المسألة القبطية في مصر

TT

خلال الاسبوعين الماضيين شهدت مصر عددا من الحوادث المتفرقة، التي استهدفت الاعتداء على عدد من كنائس مدينة الاسكندرية. ولم يكن هذا يحدث للمرة الاولى، لان كنائس في الاسكندرية تعرضت لمحاولات اعتداء قبل نحو 5 اشهر. ومع ان الاسكندرية لطالما عرفت بمناخها الليبرالي، واعتدال مزاج اهلها السيaاسي، وبعدهم عن العنف الطائفي، الذي انفجر على دورات في مصر خلال العقود الاربعة الماضية، كان جنوب مصر والقاهرة، هما محطتاه الاساسيتان، الا ان الاحداث الاخيرة تفتح النقاش مجددا حول «المسألة الطائفية» في مصر، فما الذي يدفع بعض المتطرفين من هذا الطرف او ذاك الى اللجوء للعنف؟ وهل يوجد سبب في المناخ العام لمصر، مثل الميل المتزايد للتدين، وما يصاحبه هذا من خطاب ديني في وسائل الاعلام والمساجد، احيانا ما يكون تحريضيا ضد الطوائف الدينية الاخرى. «الشرق الأوسط» تفتح القضية للنقاش بين كاتبين مصريين بارزين مهتمين بالمسألة الطائفية، هما الدكتور رفيق حبيب المفكر القبطي، والاستاذ صلاح عيسى الكاتب المتخصص في الفكر السياسي العربي. يطرح اولا الدكتور حبيب أهم محطات العلاقات بين المسلمين والمسيحيين في مصر. وعلى عكس السائد، يقول الدكتور حبيب ان المواجهات بين المسيحيين والمسلمين في مصر ليست وليدة النصف الثاني من القرن العشرين، على خلفية صعود الجماعات الاسلامية، بل انها موجودة منذ الفتح العربي لمصر، موضحا ان اي مواجهات حدثت كانت على خلفية مطالبات المسيحيين بحرية ممارسة العبادة وحقهم في تنظيم شؤون حياتهم وممارستهم الدينية، ويسرد الدكتور حبيب اهم محطات العلاقة بين الطرفين، صعودا وهبوطا. أما الاستاذ عيسى، فيعطي اولا صورة من قريب للمجتمع المسيحي في مصر، ثم يركز على طبيعة الدولة المصرية منذ ثورة يوليو 1952، وبحث النظام المصري عن شرعية تحت اجنحة الاسلاميين، مما ادى الى اثارة الحساسيات الدينية وصعود المسألة الطائفية على السطح.

* الأحداث الطائفية.. الجذور

* هل كل الأقباط أيدوا الفتح العربي لمصر؟

* د. رفيق حبيب*

* عندما تطل على مصر الأحداث الطائفية من حين الى آخر، يغلب الشعور بالغرابة والتساؤل، وكأنها لم تحدث من قبل. ويميل البعض في هذه الحالات لتصور ما يحدث بوصفه «حالة عارضة»، نبحث لها عن أسباب أو مبررات وقتية، ويرفض تصويرها، وكأنها حالة لها امتداد في التاريخ. لكن الواقع يؤكد أن تفسير الظاهرة في الوقت الراهن، يجب ان يوضع في سياقه التاريخي، لكي يكون التفسير كاشفا عن الحقيقة، من دون أن يكون مجرد تبرير لما يحدث، يجعل من الظاهرة مجرد حالة شاذة، نتصور أنها سوف تنتهي سريعا، أو نتمنى ذلك.

