هل الولايات المتحدة هي «قوة امبريالية مهيمنة»، كما يزعم نقادها، أو نموذج عملاق من الفارس الأبيض الذي يدافع عن القانون والنظام العالميين؟
الجواب الذي قدمه مايكل ماندلباوم، استاذ العلاقات الدولية و«الليبرالي» في هذا الكتاب الجذاب يقع في مكان ما بين الاثنين.
يبدأ ماندلباوم، في كتابه الأخير، بإظهار انه ما من نظام عالمي يمكن ان يبقى سليما لفترة طويلة بدون آلية معينة لتنفيذه، ويجري توفير هذه الآليات عبر التاريخ من جانب واحدة أو اثنتين من القوى الكبرى القادرة على العمل بفاعلية خارج حدودها.
بتفكك الاتحاد السوفياتي قبل حوالي 15 عاما، ظهرت الولايات المتحدة باعتبارها القوة الوحيدة القادرة على توفير ما يعتبره ماندلباوم خدمة. فالدولار الأميركي يواصل استخدامه باعتباره العملة الاحتياطية في العالم، وهو موقع لم يجر تهديده فعليا بظهور اليورو، العملة الموحدة لـ 15 من دول الاتحاد الأوروبي، كما أن الولايات المتحدة تساعد على انقاذ الاقتصادات القومية التي تواجه المشاكل من الافلاس عبر هيمنتها على البنك وصندوق النقد الدوليين تكون على صلة قوية بصنع السياسة الاقتصادية في اكثر من 100 بلد في مختلف انحاء العالم.
والقوة العسكرية الأميركية هي التي تضمن تدفق النفط من 24 دولة مصدرة للنفط فقط الى ما يزيد على 180 دولة مستوردة، وبفتحها سوقها ودعمها العجز التجاري الهائل، فإن الولايات المتحدة تتصرف باعتبارها محرك النمو الاقتصادي للكثير من البلدان وخصوصا الصين. وبدون استعداد المستهلك الأميركي لاستهلاك المنتجات من مختلف انحاء العالم فان كثيرا من الدول، وبينها قوى صناعية راسخة، قد تجد نفسها في مواجهة مصاعب.
ولكن ذلك ليس كل شيء، فالولايات المتحدة تطرح باعتبارها عقل الاقتصاد العالمي، وهي تنفق على الأبحاث والتطوير أكثر من جميع الدول الصناعية الأخرى مجتمعة، ومعظم براءات الاختراع المسجلة في كل عام من الولايات المتحدة أو ذات علاقة بمساهمة أميركية.
ومع ذلك فان الناحية العسكرية للولايات المتحدة هي التي تسلط عليها الأضواء باستمرار، فخلال السنوات الخمس الماضية استخدمت الولايات المتحدة تلك القوة للاطاحة بنظامين في افغانستان والعراق، وفرض اتجاه تغيير في حياة ما يزيد على 50 مليونا من المسلمين على بعد آلاف من الأميال عن سواحلها. وما من احد يعرف ما ستصل اليه تجربة افغانستان والعراق بعد 10 سنوات من الان على سبيل المثال، ولكن ماندلباوم يظهر ان الولايات المتحدة لن تكون قادرة على التخلي عن المشاريع التي بدأتها بدون التوثق من نجاحها، ولهذا فان الافتراض في بعض عواصم الشرق الأوسط من أن الرئيس جورج دبليو بوش استثنائي وأن خليفته، سواء كان جمهوريا أم ديمقراطيا، سينظم تراجعا أميركيا، قد يكون تفكيرا رغائبيا من جانب أولئك الذين يشعرون بتهديد تغيير النظام.
وبينما استحوذ التدخل العسكري الأميركي في افغانستان والعراق على الكثير من الاهتمام فان انتباها قليلا يولى الى حقيقة أن الولايات المتحدة موجودة أيضا في 64 من البلدان الأخرى في مختلف قارات العالم، وفي بعض الحالات تخوض هذه القوات سوية مع القوات المحلية حربا ضد الارهابيين والمتمردين.
وربما كان أكثر اهمية ان الولايات المتحدة هي الضامنة لاتفاقات وقف اطلاق النار وصفقات السلام الهشة في الكثير من أنحاء العالم، من النزاع المبهم في ناغورنو كاراباخ الى المجابهة النووية بين الهند وباكستان حول كشمير.
