البغداديون يقيمون تمثالا لعبد الكريـم قاسم في مكان شهد محاولة لاغتياله شارك فيها صدام قبل 35 عاما

TT

بعد اكثر من اربعين عاما على اعدامه، اقام البغداديون تمثالا برونزيا، هو الاول من نوعه، لعبد الكريم قاسم الذي حكم العراق للفترة من 1958 لغاية 1963 وعرف باسم الزعيم. وتحمل بعض تجار شارع الرشيد، تكاليف التمثال بالحجم الطبيعي، الذي وضع في الشارع نفسه وسط بغداد، في المكان الذي تعرض فيه قاسم الى محاولة اغتيال فاشلة عام 1959 على يد مجموعة من البعثيين، بينهم الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين.

وقتل في ذلك الهجوم عبد الوهاب الغريري، الذي اقام له صدام حسين تمثالا كأول «شهيد» في حزب البعث، ووضع في المكان الذي حاول البعثيون اغتيال (الزعيم) فيه وسط شارع الرشيد، لكن البغداديين اسقطوا التمثال بعد سقوط النظام مباشرة في ابريل (نيسان) 2003. واصيب قاسم الذي كان في سيارة صالون عسكرية في الاعتداء بجروح في يده، حيث دافع عن نفسه بواسطة مسدسه الشخصي، كما دافع عنه مرافقه الشخصي، وهو الحارس الوحيد الذي كان برفقته، وهبت الجموع البغدادية في الشارع لحمايته، بينما قتل الغريري وهرب صدام حسين والاخرون عبر الشوارع الضيقة.

ولد عبد الكريم قاسم في 21 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1914، في محلة المهدية، وهي من المحلات السكنية القديمة والشعبية ببغداد، من اب سني كان يعمل نجارا ويدعى قاسم محمد البكر، وام شيعية من مدينة الصويرة جنوب بغداد وتدعى كيفية حسن يعقوب التميمي.

وكان قاسم قد تبرع بقطعة الارض الوحيدة التي ورثها عن أمه في بلدة الصويرة، الى وزارة التربية لبناء مدرسة ثانوية للبنات، اللواتي كن يتجشمن عناء السفر الى مدينة الكوت البعيدة للدراسة الثانوية، مما دفع اهاليهن لمنعهن من مواصلة التعليم، وببناء هذه المدرسة سهلت عملية متابعة هؤلاء البنات لدراستهن الثانوية، وتعد بناية المدرسة التي حملت اسم «ثانوية 14 تموز للبنات» نموذجا لعمارة الستينات، والحق بها سكن داخلي ومكتبة عامة تصل اليها طالبات الثانوية عبر نفق يمر تحت الشارع، حتى يطالعن الكتب ليلا من غير الحاجة الى الخروج من السكن او المدرسة، حيث كانت الاعراف الاجتماعية مشددة في بلدة ريفية مثل الصويرة. يذكر ان الرئيس المخلوع غير اسم الثانوية الى «ثانوية صدام للبنات»، بينما لم يطلق عليها قاسم اسمه، بالرغم من انها بنيت على ارضه التي يملكها قانونا وشرعا. ويقول المحامي عبد اللطيف العبيدي، 70 عاما، الذي جاء من منطقة الكرادة ليرى التمثال «لم نكن نحبه فقط كنا نميل الى تقديسه، لانه كان رجلا بسيطا وفقيرا مثلنا.. عاش ومات وهو لا يملك شيئا». ويضيف وهو يضع باقة من الزهور تحت قدمي الزعيم سلم يحكم العراق رجل مثله، فالجميع كان يبحث عن مصالحه الشخصية والحزبية الضيقة، اما هو فقد كان جل همه مصلحة هذا الشعب، لقد ظلمناه لاكثر من اربعين عاما وها نحن نعود من جديد لكي نعيد اليه حقه». ويتذكر العبيدي، الذي كان طالبا في كلية الحقوق يوم محاولة اغتيال قاسم عام 1959 فيقول «ما ان علمنا بانه لم يمت حتى خرجنا في شوارع بغداد ونحن نهتف (زعيمنا سلامات موتوا يا بعثية)». ويتابع «بقينا ثلاثة ايام نحوم حول بناية وزارة الدفاع، الى ان اطل علينا في اليوم الثالث من شرفته فطمأننا عليه وارتحنا». ويتذكر حسين علي، 56 عاما، جيدا الزعيم قاسم ويقول «كنت اعمل في مقهى بالقرب من بناية وزارة الدفاع، وكنت أراه بشكل يومي ببزته العسكرية والابتسامة لا تفارق وجهه. كان انسانا بسيطا ودودا متواضعا يتجاذب اطراف الحديث مع حراس الوزارة».

عمل قاسم معلما في مدرسة الشامية منذ عام 1931 ثم التحق بكلية الاركان عام 1941، وكان من الطلبة الاوائل وحكم العراق بعد سقوط الملكية عام 1958.

وفي اوج قوته كان يسكن غرفة صغيرة في مبنى وزارة الدفاع العراقية القديمة في منطقة الميدان، وعندما اعدم رميا بالرصاص لم يترك لورثته سوى 16 دينارا واربعمائة فلس، هي ما تبقى من راتبه وكل ما كان يملك. وعرف قاسم بالعفو وغالبا ما يردد البغداديون عباراته الشهيرة «عفا الله عما سلف» و«الرحمة فوق العدل»، حتى لاولئك الذين ارادوا قتله.

اعدم قاسم في انقلاب 8 فبراير (شباط) عام 1963 في شهر رمضان، وكان صائما حين نفذ فيه حكم الاعدام رميا بالرصاص في مبنى الاذاعة والتلفزيون، وتم عرضه عبر التلفزيون للناس لكي يصدق العراقيون مقتله. ويروي مرافقه الشخصي قاسم الجنابي، 81 عاما، الذي لم يفارقه الى يوم اعدامه، «عندما وصل الزعيم عبد الكريم قاسم الى دار الاذاعة كان بكامل قيافته جذابا انيقا وقد حلق ذقنه في صباح التاسع من فبراير (شباط) من عام 1963.. كانوا وعدوه بأن يسمحوا له بمغادرة العراق، ولكنهم نكثوا عهدهم وقرروا اعدامه بدون اية محاكمة». ويضيف الجنابي، الذي يشغل حاليا منصب الامين العام للتجمع القاسمي الديمقراطي، «لقد رفض عصب عينيه عند اعدامه.. وقبل اطلاق النار وقف وهتف باسم العراق».