«المسألة الطائفية» المعاصرة، بدأت في مصر منذ عام 1972 بحادثة «الخانكة». ساعتها ربط البعض بين هذه الأحداث الطائفية، ووصول الرئيس الراحل محمد أنور السادات للحكم، وربط بينها وبين اعتلاء البابا شنودة الثالث للكرسي البابوي، وربط بينها وبين ظهور الجماعات الإسلامية التي انتهجت العنف وسيلة للتغيير. والحقيقة أن كل تلك الأحداث تزامنت مع الاضطرابات الطائفية، وتفاعلت معها، ولكنها لم تكن مسببة لها، ولم تخلقها للمرة الأولى في التاريخ. فإذا اردنا فهم الأحداث الطائفية، علينا أن نبحث أولا في التاريخ لنعرف كيف كانت العلاقة بين المسلمين والأقباط في التاريخ الماضي، وبعد الفتح العربي لمصر. فحتى حادثة الفتح العربي، اختلف حولها المؤرخون، واختلفت بالتالي الرؤى المفسرة لما حدث. الرؤية الغالبة ترى أن الأقباط رحبوا بالفتح العربي لمصر، وأن الفتح تم «صلحا» ولم يتم «عنوة». وتلك الصورة يتفق عليها العديد من المؤرخين، بما يجعل لها مصداقية لدى الباحث. ولكن هذا التصور لا يمنع من وجود رواية أخرى، كالتي يرويها الكاتب يوحنا النقيوسي، والتي ترى أن الأقباط قاوموا الفتح العربي لمصر، وظهرت العديد من حركات المقاومة والقلاقل والاضطرابات، حتى تم إخضاع مصر للحكم العربي.

الصورة في مجملها، توحي بأن التصور الواحد ليس صحيحا، وأن الفتح العربي لمصر شهد في جانب منه التراضي بين العرب والأقباط لإخراج المستعمر الروماني، كما شهد حالات لرفض الفتح من قبل بعض الأقباط، وفي بعض المواقع في البلاد. وأهمية هذا الأمر ترتبط بالصورة الوردية التي يحاول البعض أحيانا روايتها، والتي تخفي من الحقيقة أكثر من ما تصرح به. فالعلاقات بين الاقباط والمسلمين في البداية لم تكن وردية، وليس في التاريخ مثل هذه التصورات، ولكن الغالب كان قبول الأقباط للفتح العربي، ورغبتهم في التخلص من المستعمر الروماني.

وفي حادثة الفتح العربي، نرى ضرورة التركيز على سبب قبول الفتح، في نهاية الأمر على كل الأحوال، وهي ترتبط برغبة الأقباط في حماية عقيدتهم من المستعمر الروماني، وهو ما كفله العرب الفاتحون للأقباط، من خلال «الوثيقة العمرية»، التي اقرها الخليفة الثاني عمر بن الخطاب. ولهذا تصبح «حماية العقيدة المسيحية» من أهم العوامل المؤثرة على العلاقة بين المسلمين والأقباط. فكلما شعر الأقباط بتهديد يهدد عقيدتهم، كلما تصرفوا بـ«صورة دفاعية»، أيا كانت حقيقة تلك التهديدات. وإذا عدنا للتاريخ في ما بعد الفتح العربي لمصر، وفي العصور الوسطى تحديدا، نجد أن أحداث التاريخ قد شهدت أعمال عنف طائفي على مراحل متباعدة أحيانا، ومتتالية أحيانا أخرى. وتلك الأحداث في الواقع تساهم في فهمنا لما يحدث الآن. لأنها أولا تؤكد أن أحداث الفتنة الطائفية كما تسمى، ليست وليدة القرن العشرين، وليست بالتالي نتاج مناخ السبعينات من القرن الماضي، ولكنها نتاج ظروف وعوامل، مرت بنا عبر التاريخ، وكلما تكررت تلك الظروف في أي صورة من الصور، تكررت أحداث العنف الطائفي.

واللافت للنظر مثلا، أن الأحداث الطائفية التي شاهدتها مصر إبان حكم المماليك، تميزت بدرجة من العنف، أكثر بكثير مما يحدث الآن، حيث كان يترتب عليه حرق أحياء بكاملها، أو حرق العديد من دور العبادة، سواء المساجد أو الكنائس. ولا يقال هذا للتقليل من شأن ما يحدث الآن، أو ما حدث في الإسكندرية خلال الاسابيع الماضية، ولكن لسرد تلك الوقائع لبيان مدى غياب «الصورة التاريخية» في الشأن الطائفي، لدرجة تجعلنا «نحكي تاريخا جديدا» للعنف الطائفي غير مرتبط بالأحداث التي عاشتها مصر. وتلك الأحداث، وإن مر عليها العديد من القرون، إلا أنها تبقى في الوعي الجمعي، كما أنها تتيح لنا تفسير ما يحدث، أكثر من مجرد اعتباره عارضا غير مسبوق تاريخيا.

