حماس أم فتح .. من المسؤول؟

فساد وديون وفقر وشبح حرب أهلية تدفع الشارع للحد الأقصى.. «يا للعار يا للعار.. ضعنا بعدك يا أبو عمار»

TT

ما إن علم الشرطي محمد، 32 عاما، أن رواتب الموظفين لشهر سبتمبر (ايلول) ستصرف في غضون ساعات، حتى ترك موقعه في حراسة مقر وزارة الداخلية الفلسطينية بغزة كي يتمكن من أخذ دوره أمام ماكينة الصرف الآلي التابعة لبنك فلسطين، والواقعة بجوار المجلس التشريعي بغزة. لم يفاجأ محمد بأن مئات من زملائه قد سبقوه للاصطفاف أمام آلة الصرف، فأخبار الرواتب في الشارع الفلسطيني باتت الهم الأكبر للمواطن الفلسطيني، إن لم يكن الأوحد، في مجتمع بات يئن تحت وطأة حصار مالي لم يشهد مثله الشعب الفلسطيني من قبل، إلا أن هذا التجمع لرجال الشرطة والأجهزة الأمنية والموظفين المدنيين سرعان ما تحول إلى موجة من الاقتتال الداخلي، اندلعت شرارته بعد قيام بنك فلسطين بخصم حوالي 20% من السلفة التي لا تتجاوز الثلاثمائة دولار لصالح قروض كان الموظفون قد استدانوها قبل مشكلة انقطاع الرواتب المستمرة منذ سبعة أشهر، حيث صب مئات المتجمهرين جام غضبهم على البنك بتحطيم وتكسير أثاثه قبل أن تتجه جموعهم صوب المجلس التشريعي المجاور للتظاهر، حيث كانت في انتظارهم قوة معززة مما بات يعرف بالقوة التنفيذية التابعة لوزارة الداخلية، والتي كانت قد أعلنت قبل يوم واحد من هذه الحادثة على لسان مسؤولها المباشر وزير الداخلية سعيد صيام، عزمها منع أي تظاهر لأفراد الأجهزة الأمنية والشرطة بالقوة، خاصة أن احتجاجات واسعة لأفراد من الأجهزة الأمنية، أدت إلى تعطيل حركة السير في شوارع غزة بعد قيام المحتجين بإغلاق الطرق والشوارع الرئيسة بالحجارة والإطارات المشتعلة. وعلى الرغم من اتهامات حكومة حماس بوقوف ما سمته التيار الإسرائيلي الأميركي داخل فتح خلف تلك الاحتجاجات المتصاعدة، إلا أن ذلك لا يلغي حقيقة وجود أزمة مالية وسياسية خانقة لم تؤد بنظر المراقبين إلى زعزعة وتراجع دور ومكانة السلطة الفلسطينية فقط، بل وقد تؤدي أيضا إلى حرب أهلية طاحنة بدأت بوادرها باشتباكات دموية أوقعت العشرات من القتلى والجرحى في غضون أيام قليلة.

وتعود الأزمة المالية الطاحنة التي تعاني منها السلطة الوطنية الفلسطينية في ظل حكومة حماس برأي عضو المجلس الثوري لفتح يحيى رياح إلى أسباب سياسية صرفة، تتمثل في إقدام الحكومة الفلسطينية الجديدة التي شكلتها لأول مرة حركة حماس بعد نجاحها في الانتخابات التشريعية الأخيرة على إنهاء الحالة التعاقدية بين السلطة الوطنية الفلسطينية من جهة والمجتمع الدولي من جهة ثانية، وهي الحالة التعاقدية التي نشأت منذ تم التوقيع على اتفاق إعلان المبادئ المعروف باسم اتفاق أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية بصفتها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني والحكومة الإسرائيلية، وبناء على ذلك الاتفاق ثم إنشاء السلطة بكل إطاراتها وفعالياتها، بما في ذلك المجلس التشريعي الذي جرت انتخاباته الأولى عام 1996 بدون مشاركة حماس، والمجلس التشريعي الثاني الذي جرت انتخاباته في الخامس والعشرين من هذا العام بمشاركة حماس.

