«ناس الغيوان» .. أربعة عقود من العطاء الفني

مجموعة غنائية مغربية أحبهم الملك الحسن الثاني وغنوا في قصره

TT

خرجت مجموعة «ناس الغيوان» إلى العلن أواخر عقد الستينات من القرن الماضي، في أوج الصراع السياسي العالمي، وتطاحن الإيديولوجيات، والحرب الساخنة والباردة بين المعسكرات السياسية والتيارات الفكرية. وكان طبيعيا أن يتأثر مسارها الفني بالأجواء الفكرية والسياسية السائدة آنذاك محليا ودوليا. وبما أن فترة الستينات والسبعينات عرفت في المغرب، مخاضا سياسيا وفكريا، فقد كان طبيعيا أن تكون «ناس الغيوان» ابنة بيئتها ونتاج لحظة التجول الاجتماعي في المغرب.

خضعت المجموعة لمحاولات تصنيف كثيرة، فاليسار المغربي، بمختلف ألوانه، حاول تبنيها، ودعاة الثورة والتغيير وجدوا في أغانيها شعارات تحريك مناسبة لدعاواهم السياسية، والنقاد مارسوا على كلمات وألحان المجموعة قراءات وتأويلات مختلفة وصلت أحيانا حد العسف وإخضاع مضامينها قسريا لتمثلات جاهزة، والمواطن البسيط انجر وراء الخطاب الفني «الغيواني» المرتكز على مكوني البساطة والعمق في المبنى والمغنى. كلمات بسيطة موغلة في عمق التراث المغربي، وألحان اجتمعت فيها مختلف الاهازيج والالوان الموسيقية المغربية، مما سهل تحريكها لسواكن ومكنونات الجماهير التي اقبلت بكثافة على سهرات المجموعة واحتضنتها.

وإذا كانت الغيوان خضعت لمحاولات التبني والتوظيف السياسي، فإن أعضاءها، سيما عمر السيد، عميد المجموعة حاليا، ظل ينفي أي تسييس لأغانيها، معتبرا ان «الفنان فنان والسياسي سياسي» رافضا الخلط بين المهمتين، وفي مناسبات عديدة أصر السيد على أن الأغنية «الغيوانية» تنويرية تسعى لأن تصبح إنسانية في أحسن الأحوال.

اعتبر كثير من المهتمين أن «ناس الغيوان» عاشت الحصار الفني خلال سنوات الاحتقان السياسي بالمغرب، والأكيد أن هذه المسألة تزداد لبسا عندما يستحضر المغاربة مفارقتين، من جهة كانت أنشطة وسهرات «الغيوان» وكلمات أغانيها تخضع لرقابة واضحة في أجهزة الاعلام الرسمية وتطوق مصالح الأمن حفلاتها التي كانت تعرف حضورا جماهيريا يفوق التجمعات الحزبية الجماهيرية، ومن جانب ثان حين يقرأ الناس ما يقوله عميد المجموعة عن علاقات متميزة ربطت بين «الغيوان» والملك الراحل الحسن الثاني الذي كان يستقدم المجموعة لإحياء سهرات داخل القصر الملكي. ويزداد الموضوع لبسا إذا استحضرنا الموت الغامض للمؤسس «الغيواني» الراحل بوجمعة أحكور المعروف بـ «بوجميع»، حيث تحدثت أول أغنية للمجموعة بعده عن «خيي مات البارح واليوم لازم نفدي تاره»، وفهم من الأغنية أنها موقف من طريقة موت أو (قتل) بوجميع وضرورة الأخذ بثأره، وهو الموضوع الذي وجد صدى في الآونة الأخيرة لدى هيئة الانصاف والمصالحة المغربية التي عهد لها بالبحث في ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان بالمغرب وجبر الضرر المادي والمعنوي الذي خلفته لدى الضحايا وذويهم، وضمنهم أسرة بوجميع التي رفعت شكاية في الموضوع. وهذه المعطيات إذا اضيفت إلى تصريحات عمر عن الراحل الحسن الثاني الذي سأله ذات سهرة عن أسباب موت بوجميع فأجابه السيد «إنها القرحة يا مولاي»، فتحسر الحسن الثاني وقال «مسكين»، شارحا للسيد أن علاج قرحة المعدة ممكن.

وبعد رحيل عدد من رواد المجموعة المؤسسين، سواء بسبب المرض أو الموت، خفت صوت المجموعة وحضورها بسبب تقدم أفرادها في السن ووقوع آخرين فريسة المرض مثل حالة عبد الرحمن باكو، المنشق عن «الغيوان» قبل سنوات والذي يوجد حاليا طريح الفراش، أصبح الجمهور المغربي، بمختلف أجياله، يعيش على الذاكرة، كلما حضر سهرات «الغيوان»، ذاكرة الماضي الجميل الذي ما زالت تؤرخ له عشرات الألبومات، وهو الأمر الذي أقر به عميد «الغيوان»، بعد رحيل العربي باطما، ومن بقي من «الغيوان» (علال يعلى وعمر السيد) يحاولون حفظ تلك الذاكرة وصونها من التلف، وكانت اولى الخطوات في ذلك الاتجاه إصدار كتاب محقق شمل كل أغاني «الغيوان»، وقد تحمل عمر السيد مصاريف الكتاب من دون أي دعم رسمي.