وإذا راجعنا مثلا الدراسة المهمة للدكتور قاسم عبده قاسم بعنوان «أهل الذمة في مصر.. العصور الوسطى»، نجده يسرد لنا العديد من أحداث العنف الطائفي، التي دارت بين المسلمين والأقباط في مصر، والتي وضعها تحت عنوان القلاقل والاضطرابات. حيث يقول مثلا «وتمثل حوادث سنة 721هـ أحد الأسباب المباشرة في قيام بعض النصارى بحوادث العنف وإشعال الحرائق، ردا على هدم بعض كنائسهم، كما أن حوادث ذلك العام تعتبر في الوقت ذاته نتيجة للأفعال ذات الطابع الانتقامي العنيف التي قام بها بعض المسيحيين. وكانت أعمال الحرائق والتخريب التي أشعلتها أيادي فريق من النصارى، سببا في اندلاع نار الشحناء والعداوة ضدهم، وتكررت حوادث الاضطرابات في فترات لاحقة، كما تنوعت الأسباب التي أدت إليها من حين لآخر وكانت أنباء الاضطهادات التي يلقاها مسلمو الحبشة على يد مليكها المسيحي وجيشه والفظائع والمذابح التي عانى منها المسلمون الأحباش، تنذر برد فعل خطير من جانب سلاطين المماليك في مصر، الذين اعتبروا أنفسهم ـ بوصفهم أصحاب أكبر قوة إسلامية في ذلك العصر ـ حماة العالم الإسلامي والمدافعين عن المسلمين أينما وجدوا، وكان السلاطين يجدون في رعاياهم المسيحيين وسيلة يضغطون بها على الأحباش للتخفيف عن المسلمين في الحبشة».

ليست هذه الصورة، سوى لقطة واحدة للعديد من الأحداث التي تمت في عهد المماليك، وغيرها مما حدث في عصور سابقة كالعصر الفاطمي والعصر الأيوبي. ففي العصر الفاطمي الثاني، حوالي عام 479هـ اصدر الخليفة أمرا لتمييز النصارى عن المسلمين، بعد ما استفحل دورهم وثرواتهم، واستفزوا العامة من المسلمين. وفي أثناء الحملة الفرنسية على مصر أواخر القرن الثامن عشر، نجد المعلم يعقوب يؤيد الحملة الفرنسية، ويعتبره البعض رائدا للاستقلال المسيحيي، لكن أقباط مصر وقفوا مع المسلمين ضد الحملة الفرنسية وضد المعلم يعقوب. وقبل ذلك التاريخ، نجد الكثير يقال عن الحملة الصليبية على المنطقة، وكيف وقف المسيحيون ضدها، وكيف اتهموا بالكفر من قبل مسيحي الغرب.

وفي العصر الحديث، ومنذ السبعينات من القرن العشرين، بدأت الطائفية تطل من جديد، وتفتح صفحة جديدة من تاريخها في مصر والمنطقة. حدثت الواقعة الأولى عام 1972، حيث بدأ بناء كنيسة او إقامة الشعائر في بناء غير مصرح له ككنيسة يثير قلاقل، وهاجم المسلمون المبنى. وهو أمر تكرر بعد ذلك كثيرا، وحدث عام 2006 في الأقصر. وعبر تلك الفترة نجد العديد من الأحداث التي تدور حول بناء الكنائس، ولن نركز على الوقائع التفصيلية، بل على الصورة الكلية، والتي تدور حول بناء الكنائس وحرية ممارسة العقيدة، والتي تعيدنا للفتح العربي لمصر، وتؤكد على أن مسألة حرية ممارسة العبادة، من القضايا الأساسية التي تحدد شكل العلاقة بين المسلمين والمسيحيين. وتكرر أحداث العنف الطائفي في الزاوية الحمراء بمدينة القاهرة، في عام 1981، ونجد هنا أننا بصدد أحداث شعبية، لا تقوم بها تنظيمات. ولم يكن للجماعات الإسلامية يد فيها. ولكنها عبرت عن تفجر العنف الطائفي لدى عامة الناس. وفي إحداث الزاوية الحمراء، كما في غيرها من الأحداث تلعب «الشائعات» دورا محوريا في تأجيج المشاعر الطائفية لدى كل الأطراف، حتى يصعب في النهاية التمييز بين الجاني والمجني عليه.