وهو ما يؤكده الخبير الاقتصادي عمر شعبان لـ«الشرق الأوسط» قائلا «إن المجتمع الدولي الثري ممثلاً في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ومعها اليابان، قام بتقديم مساعدات مالية ضخمة ومساندة سياسية للمناطق التي تشهد تحولات سياسية جذرية كما في فلسطين، السودان، العراق، أفغانستان، صربيا والبوسنة أو للمناطق التي تشهد تحولا استراتيجيا في النظام السياسي، كما حدث عند انهيار الكتلة الاشتراكية وانضمام معظم دولها إلى الغرب الرأسمالي. ويهدف المجتمع الدولي الثري من وراء هذا الدعم والمساندة إلى تشجيع الأطراف للدخول في المرحلة الجديدة سواء كانت تتمثل في حل سياسي لنزاع عسكري، أو تحول في طبيعة النظام السياسي، أو بروز نظام سياسي جديد يكون موالياً للغرب أو يحمل أفكاره ولا يتناقض مع مصالحه؛ حدث ذلك بعيد الاحتلال الأميركي لأفغانستان والعراق، وعند انتهاء حرب البلقان، كذلك حدث في حالتي السودان وتيمور الشرقية». وهو ما حدث أيضا مع بدء الحوار الفلسطيني الإسرائيلي، الذي انتهى بعقد اتفاق أوسلو في سبتمبر 1993، والذي تم بموجبه تأسـيس السلطة الوطنية الفلسطينية، فمنذ ذلك الحين عقد المجتمع الدولي الثري مؤتمرات دولية سنوية بهدف توفير الدعم الفني والمالي لعملية السلام، وذلك من خلال تمكين السلطة الفلسطينية من القيام بواجباتها بما يمكنها في النهاية من المحافظة على عملية السلام. كان أول المؤتمرات التي يتحدث عنها شعبان، قد عقد في واشنطن في أكتوبر 1993(تشرين الأول) بعيد التوقيع على اتفاق أوسلو والذي شارك فيه 42 دولة ومؤسسة مانحة، المؤتمر خصص ما قيمته 2.5 مليار دولار لدعم السلطة الفلسطينية لمدة 5 سنوات متتالية، أي بمعدل 500 مليون دولار سنويا، ومنذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا التزم المجتمع الدولي، وإن كان بدرجات متفاوتة، بدعم السلطة الفلسطينية للقيام بعملية تنمية للمجتمع الفلسطيني بما يجعل المواطن يشعر بجدوى هذا التمويل ويدفع إلى تعزيز المؤيدين لعملية السلام بين جموع الشعب الفلسطيني، وكان آخرها مؤتمر المانحين للسلطة الفلسطينية الذي عقد في نوفمبر (تشرين الثاني) 2004 في النرويج، والذي تقدمت فيه السلطة بطلب لتمويل قيمته 4.5 مليار دولار لمدة ثلاث سنوات تبدأ عام 2005.

