من المؤكد أن فيلم اليوغسلافي البوسني «نو مانز لاند» للمخرج دانيس تانوفيتش، وهو الفيلم اليوغسلافي الأول الذي يعرض في تاريخ مهرجان كان، لن يمر مرور الكرام. فهو بالإضافة لمشاركته ضمن المسابقة الرسمية للمهرجان يتبارى على جائزة الكاميرا الذهبية التي تمنح للفيلم الأول للمخرج المشارك في كافة المسابقات. ورغم كون الأفلام الشابة الأولى كثيرة في «كان» خلال هذه الدورة، فان «نو مانز لاند» يبدو الأفضل المؤهل لنيل هذه الجائزة بين عروض الأسبوع الأول من المهرجان. وهذا لا يعني أنه لن يكون مرشحا لجوائز أخرى. والفيلم ذو الإنتاج الأوروبي ـ البلجيكي ـ الفرنسي ـ الايطالي ـ البريطاني ـ السلوفيني المشترك، بسيط جدا في قصته ومعانيه وتصويره وانتاجه الذي لم يكلف ربع انتاج فيلم اميركي متوسط، لكنه يتمتع مع ذلك بكل ما يمكن أن يحوز إعجاب المشاهد، من سيناريو ذكي إلى ممثل جيد إلى قصة مسلية مضحكة، رغم تعاطيها مع موضوع حساس جدا هو موضوع الحرب في يوغسلافيا السابقة.
وهذه العناصر مجتمعة وغيرها، من العناصر التي يصعب وضع اليد عليها أحيانا لكنها في مجملها تخلق إجماع الجمهور حول فيلم معين من نوع «نو مانز لاند» الذي لا يحكي سوى قصة جنديين على الحدود الصربية ـ الالبانية.
تبدأ القصة حين يضل جنود بوسنيون طريقهم الى الجبهة حيث كان من المفترض أن يبادلوا رفاقهم في السلاح فتصيبهم نار الصرب وينجو منهم شخص. ويرسل الصرب جنديين للتأكد من موت الجميع فيموت أحدهما ويبقى ناج واحد من الفريقين، بوسني اسمه «تشيكي» (برانكو دجوريك ) وصربي اسمه «نينو» (رينيه بيتوراجاك).
ويظل الاثنان معزولين في الخط الفاصل بين جانبي خط النزاع خلال أحداث عام 1993، فتتكرر محاولاتهما للبحث عن حل، ويحاول جندي فرنسي تابع للأمم المتحدة مساعدتهما، مخالفا بذلك أوامر قيادته المعارضة لأي تحرك من دون موافقة القيادات العليا التي يسخر تانوفيتش من إمكانية فعلها عبر تصوير اهتماماتها القائمة في أمكنة اخرى، مثل المؤتمر الذي تعقده الأمم المتحدة في جنيف حول كيفية تعاطي المنظمة الدولية مع وسائل الإعلام. تانوفيتش المخرج البوسني المولود في سراييفو عمل الفيلم ردا على عجزه ومرارته عند اندلاع الحرب، كما صرح: «لو أخذنا صورة لحائط مغطى بالعلامات السوداء التي تخلفها الطلقات النارية والقذائف ووضعناها فوق لوحة لفان غوخ لاكتشفنا أية رؤية يمكن أن يحدث ذلك. انكسار كل تلك الهارمونيا التي كانت قائمة كان بمثابة صدمة بصرية بالنسبة لي». وقد أراد من خلال فيلمه إعادة تشكيل الصدمة التي أحدثتها الحرب في نفسه، ولذا يقول على لسان البوسني «لماذا دمرتم هذا البلد الجميل» في بداية الفيلم ؟ ويسأله «من الذي بدأ الحرب؟».