ويزعم ماندلباوم ان الولايات المتحدة توفر «المصالح العامة»، أي الأمن والاستقرار الاقتصادي وحكم القانون، الى العالم بطريقة تشبه الى حد كبير طريقة تقديم حكومة معينة تلك الخدمات الى مواطنيها، ويرى بأن القوة الأميركية هامة بالنسبة للعالم بحيث ان النظام الدولي يمكن أن ينهار بدونها. وقد يبدو كل هذا مقنعا جدا خصوصا بالنسبة لأولئك المطلعين على التاريخ الذي هو سرد للقوى الكبرى وهيمنتها على جيرانها الأصغر والأضعف. ولكن وصف الولايات المتحدة كنوع من «حكومة عالمية» قد يكون غير محتمل الى حد ما، وابتداء فان الحكومة، حتى لو كانت استبدادية، لا يمكن ان تؤدي وظائفها بدون بعض القوة الشرعية، وهذا هو، على وجه التحديد، سبب افتقار الولايات المتحدة اليه كـ«حكومة عالمية». وأيا كانت الشرعية الدولية فانها لابد أن تمر عبر وكالات مختلفة للأمم المتحدة حيث تجد الولايات المتحدة نفسها ضمن أقلية، وحتى الدول التي تنتفع من الحماية الأميركية غالبا ما تصوت ضد الولايات المتحدة على الأقل في سبيل الحفاظ على احترام الذات.
وتتمتع الحكومة الاعتيادية بالسلطة على فرض الضرائب على أفراد بلدها وهو ما تتمتع به الولايات المتحدة كـ«حكومة عالمية»، فكلفة ما يصفه ماندلباوم باعتباره «الحفاظ على الأمن العالمي» غالبا ما يتحملها كليا تقريبا دافع الضرائب الأميركي، بل ان هناك مشكلة أكبر بشأن موضوعة ماندلباوم، فليس من المؤكد اطلاقا ان تورط الولايات المتحدة في عدد كبير من القضايا والأوضاع في مختلف انحاء العالم هو نتيجة استراتيجية قومية مقصودة تحفزها اعتبارات غير أنانية، ففي بعض الحالات اصبحت الولايات المتحدة متورطة بطريقة واسعة في نزاعات صغيرة بسبب ضغوط سياسية داخلية الى حد كبير. وفي حالات اخرى قد يأخذ التدخل الأميركي موافقة حكومة البلد المعني وليس موافقة شعبها. وعلى سبيل المثال تظهر استطلاعات الرأي أن اغلبية الأوروبيين لا يريدون وجود القوات والقواعد الأميركية في القارة، بينما تعتبر حكوماتهم مثل هذا الوجود جزءا أساسيا من مذاهب الدفاع القومي.
واخيرا فانه من غير المؤكد على الاطلاق أن فكرة التصرف كـ«حكومة عالمية» فكرة شعبية بالنسبة للشعب الأميركي كما كانت فكرة شعبية بالنسبة للرومان القدامى، وفي العصر الحديث، بالنسبة للبريطانيين في عز امبراطوريتهم. ان الولايات المتحدة قائمة كجمهورية أكثر منها كامبراطورية، ومن هنا الطبيعة غير المستمرة لتدخلها في الشؤون العالمية. ففي نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1918 ظهرت الولايات المتحدة باعتبارها مهندس نظام عالمي جديد تماما يعتمد على فكرة الرئيس وودرو ويلسون بشأن نشر الديمقراطية وحق تقرير المصير. وبعد أشهر قليلة من ذلك تقاعد ويلسون، واختفت الولايات المتحدة تقريبا من المسرح الدولي. والحجة، بالطبع، هي ان هجمات الحادي عشر من سبتمبر قد غيرت النفسية الشعبية الأميركية، ربما يكون الأمر على هذا النحو، ومن المبكر الحديث عن هذا.
ان اختيار ماندلباوم لغولياث باعتباره تعبيرا عن الولايات المتحدة ليس موفقا، ففي القصة الانجيلية كان غولياث شخصا سيئا ضخما، وقتله داود في خاتمة المطاف، غير انه عبر صفحات هذا الكتاب يصور ماندلباوم الولايات المتحدة باعتبارها بطل الخير الضخم القوي مقابل الآلاف من الأشخاص السيئين الصغار.