رفض الحكومة الفلسطينية الجديدة التي شكلتها حركة حماس الاعتراف بالاتفاقيات الموقعة، التي أنجبت بالأساس السلطة الفلسطينية، التي تقودها الآن حركة حماس، فتح الباب أمام المجتمع الدولي لكي يتخلص من التزاماته، ومن بينها الالتزامات المالية؛ تلك الالتزامات التي حاولت إسرائيل والولايات المتحدة بعد فشل محادثات كامب ديفيد الثانية ومؤتمر شرم الشيخ في عام 2001 إقناع المجتمع الدولي بالتراجع عنها بعد إصرار الرئيس الفلسطيني الراحل المرحوم ياسر عرفات عدم التنازل عما عرف بالثوابت الوطنية الفلسطينية، التي أقرتها المجالس الوطنية الفلسطينية المتعاقبة ومبادرة السلام العربية، وهو ما يشير إليه عضو المجلس الثوري في حركة فتح يحيى رباح بقوله «إن الأزمة المالية للسلطة الفلسطينية هي أزمة قديمة ومتجددة، وحدثت قبل سنوات من وصول حماس إلى الحكم، وكان الطرف الفلسطيني يبذل الجهود في كل شهر لتأمين رواتب الموظفين، وتأمين الحد الأدنى من الموازنات التشغيلية للوزارات والمؤسسات، ولكن حتى مع وجود تلك الأزمة سابقا، كانت الحلول تتوفر من منطلق أن المجتمع الدولي كان يرى في السلطة شريكا يمكن التعامل معه، والوصول معه إلى اتفاقيات، ومبادرات وحراك وجهود، ولذلك فإن المساعدات لم تتوقف بشكل نهائي رغم أن الولايات المتحدة وإسرائيل نجحتا في تكثيف حجم مراقبة تلك الأموال، بعد أن تكاثرت تهم الفساد المالي والإداري والاتهامات الإسرائيلية باستخدام الرئيس عرفات لتلك الأموال في تمويل العمليات الفدائية والمجموعات المسلحة». مرجعية وأسباب الأزمة المالية الحالية التي تتحدث عنها حركة فتح هي نفسها التي تتحدث عنها القوى والفصائل الأخرى التي تشارك حركة فتح منظمة التحرير الفلسطينية، ويقول عضو المكتب السياسي لحزب فدا جمال زقوت «إن السياسية الراهنة للحكومة الفلسطينية التي تترأسها حركة حماس، تشكل احدى الأخطاء الإستراتيجية التي تمارس من قبل حكومة حماس، حيث أدت هذه السياسة إلى اخراج القضية الفلسطينية من النظام الدولي، بعد ان تمكن الشعب الفلسطيني بعد عقود طويلة من الكفاح دمج حقوقه في إطار الشرعية الدولية بحيث باتت القضية الفلسطينية الآن وكأنها حالة متعارضة مع الشرعية الدولية، وتتفق جميع القوى الفلسطينية مع حركة حماس وحكومتها فى وصف الحصار الذى تعيشه الاراضى الفلسطينية بالظالم وفى هذا يقول زقوت إن اطلاق التوصيفات الأخلاقية على الحصار لا يغير فى الحصار شيئا، قائلا بأن الحالة السياسية لا يمكن ان تعالج بالمسائل الأخلاقية فقط بل من خلال اعادة القضية الفلسطينية الى جدول أعمال المجتمع الدولي سياسيا واقتصاديا وماليا، جنبا الى جنب مع اتباع سياسة اقتصادية قادرة على تعزيز الموارد الذاتية ومجابهة حالة الفلتان الأمني التي تقضي على اي فرص لجلب المستثمرين العرب والأجانب الى الاراضي الفلسطينية. ويتفق زقوت مع حركة فتح في أن الأزمة المالية ليست بجديدة وأن الحكومات السابقة استطاعت وقف تدهورها بحيث تطال رواتب الموظفين، الا انه يأخذ على حركة فتح وحكوماتها السابقة سوء التخطيط الاقتصادي وعدم النجاح في خلق كيانية اقتصادية ومواءمة وتوازن ما بين الاعتماد على اموال المانحين والاقتصاد الوطني الفلسطيني رغم اعترافه بأن الكيانية الفلسطينية ناشئة ومحاصرة إسرائيليا.

هذه الأزمة كما يقول رئيس لجنة الموازنة والشؤون المالية في المجلس التشريعي السابق الدكتور سعدي الكرنز لـ«الشرق الأوسط» بدأت في يونيو (حزيران) 2001 عندما قامت إسرائيل ولأول مرة منذ توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993 بحجز عائدات الضرائب لمدة 20 شهرا، وهي المبالغ التي كانت تغطي أكثر من 60% من النفقات الجارية للسلطة الفلسطينية بما فيها الرواتب، وقد تم خلال تلك الفترة التغلب على تلك المشكلة، كما يضيف الدكتور الكرنز من خلال المساعدات العربية التي بلغت في المتوسط 450 مليون دولار سنويا من أصل 600 مليون دولار أقرتها القمم العربية، ومن خلال الاتحاد الأوروبي الذي كان يدفع عشرة ملايين يورو شهريا، ومثلها من البنك الدولي لدعم النفقات الجارية للسلطة ومن بينها الرواتب والأجور، إلى أن قررت الدول المانحة في مؤتمر روما في 2003 تمويل النفقات الجارية للسلطة الفلسطينية عبر صندوق ضمان يدار من قبل البنك الدولي كان يجمع سنويا 300 مليون دولار، إلا أن الأزمة الحقيقية كما يقول الدكتور الكرنز بدأت وبقوة في أكتوبر 2005 حيث تراجعت المساعدات الخارجية في الوقت الذي زادت فيه نفقات السلطة خاصة في مجال زيادة الرواتب وتخصيص حوالي 300 مليون دولار لإعادة اعمار قطاع غزة وشمال الضفة الغربية بعد انسحاب القوات الإسرائيلية من تلك المنطقتين، مولت جميع تلك الزيادة بقروض من البنوك بضمان موجودات صندوق الاستثمار الفلسطيني، حيث بلغت تلك القروض 450 مليون دولار، في حين بلغت التزامات السلطة للقطاع الخاص وصندوق التقاعد وغيرهما أكثر من 600 مليون دولار حتى مارس (اذار) 2006، كل ذلك في الوقت الذي أوقفت فيه إسرائيل دفع المقاصة وتراجعت المساعدات الخارجية بعد فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية الأخيرة.