يظهر الفيلم التوتر الكامن في نفوس الشخصيتين طوال الفيلم عبر تطور بطيء وانتظار لا يفضي في النهاية إلى نتيجة تقضي عليه. هذا التوتر، حين يتطور، يحدث الأمر بشكل مفاجئ وسريع جدا فيترجم الحقد الكامن في النفوس، والذي يتناقض في انفجاره مع انسياب الطبيعة وهدوئها في يوم ربيعي مشمس في تناقض كبير مع جنون البشر المتمثل في الحرب. يسير الفيلم على خيط رفيع محكم النسج من التوتر ولا يكون المخرج منه إلا بالموت. البساطة في الفيلم تتجلى في شخصيات المحاربين التي اختارها، فالاثنان ليسا بطلا حرب وإنما تحولا إلى مقاتلين هكذا، فالأول (تشيكي) تحول الى مقاتل مع بداية الحرب، والثاني «نينو» جندي مبتدئ خائف لكنه بمكر ثعلب. عدا ذلك وعدا اسميهما فانهما متشابهين. «نو مانز لاند» يذهب في رغبته بإظهار التشابه بينهما وإظهار عبثية الحرب ولا معناها إلى حد جعل المقاتلين يعاشران نفس الحبيبة في بانيالوكا في فترة سبقت النزاع.
ذكاء الفيلم يتبدى في كونه لا يتهم أيا من الأطراف في ارتكاب الفظاعات التي شهدتها حرب البوسنة، وهذا أفضل، وهو في ذلك لا يسعى لنفي المسؤولية عن طرف معين وإنما يحرص على الكلام عن الحرب، أية حرب، بمعناها الشامل. مقاربة الفيلم، الذي يتحدث عن الحرب البوسنية والذي صور في سلوفينيا إحدى جمهوريات يوغسلافيا سابقا، لموضوع الحرب جاءت عبر معالجة قصة في موقع صغير مع شخصيات محدودة نعيش بصحبتها فيلما يتكلم الممثلون فيه بمختلف فئاتهم اللغة ذاتها التي بات الصرب اليوم يطلقون عليها اللغة الصربية، والكروات اللغة الكرواتية، والبوسنيون اللغة البوسنية. إنها اللغة ذاتها للجميع. مقاربة الموضوع من هذه الزاوية الضيقة ومن خلال جنديين تفسح المجال أمام ذكاء المشاهد الذي يطل على هذا الواقع الذي يعرفه ويحاكمه بناء على معرفته السابقة بالبلد. وهنا علامة مهمة من علامات الذكاء في كتابة السيناريو، فالمخرج واع لأن جمهوره مطلع وأن ما سيقوله له سيأتي كإضافة الى معرفة سابقة تكونت لدى المتلقي، ولذا فهو ينجو من الفخ الذي وقع فيه الايراني محسن مخملباف في فيلمه المشارك في المسابقة الرسمية «سفر الى قندهار». ويتهم الفيلم الجميع باللامبالاة وخاصة الأمم المتحدة التي تكتفي بدور المشاهد السلبي الذي مهمته المراقبة أو توزيع المعونات الانسانية من دون التدخل على الأرض لتغيير الواقع، لكن الجندي الفرنسي، يعتبر ذلك تواطؤا، فيقول للصحافية «رؤية الشر والسكوت عليه معناها الانحياز له».
قيادة الأمم المتحدة لا تتحرك إلا عندما تكتشف الصحافة التلفزيونية التي يكاد يضعها المخرج في نفس السلة من اللامسؤولية مع الأمم المتحدة العاجزة أو التي تريد ان تكون عاجزة، فالصحافة المتلفزة تبحث عن سبق، وتنسى أحيانا قلب المشكلة ولا تذهب في عملية الفضح إلى النهاية.
طويلا جدا صفق جمهور القاعة لفيلم «نو مانز لاند» الذي اضحك الى حد الدمع، وكان المخرج تانوفيتش قد حقق عددا من الأفلام التسجيلية التي يدور معظمها حول الحرب ونتائجها. وحازت افلامه التسجيلية العديد من الجوائز الأوروبية، وكان مسؤول أرشيف الفيلم بجانب الجيش البوسني وصور اكثر من ثلاثمائة ساعة على خط الجبهة في سراييفو.
فيلم الأخوين كوهين يعود الاخوان كوهين إلى «كان» للمرة السابعة بعد أن كانا قد حصدا السعفة الذهبية للمهرجان عن فيلم «بارتون فينك» عام 1991، وهما من ضيوف المهرجان الدوريين الذين اعتادهم الجمهور والصحافيون، فأصبح من يسمع باسمهما يعتقد انهما كهلين، لكن رؤيتهما أو رؤية صورهما تكشف أنهما شابين اقرب بنظاراتهما إلى طالبين أبديين.
