كرة القدم اللبنانية شيعية وسنية ودرزية ومسيحية

TT

الازمة الكروية ـ السياسية التي هزت لبنان اخيراً دفعت احد الصحافيين الى اعتبارها تطوراً قد يبشر بالخير. وبرّر ذلك الصحافي «تفاؤله» بقوله ان إقدام الاتحاد اللبناني لكرة القدم على إصدار عقوبات واسعة وثقيلة بحق من اتهمهم بالتلاعب بالنتائج يشير الى ان البلد بات جاهزاً لتسمية الاشياء بمسمياتها، والتحرك متجاوزاً المحاذير الطائفية والميل الدائم الى الاسترضاء و«تغييب الفاعل».

الواقع، انه في كل دول العالم تنطلق الاندية الرياضية من ولاءات ضيقة تنمو وتتسع دوائرها مع نموها واتساع محيطها. وقد تكون تلك الولاءات الاوّلية عائلية او محلية (ضمن حدود والمحلة او الحي) او عشائرية او طائفية او دينية، او حتى قومية ـ كحال تنافس ريال برشلونة وريال مدريد في اسبانيا.

مثل هذه الولاءات الضيقة في ظروف طبيعية تعطي الرياضة مذاقاً خاصاً يزيدها حلاوة وحيوية وتلوناً. ولكن عندما يتحول الولاء الى تعصب ضيق تتغير المعادلة. فإما تنقلب الملاعب ومدرجاتها الى ميادين قتال، او تتحول كواليس الاندية وغرفها المغلقة المظلمة الى مطابخ مؤامرات وفساد وتبادل منافع ... مناقضة كل التناقض للروح الرياضية واصول التنافس الشريف.

لبنان، مثله مثل غيره من الدول، انطلقت فيه مركبة الرياضة انطلاقاً من الحي او القرية ـ قبل ان تكبر فتصير بلدة او ضاحية. وكانت البطولة الابرز الدوري الكروي عام 1934، ثم كأس لبنان لكرة القدم عام 1937/1938.

ومع ان لبنان شهد مزيداً من تشابك المصالح ونمو المدن والاحياء المختلطة، ظلت إدارات الاندية وجماهيرها فئوية الولاء. ولذا اعتاد اللبنانيون بمر السنين على ظاهرة ان يلعب لاعبون مسلمون لأندية مسيحية القاعدة، والعكس بالعكس. ولكن الهويّات الطاغية على الاندية بقيت على حالها. تجاذب ...واضطرابات ...وتغيّر ديموغرافي وبطبيعة الحال، تأثرت المسابقات الرياضية، ولا سيما كرة القدم ـ الرياضة الشعبية الاولى ـ بالاضطرابات السياسية والامنية التي تعرض لها لبنان. كما تأثرت بصراع النفوذ بين الزعامات والكتل الطائفية، ومن ثم بالتغير الديموغرافي والاجتماعي في البلد. وبسبب النفوذ والتجاذب بين الزعامات الغيت بطولة الدوري بالذات مراراً عدة لانقاذ نادٍ ذي حظوة من الهبوط. اما على صعيد التغير الديموغرافي فقد اخذت اندية من خارج العاصمة بيروت تشق طريقها الى دوري النخبة، بعد ان بقي هذا الدوري عقوداً طويلة حكراً على الاندية البيروتية. وكان اول من كسر الاحتكار البيروتي فعلياً فريق جمعية الرياضة والادب الطرابلسية الذي تألق وفرض عدد من نجومه انفسهم على منتخب لبنان منذ مطلع السبعينات. في منتصف السبعينات وقعت الحرب الاهلية اللبنانية. فتبدلت معطيات كثيرة واهتزت معادلات الرياضة كما اهتزت نواح عديدة في حياة اللبنانيين ابرزها واعمقها تأثيراً الناحية الديموغرافية. فقد حصل مثلاً فرز سكاني وتهجير، وتعرض البلد لمد هجرة كاسح طاول مئات الالوف من الشباب، وتغيّر الواقع الاقتصادي، وتبدلّت الموازين الطائفية، واختفت تجمعات سكانية او تضاءل حجمها السكاني، مقابل ازدهار تجمعات ومناطق اخرى.