ثم جاءت حقبة الثمانينات من القرن العشرين، وفي منتصفها تقريبا، تبدأ مرحلة الأحداث الطائفية والتي تقوم بها الجماعة الإسلامية، أو تنظيم الجهاد. وهي فترة تختلف عن غيرها من الفترات، حيث ترتبط الأحداث بتنظيمات بعينها. وحتى ما حدث في مناطق «أبو قرقاص» و«الفكرية» من حرق لعديد من ممتلكات الأقباط، في جنوب مصر، في أواخر الثمانينات، كان يدور حول شائعات تطلق عن الأقباط، ويكون لتنظيم الجماعة الإسلامية دور فيها، ولكن في الأحداث تختلط الأمور، ويظهر العنف الطائفي الشعبي.

ولم تلبس الصورة بأن عادت لطبيعتها الشعبية الخطيرة. ففي أحداث الكشح التي بدأت عام 1998، وتكررت في العام التالي، في ما سمي بالكشح الأولى والثانية، عادت مرة أخرى الأحداث الطائفية ذات الطابع الشعبي، والتي تتميز بالعنف الواضح، حيث المشاجرات بين الجانبين، والتي تنتهي بعدد من القتلى. وتتكرر الأحداث ما بين احتجاج الأقباط على صحيفة النبأ، والتي نشرت صورة مسيئة لرجل دين مسيحي في عام 2001، وأحداث ما عرف بإسلام وفاء قسطنتين في عام 2005، والتي عادت للمسيحية كما قيل، وسلمت للكنيسة، لتظل رهن الإقامة في الدير. ومنذ أحداث وفاء قسطنتين، والحوادث تتسارع، لدرجة تنبئ بأننا أمام صدام طائفي كبير، قد يحدث في المستقبل القريب.

تبين لنا من الأحداث المتكررة عبر التاريخ، أن الظلم الواقع على عامة الناس، هو السبب الأول للعنف الطائفي. فكلما كان النظام السياسي عادلا، واستطاع رفع المظالم عن الناس، قل احتمال العنف الطائفي. بما في ذلك تحقيق العدل بين المسيحيين والمسلمين في شؤون العبادة وإقامة دور العبادة. والسبب الثاني يتعلق بالتدخل الخارجي، والذي يثير حالة طائفية، خاصة إذا كان الطرف الخارجي مسيحيا. ولعل انتشار الفقر يكون أيضا من أسباب تزايد التوتر الاجتماعي. فالعنف الطائفي ينتج من حالة تفكك في الوعي لدى الجماعات المشكلة للجماعة المصرية، وعندما يتزايد الانتماء الفرعي ويضعف الانتماء العام، يزيد التوتر الداخلي، وتتزايد احتمالات العنف الطائفي.

* كاتب ومفكر مصري قبطي

* الكنيسة.. حزب سياسي

* بعد أن أوصدت الدولة أبوابها .. واضطر الأقباط للانسحاب من الحياة السياسية

* صلاح عيسى*

* تصاعد الحديث عن «المسألة القبطية» في مصر، منذ سبعينيات القرن الماضي مع انتقال السلطة للرئيس الراحل أنور السادات على نحو بدا معه كأن هذه المسألة لم يكن لها وجود قبل هذا التاريخ، بينما الحقيقة أن الانفراجة الديمقراطية المحدودة، التي شهدتها مصر في بداية عهد السادات هي التي أتاحت الفرصة للكشف عن كثير من التناقضات التي يمر بها المجتمع المصري، كانت مكتومة تحت السطح الذي يبدو هادئا في ظل سياسة «الوحدة القسرية» التي كانت سائدة في عهد سلفه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وهي سياسة أممت ـ أو بمعنى آخر صادرت ـ كل أشكال التناقض، من «التناقض الطبقي» إلى «التناقض الطائفي» ومن «التعددية الفكرية» إلى «التعددية الحزبية». منذ ذلك الحين برز على السطح ما بات يعرف الآن بالمسألة القبطية، التي تجمع بين شكاوى الأقباط ومطالبهم، وهي تنطلق من اعتقاد الأقباط، أن هناك تمييزا ضدهم تمارسه الأغلبية المسلمة، على الرغم من أنهم ـ طبقا لتقديراتهم يشكلون حوالي 16% من جملة عدد السكان (12 من 72 مليونا).

