والاكراد والفرس على السواء. وحتى الحقوق الثقافية والادارية المحدودة التي اقرتها عصبة الامم المتحدة لاكراد العراق وتعهدت حكومة الملك فيصل الاول بتأمينها في مقابل الحصول على الاستقلال عن بريطانيا اهملت وصودرت تماما بعد موت الملك المؤسس ليجد الاكراد انفسهم مضطرين للثورة من آن الى آخر ردا على الحملات العسكرية لقمع تطلعاتهم ووقف مطالباتهم بحقوقهم المقرة دوليا. الاختراق الاكبر في تلك الحقبة جاء من القاهرة ايضا. فالزعيم المصري والعربي الصاعد ساعتها جمال عبد الناصر أتاح للاكراد ان يطلوا على العالم من خلال محطة اذاعية هي الاولى من نوعها، كما استقبل الرجل الذي أصبح لاحقا زعيما تاريخا للاكراد وهو مصطفى بارزاني، وانشاء علاقة متواصلة معه، بل ويناهض الحرب التي شنت على الاكراد. السياسيون والباحثون الاكراد المتحمسون لعبد الناصر، كما انصاره ومريدوه المصريون والعرب، يصنفون موقفه ذاك على انه جزء من «المواقف المبدئية من قضايا الشعوب الاخرى وخاصة المجاورة»، لعبد الناصر الذي كان «نصيرا لحرية الشعوب واستقلالها» و«كان يحمل للاكراد تقديرا ومودة ومحبة يعود الى ما يتشربه كل مصري من اجلال واحترام لاسهام الشعب الكردي في التاريخ العربي والاسلامي» كما يقول الدكتور سعد الدين ابراهيم.

ربما كان الامر كذلك جزئيا، بيد ان البراغماتية السياسية لم تكن بعيدة عن موقف عبد الناصر، فهو اتاح للاكراد اذاعة تنطق باسمهم وتدافع عن قضيتهم فى عام 1957 بالذات في ذروة مواجهته مع «حلف بغداد» الذى تشكل 1955 والذي كانت اطرافه الدول المهيمنة على الاراضي الكردية، تركيا والعراق وايران، اضافة الى بريطانيا والولايات المتحدة وباكستان. وكان عبد الناصر في ذلك الوقت في حرب مكشوفة مع هذا الحلف كما مع الاتحاد الهاشمي (العراق والاردن) الناشئ للتو. ويتداول الاكراد حتى اليوم قصة فيها بعض الفكاهة، تمجد موقف عبد الناصر ذاك. وتقول هذه القصة انه في اليوم الذي بدأت الاذاعة الكردية فيه بثها من القاهرة هرع السفير التركي في العاصمة المصرية منذ الفجر الى مقر عبد الناصر طالبا لقاء سريعا معه لابلاغه بعدم رضا انقرة عن المبادرة المصرية. وبعد ساعات كان السفير الغاضب يحتج بطريقة ما لدى عبد الناصر على الفعل المصري، فقال له الرئيس المصري في هدوء «معلوماتي تفيد بأنه لا وجود للاكراد في تركيا، كما تقولون، وان هؤلاء الذين يوصفون بانهم اكراد ما هم الا اتراك جبليون. لماذا اذن انتم غاضبون من اذاعة كردية؟». وعندما حدثت ثورة 14 يوليو (تموز) 1958 في العراق متأثرة بثورة 1952 المصرية، كان مصطفى بارزاني يعيش في منفاه السوفياتي الذي فر اليه اثر انهيار جمهورية مهاباد (في كردستان ايران) قبل ذلك باكثر من عشر سنوات. وقد اختار ان يعود الى بغداد مارا بالقاهرة، ربما لشكر عبد الناصر على خدمة الاذاعة وللتأسيس لعلاقة سيحتاج اليها الاكراد كثيرا في المستقبل وسينتفع منها عبد الناصر ايضا. الحفاوة التي استقبل عبد الناصر بها بارزاني لم تكن بعيدة عن تأثير الخلاف بين القاهرة وبغداد والصراع بين الجنرالين المصري والعراقي عبد الكريم قاسم، فمنذ الايام الاولى للثورة العراقية ضغط القوميون العرب العراقيون (الناصريون والبعثيون) للالتحاق بالجمهورية العربية المتحدة (مصر وسورية)، وهو ما لم يجد هوى لدى القوى العراقية الاخرى، وبخاصة الحزب الشيوعي والحزب الوطني الديمقراطي والحزب الديمقراطي الكردستاني، التي رأت ان خطوة هذه ستكون غير مناسبة ومتعجلة كثيرا. كما اراد الاكراد ان يعرفوا كيف ستضمن حقوقهم في اطار دولة عربية موحدة.

