روايات متضاربة حول صحافي مصري لجأ إلى إسرائيل واختفى بعد اعتقال وجيز في بيت لحم

ابنته مطربة شهيرة في إسرائيل ولم تكتشف جذورها العربية إلا بعدما أصبح عمرها 14 سنة

TT

في أواخر الستينات كان الشاعر والصحافي المصري، نبيه سرحان، يعمل في اذاعة «الشرق الأوسط» بالقاهرة، حيث ذاع صيته عبر برنامج «تأملات» الذي كان يردد فيه أشعارا باللهجة العامية، معظمها من تأليفه، أو عبر برنامج «دعاء» الذي كان يطل منه على المستمعين طوال شهر رمضان، مطلقا فيه ما كان يغيظ السلطات من أفكار وتعابير، خصوصا بعد هزيمة العرب أمام اسرائيل في حرب 1967 التي شارك في معاركها في سيناء، لذلك واجه متاعب بديهية على كل صعيد، فقرر المغادرة الى لبنان، مختفيا فجأة هو وزوجته المصرية، نبوية ابراهيم موسى، التي اقترن بها، قبل الحرب بعام، عن معارفه وعائلته وذويه، ولم يعد يظهر لهما أي أثر.. كان ذلك في أواخر 1968 تقريبا.

لكنه لم ينتقل الى لبنان، بل غادر الى ليبيا، حيث بقي أشهرا، اختفى بعدها من هناك فجأة أيضا، ليتضح في ما بعد بأنه توجه منها الى اليونان، حيث كان له في سفارة كوبا بأثينا صديق دبلوماسي، سمع منه شكواه مما آلت اليه أحواله وما بدأ يعانيه، ومنه على الأقل أن زوجته، وعمرها 16 سنة ذلك الوقت، حامل في شهرها الثالث ببكر أبنائها، وليس لديهما مال، ومن المستحيل عليهما العودة الى القاهرة، فاقترح عليه الدبلوماسي الكوبي أن يطلب اللجوء من اسرائيل، وقدمه الى أحد نظرائه الدبلوماسيين في سفارتها هناك، وكان من اليهود المصريين، فاقترح عليه الأخير اللجوء سياسيا الى اسرائيل. وحين وصل الى هناك قال لمن تولى أمره بأن الذي قاده الى دولة عدوة هو خلاف بينه وبين الزعيم المصري الراحل، جمال عبد الناصر، فلم يخوضوا معه بما قال، لكنهم استطاعوا تأمين مسكن له في منطقة بئر سبع، حيث أبصرت بكر أولاده النور بعد 6 أشهر، ومن بعدها حولوه للعمل في القسم العربي بالاذاعة الاسرائيلية في القدس، ثم منحوه بعد ذلك جنسية الدولة التي لجأ اليها، ومعها اسم جديد يعيش فيه دائما متخفيا: يوسف سمير.

في اسرائيل أقام يوسف سمير مع زوجته وأولاده الستة، ممن أبصروا النور هناك، في أحياء يهودية.. عاشوا كعائلة من اليهود تماما، الى درجة أن ابنته «حيا» وهي بكر أبنائه، البالغ عمرها الآن 32 سنة، لم تكتشف بأنها عربية من مصر، وكذلك مسلمة «الا عندما أصبح عمري 14 سنة» وفق ما روت وهي تتحدث عبر الهاتف أمس الى «الشرق الأوسط» من حيث تسكن العائلة في حي جيلو، الواقع بين القدس الغربية وبلدة بيت جالا، الخاضعة للسلطة الفلسطينية بالضفة الغربية.

هذا ما ترويه زوجته المصرية السابقة، نبوية ابراهيم موسى، التي أصبح اسمها «ليللي» على هويتها الاسرائيلية، وكذلك ابنته حيا، المطربة الشعبية الشهيرة التي تزوجت مدنيا في قبرص قبل 6 سنوات من اسرائيلي، يعمل الآن سمسار عقارات بتل أبيب، ولهما ابن، وعلى الطريق آخر. وهذا ما قالته أيضا زوجته الفلسطينية الحالية، عناد رباح، البالغ عمرها 39 سنة، وكذلك بعض زملائه في القسم العربي بالاذاعة الاسرائيلية، ممن طلبوا عدم ذكر اسمائهم.. جميعهم تحدثوا عما كان يوسف سمير في اسرائيل وكيف اعتقله الأمن الفلسطيني، الا أن أحدا منهم لم يتطرق الى ماضيه في مصر قبل اللجوء الى اسرائيل. الرجل الذي اعتقله الأمن الفلسطيني يوم 3 إبريل (نيسان) الحالي، كان عاملا في القسم العربي بالاذاعة الاسرائيلية طوال 33 سنة. لكن بعض الصحف الاسرائيلية زعمت انه لم يكن قبلها في مصر سوى ضابط في الجيش في أوائل الثمانينات، مزاعم عن انه كان عميلا للموساد وسلم اسرائيل أسرارا عسكرية عن مصر.. حدث ذلك، طبقا لرواياتها، بعد أن «تاهت» سيارة جيب عسكرية مصرية قبل حرب 1967 بأسبوعين، يقودها الضابط نبيه سرحان، الذي ظنه الجيش المصري ميتا مفقودا، في حين أنه كان حيا يرزق في السر باسم يوسف سمير في اسرائيل، الى أن اتضح كل شيء بعد مفاجأة لا تخطر على البال: في 1978 زار الرئيس المصري الراحل، أنور السادات، اسرائيل ونزل من سلم الطائرة ليصافح مستقبليه على مدرج مطار بن غوريون في تل أبيب.. فجأة وقف أمام أحدهم قدمه اليه رئيس التشريفات في الخارجية الاسرائيلية على أنه «يوسف سمير.. مصري من القسم العربي في الاذاعة الاسرائيلية». لكن ذاكرة السادات عادت 10 سنوات بسرعة الى الوراء وهو ينظر اليه.. تذكره مندهشا وقال له: «هو.. هو إنت لسه طيب»؟