من بين مظاهر هذا التمييز، يرصد الأقباط: وضع قيود على حقهم في إنشاء ـ بل ومجرد ترميم ـ الكنائس، وفي استبعادهم ـ على خلاف القانون وطبقا لأعراف سائدة ـ من الالتحاق ببعض معاهد التعليم كالكليات العسكرية وكلية الشرطة، ومن العمل في بعض المؤسسات الحساسة كالشرطة والقوات المسلحة والنيابة العامة، وتجاهلهم عند اختيار من يشغلون مناصب الإدارة العليا في هذه المؤسسات وغيرها من مؤسسات السلطة التنفيذية كالمحافظين ورؤساء المدن والأحياء ورؤساء تحرير الصحف القومية، واقتصار الحقائب الوزارية التي يشغلونها على مقعد أو اثنين من بينهم أكثر من 30 وزيرا، فضلا عن شيوع مناخ أدى منذ أول انتخابات برلمانية أجريت في مصر بعد ثورة يوليو 1952 إلى تناقص عدد الأقباط الذين يفوزون في الانتخابات العامة، مما اضطر الراحل عبد الناصر إلى إضافة نص إلى دستور 1964، يجيز لرئيس الجمهورية تعيين عشرة أعضاء في المجلس النيابي بعد أن كشفت نتائج الانتخابات التي أجريت في ذلك العام، عن عدم فوز أي قبطي وهو نص لا يزال يستخدم لتعيين عدد من الأقباط في المجالس النيابية حتى اليوم. وكان مما عقَد المسألة القبطية خلال عهد السادات انه ما كاد ينتصر على شركائه في السلطة من ورثة عبد الناصر وينفرد بها دونهم، حتى اتجه للتحالف مع جماعات الإسلام السياسي، فأطلق لها حرية النشاط لتصفى جماهيرية الناصريين واليساريين من المؤيدين لسياسات سلفه، فانتهزت هذه الجماعات الفرصة، لتضيف إلى هذا الهدف المشترك، هدفا خاصا بها، وهو التصدي للأقباط، باعتبارهم الضلع الثالث في مثلث أعدائها الذي كان يضم ـ آنذاك ـ الشيوعيين واليهود والأقباط. وهكذا تطور الخلاف من مستوى التباين في وجهات النظر بين الطرفين حول حقوق قانونية ودستورية إلى مستوى التوتر بين طائفتين دينيتين اخذ أشكالا من العنف، شملت سعي بعض الأقباط لإنشاء كنائس جديدة، بعيدا عن القيود التي توجب عليهم استصدار قرار جمهوري بذلك، باستخدام بعض المنازل التي يملكونها، او مباني الجمعيات الخيرية التي يؤسسونها، إلى أماكن للصلاة، تمهيدا لتحويلها إلى كنيسة تقوم بحكم الأمر الواقع، ليتصدى فريق من المسلمين ـ بتحريض من أعضاء الجماعات الإسلامية ـ لهدمها او حرقها، فتنشب المعارك بين الطرفين، كما شملت اتهامات متبادلة بينهما، بسعي كل منهما لإغواء اتباع الطرف الآخر لترك دينه.

وكان من بين ما أشعل هذا التوتر أن الرئيس السادات في حرصه على إرضاء الجماعات الاسلامية التي تدعم نظامه، لم يكتف بأن يضمن دستور 1971 ـ كغيره من الدساتير التي سبقته ـ نصا يقضي بأن «الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية»، بل أضاف إليه النص على أن «مبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع» لتقود هذه الجماعات حملة لتحويله إلى مشروعات قوانين، كان من بينها قانون الردة، الذي أحيل إلى مجلس الشعب لإقراره في خريف عام 1977، فأثار اعتراض الكنيسة، لأنه كان يحظر على المسلم ان يغير دينه، بينما لا يحظر ذلك على غيره من أتباع الأديان الأخرى. وأعلن بطريرك الأقباط البابا شنودة الثالث، احتجاجه على القانون، بأسلوب أصبح معروفا عنه بعد ذلك، اذ اعتكف في الدير، وأمر بعدم اقامة قداس عيد القيامة، إلى أن انفرجت الأزمة، وسحبت الحكومة مشروع القانون.