هذا التراجع وتلك المديونيات برأي العديد من المراقبين لم تُقرأ من قبل حماس بدقة قبل تشكيلها الحكومة الحالية، بل صرح أكثر من مسؤول فيها خلال تلك الفترة بأن حماس تعرف جيدا كيف يمكنها أن تتعامل مع هذه التحديات، وبأن التخوف إزاء إمكانية توفر البدائل غير مبرر، لا بل ذهب بعض هؤلاء المسؤولين إلى أبعد من ذلك، حين حددوا بأن العلاج يكمن في توفير مبالغ طائلة من خلال محاربة الفساد، ومن خلال فتح آفاق جديدة للتعاون الدولي بما يؤدي لرفد الاقتصاد الفلسطيني بالدعم المطلوب، وذلك بالتركيز على البعد العربي والإسلامي للقضية الفلسطينية وفتح قنوات اتصال ودعم دولية لم تكن مفعلة أو مستغلة في السابق، بل وصل الأمر بوزير الخارجية في حكومة حماس الدكتور محمود الزهار، أن وعد عبر قناة العربية بحل الأزمة خلال أسبوعين من تشكيل الحكومة، من دون الاعتماد على فلس واحد من إسرائيل أو الدول الغربية. لكن، وبعد تشكيل الحكومة، سرعان ما بدأت الأمور تأخذ منحنى ابتعد كل البعد عن الإيحاء أو الاقتناع بأن لدى حركة حماس إجابات على كل التساؤلات، وبأن لديها حلولا لكل المشاكل والتحديات، وقد بدا هذا التحول جلياً في المؤتمر الصحافي الذي عقده رئيس الوزراء بعد الاجتماع الأول لمجلس الوزراء الفلسطيني حيث صرح، وبقدر واضح من الانفعال المشوب برائحة الاتهام، بأنه «اكتشف» أن حكومته قد تسلمت خزينة فارغة، ثم أتبع ذلك بتصريحات بشأن ثقل مديونية السلطة، وتبع ذلك كله سيل من التصريحات في نفس الاتجاه من قبل عدد من الوزراء والمسؤولين حملت الحكومة السابقة المسؤولية في تعثر الحكومة الحالية في الوفاء بالتزاماتها المالية، وخاصة استحقاقات الرواتب.

وفي ذلك يقول وكيل وزارة المالية في حكومة حماس إسماعيل أبو محفوظ «إن الحكومة الفلسطينية الحالية برئاسة إسماعيل هنية تسلَّمت مديونية عالية تبلغ ملياراً وثمانمائة وثلاثة وثمانين مليون دولار، وهي موزعة بين مديونية لكافة البنوك العاملة في الأراضي الفلسطينية وبين مديونية للبنوك الخارجية والمؤسسات خارجية». ويلفت أبو محفوظ في حديث خاص لـ«المركز الفلسطيني للإعلام» المقرب من حركة حماس أن الرقم المذكور (1.883 مليار دولار) له معنى كبير؛ حيث يفوق موازنة عام 2005، وبالتالي عام 2005 وجزء من عام 2004 كان الإنفاق الحكومي فيه كلُّه مديونية، مشيراً إلى أن هذا الدَيْنَ الآن انخفض إلى مليار وسبعمائة واثنين وسبعين مليون دولار، بمعنى أن ما يقارب 90 مليون دولار سدّدت من الديون. ويقول أبو محفوظ: «إن هذا الرقم وهذه المديونية إذا ما وزِّعت على عدد سكان فلسطين، نجد أن نصيب المواطن الفلسطيني الذي بلغ السن القانوني للانتخابات مدين بـ 1200 دولار، وهذا يفوق متوسط الدخل الفردي للمواطن الفلسطيني السنوي؛ وهذا معناه أن نعمل كشعب فلسطيني سنة كاملة ولا ننفق شيئا مما نحققه من دخل لكي نخلص الشعب الفلسطيني من هذا الدين»، منوِّهاً بأن هذا الموضوع يحتاج إلى «فحص شامل للمستندات والوثائق الموجودة في وزارة المالية ومختلف الوزارات لمعرفة أين ذهبت هذه الأموال».