يقدم الاخوة كوهين هذا العام فيلما بعنوان «ذا مان هو وازنت ذير» (الرجل الذي لم يكن هناك) الذي يصور قصة تدور أحداثها في أربعينات القرن الماضي في الولايات المتحدة، وقد اعتمد المخرج جويل كوهين (أحدهما مخرج والآخر منتج ويتشاركان عادة في كتابة السيناريو) تقنية الأسود والأبيض في تصوير تلك الحقبة. والواقع أن فكرة الفيلم ولدت حين كانا يصوران مشهدا من فيلم «ذا هادسوكر ستوري» عام 1994، وفي الفيلم مشهد صور في صالون حلاق حيث علق على الحائط ملصق لحلاق في اربعينات القرن الماضي، فانطلقت فكرة سيناريو عن شخصية وطبيعة الحلاق الذي حقق تلك القصة التي يحملها الملصق.
مشروع كتابة الفيلم يعود اذا إلى ثماني سنوات خلت، لكن كتابته لم تكن مكتملة فاكتملت قبل ثلاثة أعوام، وكان التصوير يكاد يبدأ حين أعلن الممثل جورج كلوني استعداده وتفرغه للدور الذي منح له في فيلم «او براذرز» فتأجل المشروع من جديد.
ويوضح الاخوان كوهين أنهما تأثرا بطريقة كتابة السيناريو بجيمس كين موقع رواية «ساعي البريد يعود مرتين» التي تحولت الى فيلم. أبطاله من عامة الشعب ومن الموظفين العاديين في المجتمع الأميركي كالموظف في مصرف أو في شركة تأمين.
والفيلم عبارة عن قصة يكتبها البطل وهو في السجن في انتظار حكم الإعدام الذي سينفذ فيه على الكرسي الكهربائي ويبيعها لاحدى المجلات. أما الحبكة فتدور حول قصة حلاق ضجر من حياته الروتينية التي اكتست طابع السجن المحكم. ففي صالون الحلاقة هناك المعلم الذي رغب الاخوان في تصويره على شاكلة الحلاقين، أي ثرثارا كما في الكليشيهات المحفوظة عن العاملين في هذه المهنة. في البيت هناك زوجته التي تخرج مع رجل غيره وقد كفا عن ممارسة الحب من زمن، فيروح الحلاق الذي ولد من ملصق، يحلم بتغيير حياته، لكنه عندما يكتشف أن زوجته تخونه، يعمد إلى ممارسة ابتزاز العشيق، فيجر ذلك سلسلة من الأحداث التي تدخل عنصر الجريمة في الفيلم. الحلاق إد كرين يعيش في مدينة اميركية صغيرة ويعمل في صالون صهره ويبدو غير سعيد في حياته التي لا يعرف كيف يغيرها. كل ما يعرفه انه لا يريد أن يكون حلاقا طوال حياته.
حين يكلمه أحد زبائنه عن النجاح الذي تلاقيه محلات التنظيف على الناشف يفكر جديا في الموضوع ويقرر الانطلاق في مشروع مشترك معه. يسلمه مبلغ عشرة آلاف دولار ليكون شريكا له في الشركة هو بالمال والآخر بالأعمال، في هذه المهنة التي ولدت نهاية اربعينات القرن الماضي وبنى بعض الأميركيين ثروتهم على الاستثمار فيها. والنتيجة، يترك الحلاق نفسه ليخدع مقابل بطاقة مكتوب عليها اسم وعنوان الشخص الذي يختفي سريعا من الوجود.
إنها أيضا قصة الاميركي من الطبقة المتوسطة غير القادر على تغيير شيء، ويبدو عنصر الجريمة داخلا في النسيج الدرامي بالصدفة، فإد كرين لم يكن راغبا في قتل عشيق زوجته الا عندما حاول الآخر قتله حين اكتشف ابتزازه له. تترك كل هذه التطورات بصماتها على جميع الشخصيات في الفيلم الذي يبرز صورة العدالة بقضاتها ومحاميها في ذلك الوقت.