كما كان من بين عوامل تصعيد هذا التوتر أن قيادة الكنيسة، كانت قد انتهت ـ آنذاك، 1972، ـ إلى البابا شنوده الثالث، الذي لم يتعامل ـ كأسلافه ـ مع ملف حقوق الأقباط عبر مفاوضات في الكواليس او وسطاء من الأقباط العلمانيين ـ بل تصدر المشهد كمدافع عن هذه الحقوق ـ ليلتف الأقباط ـ الذين أقلقهم تصاعد نفوذ التيار الذي ينشط في اتجاه اقامة دولة إسلامية ـ حوله، وبذلك تدعمت صورته كأب روحي للأقباط وزعيم سياسي لهم، بينما كانت مشيخة الأزهر قد انتقلت آنذاك 1973 إلى فضيلة الشيخ عبد الحليم محمود الذي استغل حاجة النظام إلى المؤسسة التي يرأسها لإضفاء القداسة على حركته ضد خصومه الشيوعيين والناصريين ليحقق لها مكاسب جديدة، ويحول «الأزهر» من مسجد ومعهد تعليمي إلى ما يقرب من «مرجعية دينية» لنظام الحكم.

وأدرك السادات ـ متأخرا ـ أن المناورة التي أراد من ورائها ان يوظف الإسلام في معركته ضد خصومه، قد أسفرت عن أعراض جانبية، تمثلت في احتكاكات طائفية وصلت إلى حد الاحتراب في حوادث الزاوية الحمراء، يونيو 1981، واضطرته إلى ان يوسع من نطاق أعدائه، وأن يشن في 5 سبتمبر 1981 حملة اعتقالات شملت الجميع من نشطاء الجماعات الإسلامية، ودعاتها البارزين، إلى عدد من الأساقفة ورجال الدين الأقباط، (فضلا عن عزل البابا شنودة نفسه، ونفيه إلى الدير)، ومن الناصريين والشيوعيين، إلى قادة أحزاب المعارضة المدنية الآخرين في أحزاب «الوفد» «والعمل» «والتجمع»، ليتهم الجميع بأنهم شركاء في مخطط لإثارة الفتنة الطائفية، ويجابههم بشعار «لا دين في السياسة.. ولا سياسة في الدين»، وهي الحقيقة التي تنبه لها بعد فوات الأوان، وبعد أن انفلت عيار التطرف والتزمت، على نحو جعل هذه العبارة، من بين مبررات الحكم بكفر «السادات» ومبررات اتخاذ قرار اغتياله.

ومع أن جانبا من التوترات الطائفية هبط في السنوات الأولى من عهد الرئيس حسني مبارك، نتيجة لما أصاب كل الأطراف من وهن، بسبب حدة المواجهات التي جرت عام 1981، إلا أن المسألة القبطية عادت للبروز مرة أخرى، مع استئناف الجماعات الإسلامية المسلحة لحربها ضد النظام بهدف إسقاطه، إذ اتخذت بعض عملياتها الإرهابية من كنائس الأقباط ومتاجرهم وأشخاصهم، أهدافا لضرباتها، في سياق تقديرها بأن هذا سوف يدفعهم للهجرة، لتخلص مصر للمسلمين وحدهم، وبأنه كفيل بأن يثير ضجة إعلامية عالية، تبرز قدرتهم، وتخلخل ثقة الأطراف الدولية التي تساند النظام في مدى قدرته على الإمساك بزمام الأمور.. فتضطر للتعامل معهم باعتبارهم البديل له.

وكان من بين تداعيات ذلك، ظاهرة هجرة الأقباط، التي بدأت في ستينيات القرن الماضي بعناصر من الرأسماليين الأقباط، الذين أممت ممتلكاتهم آنذاك بالقرارات الاشتراكية، تزايدت لتشمل المهنيين، ثم اتسعت بشكل مطرد مع تزايد نفوذ الجماعات الإسلامية، لتضيف إلى الأسباب الاقتصادية أسبابا دينية. وبتحول أقباط المهجر إلى ظاهرة، سعت الكنيسة الارثوذكسية لبسط سلطتها الروحية إلى تأسيس كنائس لهم في مهاجرهم، يعين البابا من يقوم بالخدمة فيها من الأساقفة والقسس، وهو ما ساهم في بروز «أقباط المهجر» كجماعة ضغط على الصعيدين المحلي والدولي، تتبنى خطابا اكثر حدة مما يتبناه أقباط الداخل، يرتفع بسقف مطالبهم إلى حده الأقصى، ويسعى ـ وسط اعتراض خجول من أقباط الداخل ـ لتدويل المسألة القبطية.