من جهته، ارجع الدكتور سلام فياض وزير المالية في عدة حكومات سابقة في حديث مع «الشرق الاوسط»، تصاعد الأزمة المالية خلال الشهر الأخيرة إلى سبب رئيس وهو استمرار الجانب الاسرائيلي في احتجاز أموال الضرائب الفلسطينية، وهي الأموال التي تعرف بفاتورة المقاسة. وقال ان المديونية لا يمكن ان تفسر التصاعد الحاد للازمة المالية الحالية بدليل ان افراج الجانب الاسرائيلي عن أموال الضرائب المحتجزة سيمكن الحكومة من صرف رواتب ثلاثة أشهر دفعة واحدة للموظفين، كما سيمكنها من دفع جزء لا يستهان به من ديون القطاع الخاص. ويأتي تصريح الوزير السابق ورئيس لجنة الموازنة والشؤون المالية في المجلس التشريعي الحالي بعد ان كان قد اتهم وزراء في حكومة حماس بتعمد تضليل الناس، ومحاولة تعليق عجزهم على شماعة الآخرين حيث اشار في بيان صحافي نشر مؤخرا، وكان اشبه بجردة حساب للحكومات السابقة «إن ادعاء الحكومة باكتشاف أنها تسلمت خزينة فارغة، لا ينم إلا عن واحد من تفسيرين محتملين لا ثالث لهما؛ الأول هو أن الحكومة ومستشاريها لم يتوقعوا بالفعل أن يتسلموا خزينة فارغة، وأما الثاني فهو أن الحكومة عمدت إلى الإيحاء بأنها تفاجأت بخواء الخزينة بالرغم من معرفتها اليقينية بأن الخزينة لا يمكن أن تكون إلا خاوية، وللأسف، ليس في أي من هذين الاحتمالين ما يفرح، إذ لا يمكن القبول بالاحتمال الأول إلا بافتراض درجة عالية من الجهل بواقع الأمور، وأما الاحتمال الثاني، فإنه ينطوي على ما هو أسوأ، الا وهو التضليل المقصود، مشيرا إلى أن السلطة الفلسطينية كانت في حالة سعي دائم للحصول على التمويل اللازم لسد العجز المالي بغية تمكينها من الوفاء بالتزاماتها المالية في ظل وضع غير مسبوق من الحصار والإغلاق، بدأ يظهر بوضوح بين 2001 و2002 عندما احتجزت إسرائيل أموال السلطة الفلسطينية لعشرين شهراً متصلة، مذكرا بأنه، ومنذ عام 2003، تم نشر كافة موازنات السلطة عبر وسائل الإعلام المحلية وعلى الموقع الالكتروني لوزارة المالية، وأنه اعتبارا من سبتمبر من ذلك العام بدأت السلطة في نشر تقارير شهرية وأخرى دورية عن الوضع المالي على ذلك الموقع، وبأن ما تتضمنه هذه التقارير يكفي لإعطاء صورة واضحة عن صعوبة الوضع المالي للسلطة.

