عزت العلايلي. . ابن الأرض

المواطن مصري صاحب الاختيار

TT

منذ عرف طريقه إلى دنيا الفن، عاهد نفسه أن يعيش قضايا الحرافيش ويجسد هموم البسطاء الصغيرة ولا ينسى أحلام الوطن الكبيرة. من البداية استهوته شخصية المناضل في سبيل الحق والعدل والخير فصورها على الشاشة في أعمال فنية متعددة. لذلك يرفض أن يخلع عباءة الاصالة ولا يفارق بذاكرته زمن الفن الجميل. مشواره الطويل منحه حق الاختيار الصحيح فلم يسقط في فخ السينما التجارية بعد أن غرقت في بحر الظلمات وسط عواصف الافيهات ودوامات النكت والكوميديا الرخيصة ووصل إلى العالمية بفيلم مصري جدا هو «الاختيار» إنه عزت العلايلي الذي يكرمه مهرجان الإسكندرية السينمائي الدولي لسينما البحر الأبيض المتوسط في دورته الـ22، التي بدأت يوم الثلاثاء الماضي وحتى 10 سبتمبر (ايلول) المقبل. وهو التكريم الذي أسعد العلايلي واعتبره مسؤولية كبيرة وتقديرا لتاريخ طويل. يذكر أن العلايلي كان قد تم تكريمه عدة مرات سابقة من خلال مهرجان القاهرة السينمائي لعام 2002 والمهرجان القومي للسينما لعام 2004 بالإضافة إلى بعض المهرجانات داخل مصر وخارجها. ولد عزت حسن العلايلي في الخامس عشر من سبتمبر 1934، في درب الملاح بحي باب الشعرية أحد أحياء القاهرة القديمة وتربى وسط ثلاث شقيقات هن «نجوان وعنايات وفاطمة». كان الولد الوحيد والطفل المدلل، وما أن بدأ يقترب من سن الدخول للمدرسة حتى انتقل مع أبيه وأمه وشقيقاته إلى الإسكندرية ليعيش عدة سنوات بشارع الرصافة بحي محرم بك. وفي مدرسة الحي الابتدائية بدأ يعرف قيمة العلم وفي نفس الوقت انشغل الطفل بصفارات الإنذار ودوي القنابل ليلا على الإسكندرية أبان الحرب العالمية الثانية والتي كانت السبب في عودته وأسرته إلى القاهرة وتحديدا حي السيدة زينب المتاخم لحي باب الشعرية مسقط رأسه، وليسكن بمنطقة «بركة الفيل» الواقعة بين شعبية حي السيدة زينب، وأرستقراطية حي «الحلمية الجديدة» فيدرك في وقت مبكر حقيقة التفاوت الاجتماعي وأثره على الطبيعة الإنسانية. وفي مدرسة الحي «قذلار» الابتدائية والتي تميز فيها بقدرته على حفظ الأناشيد والأغاني أكثر من استذكار دروسه التي يتعلمها وتأكدت عنده موهبة الحفظ بقدرته على تقليد المعلمين والمغنين وبالذات فناني المنولوج الغنائي مثل محمود شكوكو، بعدها انتقل إلى مدرسة الشيخ صالح وفيها التحق بقسم التمثيل ليحول قدرته على تقليد شخصيات حية إلى ممارسة فن التمثيل وبث الحياة في شخصيات متخيلة. وتطور وعي عزت العلايلي في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات وتعلق بثورة يوليو كانتفاضة طليعية قادت الشعب المصري نحو تحقيق أحلامه التي عبرت عنها أجيال ذلك الزمان. وعندما توفي والده قادته ظروفه إلى العمل كصراف للانفاق على اسرته. وليلتحق في أثناء عمله بالمعهد العالي للتمثيل العربي عام 1955 والذي تحول فيما بعد إلى المعهد العالي للفنون المسرحية وتتلمذ فيه على يد فتوح نشاطي ونبيل الألفي وعبد الرحيم الزرقاني