وبعيدا عن تاريخ الغيوان ومتعرجات السياسة، يحلو للعديد من المغاربة استحضار بورتريهات رواد الغيوان ومؤسسيها، فمن يكون بوجميع وباطما والسيد وباكو وعلال؟ ماذا قال عنهم الآخرون وماذا قالوا عن أنفسهم؟ هل ثمة امكانية لمحاولة تجميع ملامح فنية وانسانية لهؤلاء الفنانين واعادة رسم صورهم مثلما هي في الواقع وفي المخيال الشعبي والفني المغربي؟

بوجميع: ابن الصحراء الذي حمل دعدوعه (آلة موسيقية تراثية) وغنى في مسرح الطيب الصديقي ثم دلف ذات صباح لمقهى بالدار البيضاء كان يرتاده المثقفون وهناك التقى بالقصاص المغربي الراحل، محمد زفزاف، وحدثه عن حلم كان ما يزال ساعتها جنينيا، تأسيس مجموعة فنية بتصور جديد ونمط مختلف لحنا وأداء وكلمات. لم يثبط زفزاف من عزم بوجميع، ولكن صاحب قصة الثعلب الذي يظهر ويختفي أدرك بالمقابل، حجم التحدي الذي ينتظر مجموعة تريد التجديد والقطع مع الماضي وثوابته الفنية المتحجرة. أسس بوجميع وغنى «فين غادي بيا خويا» و«الصينية» وغيرهما من الروائع، ثم ذات يوم حزين أسلم الروح بعد أن تقيأ دما. رحل الرجل وبقي صداه إلى اليوم في مسامع عشاقه، ولعل سر هذا الفنان هو بالضبط ما لخصه شقيقه محمد حين قال «ربما كان بوجميع يريد قول أشياء أو إيصال أمور وقضايا أكبر من مجرد حمل الدعدوع والصدح بالغناء»، وبرحيل بوجميع دشنت الغيوان بداية علاقتها مع مصيبة الموت التي ستطارد كثيرا من أعضائها.

العربي باطما: ابن منطقة الشاوية المغربية، ارتبطت حياته بالرحيل، فهو ابن رحال ومؤلف سيرته الذاتية «الرحيل»، قبل أن يرحل العربي عن دنيانا، ظهرت مواهبه المتعددة في المسرح والسينما والغناء والزجل.. وبدت الساحة الفنية المغربية كما لو كانت عاجزة عن احتضان كل مواهب هذا الفنان الذي رغم الشهرة التي حققها والحب الذي أحاطه به جمهوره الواسع، ظل يحمل داخله ذلك الفلاح المبدع الذي لم يجد عنوانا لملحمته الشعرية سوى «حوض النعناع».

عمر السيد: يجمع بين ميزتي الفنان والمسير الاداري للمجموعة، اتسع صدره اربعين سنة لنزوعات وأمزجة أعضاء المجموعة. بسيط الهندام والكلام. لم تكن علاقته في البداية جيدة بوسائل الاعلام. كان الجمهور يصعد إلى الخشبة ليلتقط صورا مع باقي أعضاء المجموعة من دون ان يلتفتوا إليه. كانت قامته وملامحه توحيان للناس بعكس ما يختزن قلبه. عمل بنصيحة أحد الاصدقاء واحتك بالتلفزيون الى أن صار وجها يتهافت عليه العشاق في الشارع وفي السيارة والمسرح.

علال يعلى: إنه مجنون الموسيقى، كما يصفه الكثير من الملحنين، صامت أبدا أمام الكاميرا أو الميكروفون.لا يتحدث إلا قليلا إلى الصحف. جاء إلى البيضاء من منطقة هوارة (جنوب)، تعلم الموسيقى بطرق عفوية في البداية لكنه سرعان ما انكب على دراستها ليصبح أستاذا تحج إليه أفواج المريدين. علال، أكبر أعضاء المجموعة سنا، يعرف باتقانه العزف على آلة البانجو التي استخرج منها ألحان خارقة، لكنه يعزف أيضا على عدد كبير من الآلات وبالاتقان ذاته الذي يبين عنه مع الآلات الوترية.

عبد الرحمن باكو: فنان كناوي من عيار ثقيل. حين يغني تأخذه الجذبة ويغمض عينيه تماما. قبل التفنن في الألوان الكناوية و«ملوك الحال»، كان باكو يتفنن في النقش على خشب العرعار. كان الراحل بوجميع يبحث عن عازف ماهر على آلة «هجهوج» فقصد مراكش. كان يريد الاتصال بفنان آخر لكن الأقدار جعلته يلتقي بباكو، فاقترح عليه الاشتغال مع المجموعة. حمل باكو سنتيره وسار خلف بوجميع. لم يناقش ولم يشترط. يحكي باكو في مذكراته أن لقاء جمعه بالمطرب اللبناني مارسيل خليفة فطلب منه الأخير أن يشرح له جملة من أغنية للغيوان تقول:«سنتير يزير انغامو على الحصير، سكب وتعبير»، أي أن آلة السنتير تزأر وتسكب أنغامها وتعبيراتها خلال جلسة يفترش جلساؤها الحصير.فهم مارسيل المعنى وقال له: «لو غنيتم هذه الجملة فقط، لاستحقت الغيوان كل هذه الشهرة». بعد وفاة العربي باطما، فضل باكو أن تلوذ المجموعة بالتأمل وقراءة الذات، بينما دفع الباقون في اتجاه مواصلة المسيرة الفنية. وقع الخلاف وانصرف باكو. هو يقول إنه طرد، وعمر يقول إنه غادر. اختلفت الروايات، لكن الذي لا يختلف فيه الجمهور هو أنه المجموعة أعطت للساحة الفنية المغربية الكثير، وأنها أكبر من أن تصبح مجرد ذكرى. لو كانت «الغيوان» ظاهرة فقط لطواها النسيان، لكن أن تجد شبانا ومراهقين يحفظون أغانيها ويجذبون وراء أنغامها.. فذلك مربط الفرس «الغيواني».