الجدل الدائر بين الحكومة السابقة والحالية حول من المسؤول عن الأزمة، لا يهتم به المواطن الفلسطيني بقدر ما يهتم بالبحث عن حل للأزمة التي يطحن يوميا بين رحاها منذ سبعة أشهر، أي منذ انقطاع الرواتب عن أكثر من 161 ألف موظف، يعيلون أكثر من نصف الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، وفي ذلك يقول الموظف نور العامودي وهو أب لستة أطفال، «إن الرواتب لم تنقطع شهرا واحدا في ظل الحكومات التسعة التي سبقت حكومة حماس، رغم أن الانتفاضة كانت مستمرة والرئيس عرفات كان محاصرًا، لأنه يرفض التنازل عن الثوابت الوطنية، ومحاولة الحكومة الجديدة تسويق عدم قدرتها على دفع الرواتب، لأنها ترفض التفريط في الثوابت الفلسطينية غير مقنعة، فالمجتمع الفلسطيني ينهار رويدا رويدا، دون أن تفعل الحكومة شيئا لإنقاذه». ما يقوله العامودي يمثل رأى الكثير من الموظفين، خاصة أن محاولة حكومة حماس ربط ما يتعرض له المجتمع الفلسطيني من حصار وتجويع برفضها التفريط في الثوابت الوطنية باتت حجة غير مقبولة، كون الرئيس المرحوم ياسر عرفات قد حوصر لأشهر طويلة لرفضه التفريط في ذات الثوابت، من دون أن تنقطع الرواتب أو يعاني المجتمع الفلسطيني من الجوع والفقر الشديدين. إلا أن قطاعًا آخر من المواطنين والموظفين على حد سواء يرون أنهم ضحية أجندات حزبية لحركتي فتح وحماس، ومنهم المواطن رجب الصالحي، 54 عاما، الذي يقول إن الرئيس محمود عباس وحركة فتح يحجمان عن مساعدة حكومة حماس في تخطي الحصار الإسرائيلي الأميركي، طمعا في عودة حركة فتح إلى السلطة». أما زهية الوحيدي، 52 عاما، وهي ربة منزل فتقول «إن حكومات فتح السابقة كانت متهمة دائما بالفساد، إلا أن الناس كانوا «عايشين ومبسوطين»، لم ينقطع العلاج في الخارج ولم تنقطع الرواتب، ولم يحدث حتى اقتتال داخلي كما نرى الآن، ونحن الفلسطينيين لا نمتلك بترولا، ولا مناجم ذهب حتى نقول للعالم بدناش فلوسكم.. نحن نحتاج العالم كله الأجانب قبل العرب والمسلمين، لأن الدول الإسلامية والعربية ما بتقدر تقول لأميركا لا، بدنا ندفع فلوس.. أنا عندي ثلاثة أولاد بيشتغلوا في السلطة والثلاثة متزوجين وعندهم أطفال بدهم أكل ومدارس ولبس، مين بدو يربيهم وكيف بدون فلوس». ويرفض بعض آخر من المواطنين الفلسطينيين المنطق الذي تتحدث به المواطنة الوحيدي، ومنهم المواطن عبد المجيد العشي، 33 عاما، والذي يقول «إن الجوع أهون ألف مرة من التفريط في القدس وأرض الرباط، والله عز وجل لا ينسى أحدا وحركة حماس تحاصر لأنها ثابتة على دينها وعلى حقوق شعبنا». وحمل المواطن العشي الرئيس محمود عباس ومن وصفهم بالفاسدين في حركة فتح، المسؤولية عن تردي انقطاع الرواتب قائلا «إن فتح وعباس يتآمران مع أميركا وإسرائيل، من أجل معاقبة الشعب على انتخابه حماس». أما ناصر الجعيدي، 25 عاما، وهو عاطل عن العمل فيقول: «ليس المهم من يحكم فتح وحماس، كلاهما وجهان لعملة واحدة، فالكل يريد الكراسي والمال والسلطان، ولكن المهم أن الناس بتموت كل يوم والوضع يسير نحو الهاوية، والكل بيحمل التاني المسؤولية، الله يرحمك يا أبو عمار كان محاصرا وبيموت وبيقول لسلام فياض، لا تنسى دفع الرواتب في ميعادها».

استذكار الفلسطينيين للرئيس الراحل عرفات في هذه الأزمة، بدأ يتحول الى هتافات وشعارات تردد في مظاهرات ومسيرات الجوعى في شوارع المدن والمخيمات الفلسطينية، بحيث بات شعار «يا للعار يا للعار.. ضعنا بعدك يا أبو عمار» أشبه بالنشيد الوطني لشعب طالما ضحى بكل غال، من أجل استرداد حريته وأرضه.