ولويس عوض ومحمد مندور. يقول الفنان عزت العلايلي عن البداية: الاختيار الفني كان محددا من اللحظة الأولى، فقد عشقت الفن وأدركت أنه لن يكون لي خيار آخر، ولكن المسألة في البداية كانت فطرية وغير مدروسة يحكمها الحماس وثورة الشباب وحب اللعبة والرغبة في اتقان أدواتها في تلك الفترة حصلت على شهادة المعهد العالي للفنون المسرحية وبدأت ممارسة التمثيل فشاركت في مجموعة كبيرة من الأعمال منها «بين القصرين» و«رسالة من امرأة مجهولة» و«الجاسوس» و«الرجل المجهول» و«معسكر البنات» و«قنديل أم هاشم» و«السيد البلطي» و«3 وجوه للحب» ومسلسلات مثل «بنت الحتة». ويضيف، إلى جانب التمثيل مارست الكتابة أيضا فكتبت حلقات بعنوان «أعرف عدوك» ثم مسرحية «ثورة القرية» عن قصة لمحمد التابعي ولكن هذه الأعمال كانت بمثابة تحضير أو تمرين عملي لما تعلمته فيما بعد عندما اختارني يوسف شاهين لفيلم «الأرض» فمنذ تلك اللحظة تغيرت كليا وجزئيا وأصبحت انظر إلى الفن والى التمثيل نظرة مختلفة تماما. ومنذ أن قدم العلايلي فيلم «الأرض» الذي حقق من خلاله نقلة نوعية في مشواره الإبداعي وربط بوعي دوره داخل العمل الفني بقضية المجتمع الذي يعبر عنه هذا العمل الفني برؤية تقدمية، وأكد لنفسه أهمية التيار الواقعي في السينما المصرية وفاعليته في عرض قضايا الواقع المجتمعي. وبعدها انطلق في طريق جديد وبدأ مرحلة اختيار الأدوار الصعبة والجادة التي تبقي وتعيش في الوجدان فقدم فيلم «الاختيار» الذي حصل من خلاله على الجائزة الذهبية من مهرجان قرطاج فتأكدت نظريته من أن الفن الصعب هو الذي يعيش ويستمر ويحصد الجوائز ويكون سفيرا أمام العالم وفي تلك الفترة عرضت عليه العديد من الأفلام التي يصفها العلايلي أنها تشبه «ساندويتشات التيك أواي». ولكنه رفضها كلها لدرجة أن الناقد الراحل كمال الملاخ اتصل به ذات يوم وعاتبه بأن كل المنتجين يشكون منه لرفضه أفلامهم. فقال له العلايلي: حتى لو لم يكن في بيتي مليم واحد فلن اعمل في أفلام «زغزغيني يا لمونه». وكان يقصد بها الافلام التي لا تقدم للجمهور اي شيء. وفيما بعد برر العلايلي موقفه هذا بقوله: بعد أن تذوقت طعم الفن الحقيقي وبعد مشاركتي في أكثر من مهرجان وحصولي على جوائز دولية ومحلية لم يعد في امكاني أن أتنازل من أجل المادة أو من أجل الانتشار، وعموما أنا لا أحب مبدأ التنازل لا في العمل ولا في الحياة الشخصية. وتأكيدا لموقفه دخل عزت العلايلي في مجموعة من التجارب الفنية التي اتسمت بالجرأة في اختيار الموضوعات التي تطرحها وبقوة أبنيتها الدرامية ولغتها السينمائية الراقية. وتميز معظمها بمناقشة ملفات سياسية تعبر عن مراحل تاريخية في حياة مصر وخاصة المرحلة الناصرية. فكانت البداية بفيلم «زائر الفجر» و«على من نطلق الرصاص» وهي أفلام أكدت نضج التجربة الفنية في حياة عزت العلايلي ليقدم بعدها أفلام «السقا مات» و«إسكندرية ليه» و«أهل القمة» وقد كان السوق وقتها يسمح بوجود الوجبات الفنية الدسمة إلى جانب «التيك أواي».