كما كان من بين تداعياته كذلك، أن الدولة عجزت عن العودة بالمسألة القبطية، إلى حجمها الحقيقي بوصفها قضية تتعلق بحقوق قانونية، وبدا رد فعلها بطيئا إزاء الاستجابة لمطالب الأقباط التي تدخل في هذا النطاق، مثل إلغاء القيود على ترميم الكنائس وإصدار قانون موحد لدور العبادة وإدراج الأعياد الدينية للمسيحيين ضمن الأعياد الرسمية القومية التي يعطل فيها العمل في الدوائر الرسمية، أسوة بالأعياد الإسلامية، والتصدي بحزم لروح التمييز ضدهم، التي تسود بين المتعصبين من المسلمين الذين يشغلون المراكز الوسطى في الجهاز الإداري للدولة، على نحو أثار انطباعا غير صحيح، بأنها تتبع سياسة التمييز ضدهم، في حين أن بطء الإيقاع في الاستجابة لهذه المطالب كان محاولة لإيجاد نقطة توازن بين الطرفين، في مواجهة انتشار روح التعصب بين جماهير المسلمين، وانتظارا لفرصة ملائمة يخف فيها التوتر لتوقي أن تؤدي إلى مزيد منه، وهي خطة أدت في الواقع إلى حدوث ما تخوف منه الذين اتبعوها.

هكذا بالفعل ورد الفعل، وبطء المعالجة تعددت الاحتكاكات الطائفية بين المسلمين والأقباط، وتعقدت المسألة القبطية خاصة في ظل مناخ عالمي، أصبحت فيه مسائل الأقليات الدينية والعرقية على رأس أجندة المجتمع الدولي، بل وأصبح الأقباط أنفسهم يقبلون ما كانوا يرفضون قبل ذلك، فلم يعودوا ـ وخاصة أقباط المهجر ـ يرفضون الضغوط الدولية بالحدة نفسها التي كانوا يرفضونها بها من قبل، أو يستنكرون فكرة المحاصصة الطائفية، بل أصبحوا يطالبون بتخصيص نسبة من مقاعد البرلمان ومن الحقائب الوزارية، ومن المحافظين، توازي نسبتهم من عدد السكان. أما المؤكد، أولا ـ فهو أن الأخذ بالمحاصصة الطائفية لن يحل المسألة القبطية بل سيزيدها، وسيزيد من مشاكل مصر كلها تفاقما.. إذ هو يرسخ المناخ الذي يتجذر تدريجيا، ويكمل تحويل المجتمع المصري من مجتمع سياسي إلى مجتمع طائفي، ومن دولة وطنية إلى دولة طوائف.

أما المؤكد ـ ثانيا ـ فهو أنه لا حل للمسألة القبطية الا بالعودة إلى أصل نشأة هذا الدور منها، وهو يعود إلى الزمن الذي ألغت فيه ثورة 23 يوليو 1952 التعددية الحزبية السياسية، وفرضت الوحدة القسرية على المصريين، فاضطرت الأقباط للانسحاب من الحياة السياسية التي كانوا يتوزعون بين أحزابها، ويتركزون بشكل خاص في حزب «الوفد» الذي كان يتبنى خطا وطنيا ليبراليا علمانيا. ويحققون مطالبهم عبر ذلك، لينتهي بهم الأمر، وقد أصبحت الكنيسة هي حزبهم، وأصبح البابا أباهم الروحي، وزعيمهم السياسي، وهو ما حدث للمسلمين الذين أصبح المسجد هو حزبهم السياسي، وأصبح المشايخ المحترفون والهواة، هم أعضاء المكتب السياسي لأحزابهم. باختصار ووضوح وصراحة: لا حل للمسألة القبطية ـ أو بمعنى أدق للمسألة الطائفية إلا بعودة المجتمع المصري ليكون مجتمعا سياسيا ينقسم الناس فيه «أحزابا» وليس «أديانا».

* كاتب مصري متخصص في الفكر الاجتماعي والسياسي العربي