مضى اكثر من عشرين عاما منذ ان التقى الرئيسان الأميركي الأسبق رونالد ريغان والسوفيتي الأسبق ميخائيل غورباتشوف لأول مرة في قمة جنيف لكي تبدأ آخر لعبة في الحرب الباردة التي انتهت بسقوط المعسكر الاشتراكي. الحرب الباردة تمر عبر الذاكرة لتدخل التاريخ مثل هزة لكل من يتذكر ربيع براغ ووجه المدينة المتجهم وهي تحت الاحتلال وصواريخ «كروس» و«اس اس 20» منتشرة في أرياف أوروبا مستعدة لتدمير اية مدينة خلال عشر دقائق فقط.
ربما كان طلاب الجامعات اليوم في الخامسة من العمر حينما سقط جدار برلين، والحرب الباردة، ربما لا تعني لهم اكثر من حرب تقع بين مدينة واخرى، كما يقول مؤلف الكتاب جون لويس كاديس، وهو مؤرخ اميركي متميز في الشؤون السياسية الخارجية لما بعد الحرب. ويبدو ان الكاتب يوجه كتابه بشكل خاص الى هذا الجيل الجديد الذي يجد انه من غير المعقول ان تتسبب الحرب الباردة في اشعال حرب نووية لا تبقي ولا تذر وتحول في لحظات كل ما شيده الانسان من حضارة الى حطام. في الواقع ان هذه الدراسة حول الحرب الباردة تفرض نفسها بنفسها وتحفز على التفكير والتأمل لأنها تتميز بحجج عميقة لمؤلف كثف جوهر بحث استمر لعقود طويلة من عمره لكي يضعه في الاخير ضمن نطاق بيئة فلسفية ومسار تاريخي معين. والمؤلف يذهب بتحليلاته الى ابعد من السرد القصصي ليبحث في المبادئ التي تشتمل على نظامين سياسيين متضادين، كل منهما مسلح بطاقة قادرة على انهاء الحياة من على هذا الكوكب.
يرى الكاتب بأن ملامح الحرب الباردة تحددت منذ البداية حين القيت اول قنبلتين ذريتين في اليابان على سكان مدينتي هيروشيما وناكازاكي. ومع ان القنبلة الذرية انتجت لكي تستخدم وتم نشرها، فإن الرئيس الاميركي ترومان والسوفيتي ستالين كانا يحملان نفس الرؤية ازاء موضوع القنبلة الذرية. فقد كتب ترومان ملاحظة لنفسه يقول فيها: «ان الحيوان البشري بنوازعه العاطفية لم يتغير كثيرا من عصر لآخر، لذا فانه يجب عليه ان يتغير الآن والا سيواجه الدمار الشامل والتام، وربما سيخلفه عصر حشري او كوكب من دون غلاف جوي». اما ستالين فقد كان اكثر احكاما حينما قال: «من الصعوبة استخدام السلاح النووي دون ان يؤدي ذلك الى نهاية العالم».
واذا كانت الحرب، كما يقول بعض المراقبين، هي استمرار للسياسات ولكن بمعان ومفاهيم اخرى، فان على السياسيين اذن ان يأخذوا زمام امور السيطرة عليها من الجنرالات والا ستكون العواقب وخيمة. لذلك نرى ان الرئيس ترومان لم يدع البنتاغون يعلم اطلاقا كم من القنابل الذرية تمتلكها الولايات المتحدة الاميركية والتزم كلا الجانبين، دي ترومان والبنتاغون، الصمت حيال الصراع حول كوريا، وقام ترومان بصرف الجنرال دوغلاس ماكارثر من الخدمة العسكرية لكي يضمن بأن لا خيار نوويا هناك. خلال المواجهة التي كانت قائمة بين المعسكر الاشتراكي والغربي اصبحت القوى العظمى اسيرة تحالفاتها الاستراتيجية وكلا الجانبين كانا يكرهان وكلاءهما الكوريين. في اوروبا كان الاميركيون يواجهون موقفا متحديا من فرنسا والاحباط من المانيا. لقد دعم الاميركيون الدكتاتوريات البغيضة من وسط وجنوب اميركا، افريقيا والفيتنام. اما الاتحاد السوفيتي فقد كان غارقا في علاقات ايديولوجية مع الصين التي اصبحت في ما بعد تشكل كابوسا ثقيلا عليه.
كان ماو تسي تونغ لم يزل حليف السوفييت عام 1954، واصر عليهم باجتياح هنغاريا حينما تردد القادة السوفييت في فعل ذلك. وبعد ابداء «مرونة منقطعة النظير» قطع ماو علاقته مع موسكو، وناقش موضوع الرئيس الاميركي نكسون مع طبيبه الشخصي فقال له: «اود التعامل مع اليمينيين. انهم يقولون ما يفكرون به فعلا، وليس مثل اليساريين الذين يقولون شيئا ويقصدون شيئا آخر». وهكذا فان العالم اثناء حقبة الحرب الباردة، كان عالما مقسما ايديولجيا وكتلة من العلاقات المتناقضة.
من هنا كان ابتداع مصطلح «الانفراج» ضروريا خلال سنوات كيسنغر وبريجنيف، ليس بهدف انهاء الحرب الباردة وانما لادارتها. التحالفات غير المستقرة كانت تتطلب من كلا الخصمين ان يتفهم كل منهما للآخر بشكل افضل.
ولأجل انهاء الحرب الباردة ـ يقول مؤلف الكتاب ـ كان ينبغي القضاء على مسألة «الانفراج»، وهذا ما تم تحقيقه، وذلك من خلال فعل تحدي قوى الحتمية التاريخية من قبل بضع شخصيات رئيسية يطلق عليهم المؤلف اسم «الممثلون»: «ريغان، جون بول الثاني، مارغريت تاتشر، فاليسيا وغورباتشوف. اما ريغان فقد كان اشد الاستراتيجيين اطلاقا، وقوته تكمن في مقدرته على النظر خلف التعقيد لتبسيطه».
وهكذا كان سقوط المعسكر الاشتراكي ايضا نتيجة احد «ميكانيكيات» الانفراج، وهو التوقيع في هلسنكي عام 1975، على وثيقة اعلان حقوق الانسان من قبل الاتحاد السوفيتي، غير ان هذا الاعلان اصبح سلاحا في يد المثقفين امثال زخاروف، هافل، وكورون. اما غورباتشوف، فقد اصبح بطلا في كل عاصمة غربية، وفي رأي كاديس، كان يريد انقاذ الاشتراكية ولكن دون استخدام للقوة. لسوء الحظ كان من غير الممكن تحقيق ذلك. وفي النهاية تخلى غورباتشوف عن الايديولوجية وعن الامبراطورية، مانحا الافضلية الى استخدام القوة. وهكذا انهار الاتحاد السوفيتي وانهارت الاسلحة النووية والجيوش الجرارة، وانتهت تلك الحقبة التي اطلق عليها اسم «الحرب الباردة».