وبفضل اختيارات عزت العلايلي الفنية الناضجة استطاع أن يكتب اسمه في أكبر موسوعة للسينما في العالم والتي أرخت لأعظم الأفلام منذ عام 1896 وحتى 2002 لم يذكر فيها من أسماء الأفلام العربية إلا ثلاثة فقط هي: «الاختيار، السقا مات، باب الحديد» والأول والثاني من بطولته، كما يكفي العلايلي أيضا أن أشهر كاتب صحافي في العالم وهو مارسيل مارتان كتب مقالا كاملا عنه ووضع صورته في مجلة «الباري ماتش» متحدثا عن موهبته الفنية العظيمة. وهو ما دفع عزت العلايلي للقول: «السينما تجري في شراييني مجرى الدم فهي عشقي الأول لأنها قربتني من الناس وجعلتني أقدم لهم نموذج الإنسان المصري الحقيقي «المعجون بطين الأرض» قدمتني كما أنا بمصريتي، بملامحي البلدية الأصيلة، لهذا حرصت دائما على أن أتواجد من خلال أعمال مصرية أصيلة وليس أعمال مترجمة عن «الخواجات».

وقد أمن «العلايلي» بمقولة جمال حمدان «مصر فرعونية الجد عربية الأب» فصار عاشقا لمصريته باحثا عن سماتها في أدواره وساعيا لتجسيد تلك السمات عبر الشخصيات الدرامية التي يجسدها، وهو يجدل هذه المصرية بروح قومية ترى في المصرية ركيزة حياة وفي العروبة مجمل ثقافة، وترى أن الفنان المصري هو سفير بلاده للوطن العربي، وهذا ما دفعه للعمل في ستة أفلام عربية الإنتاج والإخراج بغض النظر عن نجاحها النقدي أو الجماهيري وهي: السوري «عملية فدائية» واللبناني «بيروت يا بيروت» و«ذئاب لا تأكل اللحم» والعراقي «القادسية» والمغربي «سأكتب أسمك على الرمال» والجزائري «طاحونة السيد فابر».

الحياة الخاصة لعزت العلايلي لا تختلف كثيرا عن حياته الفنية فهو انسان يقدس كلمة المسؤولية ويبحث عن الاخلاق في أقوى صورها. ولكنه لا يحب الحديث عن اسرته الصغيرة المكونه من زوجته وابنيه الدكتور محمود طبيب الاسنان وابنته رجاء. رصيد العلايلي في السينما المصرية يبلغ 74 فيلما أبرزها: «بين القصرين، الجاسوس، الرجل المجهول، معسكر البنات، قنديل أم هاشم، السيد البلطي، ثلاثة وجوه للحب، الأرض، الاختيار، لعبه كل يوم، الناس والنيل، السقا مات، لا عزاء للسيدات، خائفة من شيء ما، المجهول، الأنس والجن والمواطن مصري». المسرح أيضا كان له نصيب في مشوار عزت العلايلي الفني ويصف العلايلي علاقته به بقوله: يظل للمسرح السبق في التعبير المباشر عن قضايا المجتمع كنت أعود إليه كل فترة لضبط «صواميلي الفنية» وتشحيم محرك الاداء في داخلي ولألمس مدى تطوري وهل زادت إمكانياتي أم قلت وأرى موقعي الحقيقي من الناس. ومن ابرز المسرحيات التي قدمها العلايلي: مسرحية «كفاح شعب» والتي قدمها وهو طالبا في المعهد مع الفنان حمدي غيث وإخراج أستاذه نبيل الألفي ثم قدم مسرحيات «الإنسان الطيب» و«وطني عكا» و«دماء على ملابس السهرة» و«اهلا يا بكوات» عام 1992، وأعاد تقديمها 2006 كما قام أيضا بتأليف بعض المسرحيات مثل ثورة القرية، والطوفان. وفي التلفزيون يعشق العلايلي الموضوعات النابعة من البيت المصري والتي تناقش مشاكل المجتمع والأسرة والعلاقات الإنسانية بين الأفراد، لذلك كان له باع طويل فيها حيث قدم أعمالا متميزة منها: «ادهم الشرقاوي، الأمام الطبري، الحسن البصري، جمال الدين الأفغاني، بوابة الحلواني بأجزائها الأربعة، الأقدار، شاطئ الخريف، الشارع الجديد، نور القمر، أمانة يا ليل، حرس سلاح، خان القناديل، المنصورية، كارنتينا، ويصور حاليا مسلسل «دعوة فرح» الذي سيعرض في رمضان المقبل.