ورغم هذه المواصفات تبدو الشخصية محببة في سقوطها لأن شرطها الانساني هو شرط المشاهد. ويعتبر اختيار بيلي بوب ثورنتون للدور موفقا جدا، وربما قدم له المهرجان جائزة افضل ممثل كون الدور صعبا ويتطلب من الممثل تعابير مستبطنة. وهذا ما يبرز الإمكانيات الضخمة لهذا الممثل ذي القامة الطويلة والدور الذي يتحول في شكل متعارض إلى دور مؤثر رغم طبيعته السلبية الباردة جدا والثقيلة. الممثل سلبي لكنه لا يمحي وهو يكثف من عمق الشخصية ويذكر أيضا بالأدوار التي أداها مونتغومري كليفت أو همفري بوغارت في تسريحة الشعر والسيجارة التي لا تغادر فمه طيلة فترة الساعنتين التي يستغرقها الفيلم.
يحمل ثورنتون الفيلم على كتفيه، فالرواية محكية وهو في شخصيته لا يتكلم الا يسيرا، يروي فقط سيرته وهو لا يقدم على الفعل بل على ردود الفعل وهذا أصعب. وهو ممثل يقدم جودة نادرة في الأداء التمثيلي الذي بات يعتمد اليوم أكثر فأكثر على التأثيرات السينمائية ويميل لوضع قدرات الممثل في المقام الثاني. البطل في عملية بحثه عن السعادة يسقط ويسقط جميع من حوله لسهولة تعثره وسقوطه في المطبات، لكن الفيلم يظل حتى اللحظة الأخيرة حافلا بالانقلابات، فالبطل لا يدان بالجريمة التي ارتكبها فعلا وتدان بها زوجته لأنه استخدم مفتاحها لدخول المخزن ورؤية بيغ ديف (جيمس غوندولفوني). وتكون النتيجة أن تنتحر الزوجة ولا يصدق المحامي رواية إد كرين حين يقول له إنه القاتل الفعلي، معتبرا أنه يحاول إنقاذ زوجته. ويدان إد بعد حين بجريمة أخرى لم يرتكبها هي جريمة قتل التاجر الذي أعطاه المال فاختفى به من دون أن يكون هو الفاعل. ويؤدي دور المحامي فرانكي ريدنشنايدر في الفيلم انطوان شلهوب الممثل الاميركي من اصل لبناني.
وتؤدي دور الزوجة آن فرانسيس ماك دورمون (زوجة جويل كوهين فرانسيس في الحياة)، تعود للعمل مع زوجها بعد ان نالت أوسكار افضل ممثلة عن دورها في فيلم «فارغو». وقد ساهمت فرانسيس في كتابة دور الزوجة ليتلاءم مع المرأة اللعوب السكيرة التي تحولت إلى واقعية تستخدم زوجها كأداة تنفذ بها ما تريد. ويعتمد الاخوان كوهين الحوار السردي المباشر، والأمثلة على ذلك في الفيلم كثيرة. كما يستعملان سيناريو وحوارات بأسلوب واضح محدد عبر صيغته المباشرة والروائية في آن، ورغم بعض التطويل فان «الرجل الذي لم يكن هناك» يظل فيلما على درجة من الجودة تحظى بإعجاب المشاهد خاصة لجهة التصوير الرائع بالأسود والأبيض.
ويؤكد الاخوان ان اختيارهما للأسود والابيض جاء لكون الفيلم يتحدث عن مرحلة بعينها وان عدم استخدام الألوان يساهم في احداث الانتقال الضروري بالمشاهد. استعمال الابيض الاسود يكثف من حضور الشخصيات والأشياء في الفيلم ويعلي من قيمته الفنية فتبدو الظلال والعلامات أكثر حضورا لدى شخصيات تريد فعل شيء.
كذلك الاضاءة التي قصدت إلى استعمال أضواء ناعمة غير مباشرة على الطريقة الاوروبية او طريقة جان لوك غودار في افلامه غير الملونة ، كما اقتصدت في استعمال مصادر النور فبدا ظل الاشياء شاعريا كثيف الحضور كما في صورة فوتوغرافية. التصوير في ذاته بدا رائعا وكانت مقاطع التصوير مدروسة جدا وملائمة للجو الذي يخلقه الفيلم بحبكته التي تتضمن الجريمة. وقد أنجز الاخوان كوهين ما يشبه الجريمة والعقاب في فيلم مليء بالمواقف المنقلبة التي تذهب بالأشياء إلى نهايتها ولا تقف عند ما يمكن ان يتوقعه منها الجمهور. ورغم السوداوية التي يمكن ان تطل من الفيلم فهو فيلم عن التفاؤل ودعوة للناس كي يكونوا سعداء.