ذلك الرجل الأربعيني، كان كما ذكرت الصحف الاسرائيلية، الضابط الفار من مصر نبيه سرحان، أو الاذاعي الملقب بـ «ابن الريف» في اسرائيل، أو الصحافي والشاعر يوسف سمير، المختفي منذ اعتقله الأمن الفلسطيني يوم 3 ابريل (نيسان) الحالي لملاسنة حدثت بينه وبين شرطي فلسطيني قرب فندق في بيت لحم، وقالوا إنهم أطلقوا سراحه بعد يوم، وهو ما اعتقدته السلطات الاسرائيلية أيضا، لكنها نفت ذلك في ما بعد، وقالت إن عناصر فلسطينية أخرى قد تكون اختطفته فور الافراج عنه، وبالتنسيق مع قوات الأمن الفلسطينية، أو من دون تنسيق معها، ومن بعدها اغتالوه. في حين تقول عائلته إنهم ما زالوا يحتجزونه في مكان ما، أو ربما تم تسليمه للمخابرات المصرية.

وكانت صحيفة «معاريف» الاسرائيلية ذكرت بعد اعتقاله بأسبوع أن مصادر أمنية اسرائيلية أخبرتها بأنه شوهد في القدس الغربية مباشرة بعد اطلاق سراحه. لكن مصادر أخرى عادت وكذبت النبأ، مشيرة الى أنه لو ظهر فيها فعلا لكان عاد الى منزله وذويه على الأقل، مؤكدة أن محاولاتها في العثور عليه، أو معرفة شيء عنه من المسؤولين الفلسطينيين، وصلت الى طريق مسدود، فالأمن الفلسطيني يصر على أنه أطلق سراحه، وعائلته لا تصدق، لذلك كتب أبناؤه للرئيس عرفات، رسالة يناشدونه فيها بالافراج عنه. الا أن العائلة لم تعلم في ما بعد شيئا عن تساؤلاتها في الرسالة، فكتبت ما يشابهها للعاهل الأردني، الملك عبد الله الثاني، كما قام الوزير الاسرائيلي السابق، يوسي بيلين، بزيارة الرئيس الفلسطيني قبل أسبوعين في رام الله، وتطرق معه لشؤون عدة، من بينها قضية يوسف سمير. الا أنه عاد بالجواب نفسه: الأمن الفلسطيني لم يعد يعلم عنه شيئا منذ اطلق سراحه في اليوم التالي.

بعدها بيومين زارت ابنته، المطربة حيا، مقر الصليب الأحمر في القدس، وسلمت القيّمين عليه أدوية للقلب، اعتاد والدها على تناولها، باعتبار أنه أجرى عملية صمام مفتوح في القلب قبل عام، طالبة منهم التدخل والعمل على اطلاق سراحه. ومنذ يومين رصدت العائلة، التي تفكر بطلب المساعدة من الأمم المتحدة، جائزة قيمتها 50 ألف دولار لمن يدلي بمعلومات تساعد بالعثور على المختفي منذ 3 أسابيع، برغم أن أوضاعها المالية سيئة.

وقد اتصلت «الشرق الأوسط» بالعقيد جبريل الرجوب، مسؤول الأمن الوقائي في الضفة الغربية، لتقف عما لديه من معلومات حول يوسف سمير، أو الضابط سابقا نبيه سرحان، فاندهش عبر الهاتف من مقره في رام الله لرواية الصحف الاسرائيلية عنه قبل 20 سنة، وطلب رجوب إذنا من «الشرق الأوسط» بالانتظار بعض الشيء عبر الهاتف، ليتصل بمصادر مخابراتية في مصر، ممن أكدت له ما نقله الى «الشرق الأوسط» في ما بعد، وهو أن يوسف سمير هو نفسه نبيه سرحان، الا أنه لم يكن ضابطا في الجيش المصري، بل عاملا في الاذاعة بالقاهرة، وأنه طلب اللجوء الى اسرائيل في 1968 عندما غادر مصر الى اليونان، أي كما قالت ابنته المطربة حيا، التي أكدت أنها سبق وقرأت في صحف اسرائيلية اتهامات عن والدها بأنه سرب أسرار مصر العسكرية الى إسرائيل، لكنها تصف هذه الاتهامات بأكاذيب.

أما عن الجيب العسكري الذي «تاه» في سيناء قبل أسبوعين من حرب 1967 بين العرب واسرائيل، فقالت المصادر المخابراتية المصرية للعقيد الرجوب، إن يوسف سمير لم يكن من بين من كانوا داخل تلك السيارة العسكرية اطلاقا، وإنه بريء من تسريب أي معلومات للاسرائيليين.

وأكد العقيد الرجوب إن يوسف سمير اعتقل لساعات فقط يوم 3 الحالي، ثم أفرج الأمن الفلسطيني عنه «ومن بعدها لم يعد من مسؤوليتنا» كما قال. وذكر الرجوب إن الرئيس الفلسطيني، ياسر عرفات، سأله عنه قبل أسبوع، فنقل اليه ما قاله لـ«الشرق الأوسط» الآن، من أن يوسف سمير استمر معتقلا لدى الشرطة الفلسطينية لساعات قليلة فقط، وإنه لم يعد من مسؤوليتها منذ أطلقت سراحها بعد ذلك.