كرة «المسلمين» احتكرت البطولات وبالنتيجة لدى عودة النشاط الرياضي، عام 1986، تراجعت اندية وبرزت اندية اخرى العديد منها اما من خارج بيروت او من ضاحيتها الجنوبية ذات الغالبية المسلمة الشيعية. فقصب السبق خلال الاربعينات والخمسينات والستينات كان عموماً للاندية المسيحية مثل: الهومنتمن (الارمن الطاشناق اليمينيون) والهومنمن (الارمن الهنشاق الاشتراكيون) والراسينج كلوب ـ الذي يحمل اسم نادي راسينج كلوب باريس الفرنسي ـ (إدارة مسيحية في شرق بيروت سيطر عليها لفترة حزب الكتائب) وجمعية الشبيبة الرياضية في المزرعة (نادٍ ادارته من الروم الارثوذكس في غرب بيروت كان «عميده» نقولا نمر مجدلاني «ابو سعد» مقرباً من الشيوعيين). ولكن منذ مطلع السبعينات افتتح نادي النجمة البيروتي هيمنة الاندية الاسلامية في غرب بيروت ثم ضواحيها واخيراً من خارج بيروت. والنجمة نادٍ اسس عام 1945 على يد مجموعة من الشبان الدروز والسّنة في رأس بيروت. الا انه حظي بشعبية متزايدة في الاوساط الشيعية لاحقاً ولمع لاعبون وإداريون شيعة في صفوفه وفي ادارته.

ولكن التحول الاكثر جذرية حصل لدى استئناف مسابقتي بطولة الدوري والكأس في النصف الثاني من الثمانينات. إذ تعملق نادي الانصار، ذو القاعدة المسلمة السنيّة في حي الطريق الجديدة (غرب بيروت) واحتكر تقريباً كل البطولات وكل التمثيل دولياً وعربياً بعدة سنوات. اما الزخم الشيعي فأخذ يظهر اكثر فأكثر عبر بروز اندية الضاحية الجنوبية وجنوب لبنان. وقد انتزع هذا الشهر نادي التضامن صور بطولتي الدوري والكأس قبل ان يعاقبه الاتحاد إثر اتهامه ـ مع عدة اندية اخرى ـ بالتلاعب بالنتائج. وكان نادي شباب الساحل (ضاحية الغبيرة بجنوب بيروت) قد ربح كأس لبنان في العام الماضي متغلباً على فريق نادي الإخاء الاهلي عاليه (الدرزي في مدينة عاليه) في المباراة النهائية. كما عاد الى دوري الاضواء فريقا ناديي البرج والعهد (ايضاً من الضاحية الجنوبية... والثاني معروف انه نادي «حزب الله»).

ويضاف الى هذا التألق السني والشيعي، انه بات للدروز ايضاً ناديان بارزان وناجحان هما الصفاء (من حي وطى المصيطبة الدرزي في غرب بيروت) والإخاء الاهلي من عاليه، وكانا عموماً من اندية المقدمة خلال المواسم القليلة الفائتة.

على العكس من ذلك تراجعت الاندية المسيحية بصورة تثير الدهشة.

فشبيبة المزرعة العريق انتهى في غياهب الدرجة الثانية بعدما كان من معاقل الكرة اللبنانية وعريناً لمجموعة من المع نجومها، مثل ادمون ربيز، وروبير شحاذة وعباس رحال، ثم حافظ عمار والاخوة منتوفي (جورج وداوود ونقولا). وقبل إلغاء البطولة الاخيرة كانت تتصارع لتجنب مرتبتي الهبوط ثلاثة من اعرق الاندية المسيحية هي الهومنتمن والراسينج كلوب والهومنمن. وبالفعل احتل الهومنتمن (البطل 7 مرات) المرتبة الاخيرة والراسينج كلوب (البطل 3 مرات) المرتبة ما قبل الاخيرة. واتهم التضامن صور «البطل المنتزع منه لقبه» بتعمد الخسارة امام الهومنمن (البطل 4 مرات) لإنقاذه من الهبوط ...وإسقاط الراسينج والهومنتمن بدلاً منه!!! وحده نادي الحكمة (متصل بمدرسة الحكمة المارونية) بلونه الرسمي الاخضر ـ تيمناً بنادي سانت اتيان الفرنسي ـ بين الاندية المسيحية انتهى في النصف الاعلى من قائمة الدوري. وهو الآن مموّل جيداً. وامتد نجاحه في الكرة حيث كان دائماً من اضعف الاندية الى كرة السلة حيث يحمل اليوم لواء زعامة السلة اللبنانية والآسيوية.