الشخصيات الكردية التي رافقت بارزاني في لقائه مع عبد الناصر تؤكد ان الاخير اظهر تفهما لوجهة النظر الكردية. وقد حافظ عبد الناصر على علاقة ودية مع الاكراد مع تفاقم صراعه مع قاسم. وعندما انطلقت ثورة سبتمبر(ايلول) 1961 الكردية وجد عبد الناصر فيها فرصة مناسبة لتصفية الحساب مع قاسم الذي وصل الصراع معه الى ذروة عالية في ذلك الوقت. لكن الاكراد ما زالوا يقدرون لعبد الناصر انه احتفظ بموقفه المتفهم لقضيتهم حتى بعد اطاحة نظام قاسم وتولي ائتلاف بعثي ـ ناصري السلطة في بغداد. ففي كتابه «كردستان والحركة القومية الكردية» الصادر 1971، يقول جلال طالباني الذي قابل عبد الناصر مرات عديدة ممثلا لبارزاني وللحزب الديمقراطي الكردستاني ان عبد الناصر كان يؤيد مطلب الاكراد بالحكم الذاتي ويعارض الحرب ضدهم. ويضيف «خلال سني القتال التي اعقبت الاتصال بالرئيس جمال عبد الناصر ظلت حكومة الجمهورية العربية المتحدة على موقف ودي من الاكراد. فعندما تجدد القتال بين الاكراد وحكومة بغداد 1963 اعلنت القاهرة معارضتها الحرب كاسلوب لحل القضية الكردية وعارضت بشدة اشتراك ضباط اتراك وايرانيين في العمل ضد الاكراد، ودعا الرئيس ناصر الى ايقاف القتال والشروع في محادثات سلمية لحل القضية الكردية». لكن الملاحظ ان عبد الناصر لم يضغط بما فيه الكفاية على انصاره والموالين له الذين وصلوا الى الحكم في بغداد من اجل الاقرار بالحقوق الكردية والامتناع عن شن الحرب عليهم، بل انه لم يوفر الدعم اللازم لافضل شخصية قومية عربية (ناصرية) مدنية تولت رئاسة الحكومة العراقية في ذلك الوقت، هو الدكتور عبد الرحمن البزاز، الذي طرح مشروعا جديا لحل المشكلة الكردية سلميا والانتقال بالعراق الى النظام البرلماني. فاعلان البزاز في 29 يونيو (حزيران) 1966 الذي قبل به مصطفى بارزاني ما لبث ان اطيح به مع صاحبه على ايدي الرئيس (الناصري) عبد الرحمن عارف وجنرالاته (الناصريين ايضا) الذين احتج بعضهم صراحة على مشروع البزاز لنقل السلطة من العسكريين الى المدنيين. مع ان عبد الناصر كانت له حساباته السياسية في دعمه المحدود لاكراد العراق، فان هؤلاء لا يكفون عن التغني باسمه وباسم مصر، ربما ايضا تعبيرا عن رغبة داخلية قوية في اقامة علاقات أفضل مع العرب.