فيلم فرنسي في المسابقة جاوز المخرج الفرنسي البرتغالي الأصل مانويل دي أوليفييرا التسعين من العمر ولا يزال يخرج أفلاما تشبهه ويعود الى «كان»، وهو هذه المرة يشارك في المسابقة الرسمية للمهرجان عبر فيلمه «فو بارا كازا» (إني أعود إلى المنزل) الذي يقوم ببطولته ميشال بيكولي. لا يمكن لمتابع أفلام دي اوليفييرا إلا أن يلاحظ الشبه القائم بين شخصية المخرج وأفلامه، إن لناحية المعالجة، أو لناحية التعاطي التجاري مع السوق، فالمخرج يملك رؤية خاصة متميزة تتبدى في كل ما ينجزه، وهو يصنع أفلامه دون أن يرضخ لموجات الموضة التي يفرضها السوق، متابعا تفرده الكلي. وهنا تكمن قيمة مثل هذا المخرج الذي يعتبر علامة في السينما الفرنسية ولهذا السبب أيضا فهو لم ينجز لغاية الآن سوى عشرين فيلما.
ويبقى دي اوليفييرا مخرجا يصعب تصنيفه، تماما كما في القصة التي يرويها في «فو بارا كازا» والتي ليست قصة في الواقع. إنها مجرد حكاية رجل ممثل تقدم به السن، يعيش في وحدة شبه تامة ويعمل، ولا شيء أكثر، عبر سينما متمهلة متأنية وهادئة، كما لا توجد السينما اليوم، وعبر حوارات قليلة ولغة سينمائية تهتم بالعالم من حولنا بالمدينة، باريس التي بوجهين جميل وقبيح، باريس النور والأضواء وباريس العتمة والعنف مثلها مثل مدريد ولندن، باريس بتمثال الحرية الذي ينتصب وحيدا في ساحة من ساحاتها حيث يمر الممثل، والمدينة تستعد للاحتفال بانتهاء الالفية الثانية، باريس المدينة التي تعكس بشدة وجه الحضارة الغربية المعقدة، وحيث يبدو واضحا أن السطحيات تجنح نحو القضاء على الأشياء الأساسية في الحياة المغمورة بشؤون المادة. بطل الفيلم جيلبير دي فالنس، حين يعود إلى المنزل يبدو وكأنه يهرب من هذا العالم العنيف القائم في الخارج، وهو في حياته المسرحية ينسى هذا العالم. لكن دورا صغيرا في فيلم أميركي يصور في باريس يقنعه الامبرازاريو أنه ملائم له، يجعله يسقط ضحية بريئة لهذا الواقع الذي يرفض الخضوع له ويحاول أن يستمر خارجه.
دي فالنس يرفض اللعب في فيلم تلفزيوني لأن فيه مشاهد جنسية ومشاهد عنيفة، إنه بطل من النوع الذي يرفض التنازل، لكن رفضه التنازل عن هذه الأشياء عنوان للتمسك بنوع من المسار الشخصي يحترمه صاحبه وفيه رفض للنفعية وللجنس المجاني وللعنف المجاني. هذا أيضا هو موقف المخرج بالطبع. ويبدو ميشال بيكولي رائعا في الدور الذي يؤديه وينفتح على مشهد مسرحي يلعب فيه دور الملك. وليس طول المشهد الافتتاحي سوى تمهيد للمأساة التي ستعقبه والتي تتلخص بنبأ وفاة امرأته وابنه وزوجته في حادث سير. يبقى له حفيده الذي يحول كل تعلقه بأهله إلى جده. فالجد يمثل في عيني حفيده الحكمة والأمان، حكمة عالم ينهار بكل ما يحمله من قيم ويصور المخرج في المشهد الأخير الحفيد الذي كان قليل الظهور في البداية، ينظر الى جده صاعدا درج المنزل كمن ينظر إلى عالم يزول، كأنه ومن خلال هذا المشهد وعبر كل الحب الذي يكنه لجده، يقف شاهدا على تراجيديا انهزام الجد أمام زحف عالم معاصر مختلف.
«اني أعود الى المنزل» فيلم صريح وحقيقي أقرب إلى روح المشاهد ودعوة الى الالتفات الى الأساسي. وتلعب الممثلة الفرنسية كاترين دينيف وكذلك الممثل الاميركي جون مالكوفيتش دوري شرف في هذا الفيلم.