رسائل دوستويفسكي قبل الحكم عليه بالإعدام.. وبعده

مراسلات صاحب «الجريمة والعقاب» كاملة باللغة الفرنسية

TT

صدرت مؤخرا في العاصمة الفرنسية مراسلات دوستويفسكي الكاملة. وقدم للترجمة الفرنسية البروفيسور جاك كاتو احد المختصين الفرنسيين بالكاتب الروسي الشهير. وشغلت هذه المراسلات التي تنشر لأول مرة في اللغة الفرنسية معظم الملاحق الثقافية للجرائد الكبرى، وبخاصة جريدة «اللوموند».

قبل ان اتطرق لهذه الرسائل احب ان اتوقف قليلا عند المقدمة المطولة والمهمة التي كتبها الاستاذ المذكور. ففي رأيه ان دوستويفسكي هو اقوى شخصية ادبية شهدها العصر الذهبي للآداب الروسية: اي القرن التاسع عشر. صحيح ان تولستوي يمكن ان يضاهيه او يرتفع الى قامته في بعض الاحيان، ولكن ما أشد الفرق بينهما! فتولستوي كان يصالح الانسان مع الكون حتى في اصعب الظروف، حتى في زمن العواصف والأعاصير. تولستوي كان يخلق اضاءات تفاؤلية من حين الى آخر ولا يترك الانسان وحيدا امام قدره ومصيره. واما دوستويفسكي فكان يفكك الانسان ويركبه على هواه، ويتركه احيانا كثيرة عرضة للرعب واليأس والمواقف الحدية المتطرفة. ولذلك كثرت في رواياته الشخصيات الاشكالية كالمجانين، والسكّيرين، والقتلة، والمجرمين، والعدميين اليائسين.. دوستويفسكي كان (ولا يزال) يقلق ويزعج كل من لا يمتلك القدرة على متابعته. دوستويفسكي يدوخ قارئه حرفيا. ولذلك يتحاشاه البعض خوفا منه. ولكن قلما حلق روائي عاليا، او قلما انخفض عميقا حتى وصل الى المناطق السحيقة والمظلمة للشخصية البشرية مثله.

سوف أتوقف فقط عند الرسائل التي كتبها قبل الحكم عليه بالاعدام وبعده. فمن المعلوم ان ذلك الحدث الذي نادرا ان يتعرض له شخص ويخرج منه سالماً قد أثر عليه كثيرا. ولا يمكن ان نفهم شخصيته الا اذا اخذناه بعين الاعتبار بالاضافة الى تجربة المنفى التي تلته في سيبيريا وامضاء اربع سنوات في سجن الاشغال الشاقة ضمن ظروف مرعبة تفوق طاقة البشر.

معظم الرسائل التي كتبها كانت موجهة الى أخيه الاكبر ميخائيل دوستويفسكي. وكانت تربط بينهما علاقة وثيقة قل ان تنعقد بين اخوين. نستمع اليه يتحدث عن لحظة الحكم عليه بالاعدام وكيف عاشها وذلك قبيل السفر الى «بيت الموتى» في سيبيريا بعدئذ سوف انتقل للاستشهاد وبمقاطع من اول رسالة كتبها بعد خروجه من السجن. وهكذا اكون قد تعرفت على حالته النفسية قبيل المحنة وبعدها مباشرة.

من قلعة بطرس وبولس (اي سجن الباستيل القيصري الشهير)

تاريخ: 22 ديسمبر 1849

أخي يا صديقي العزيز! لقد حُسم مصيري! لقد أدانوني بأربع سنوات من الاشغال الشاقة في سجن سيبيريا. وبعد الخروج من السجن سوف اصبح مجندا محروما من الحقوق المدنية بما فيها حق الكتابة لمدة ست سنوات.. سوف اروي لك القصة من أولها. لقد نقلونا الى الساحة العامة لسجن القلعة. وهناك قرأوا علينا حكم الاعدام. ثم أمرونا بتقبيل الصليب

وكسروا سيوفنا فوق رؤوسنا باعتبار اننا انتهينا. وبعدئذ اغتسلت غسلة الموتى، ثم ألبسونا الاكفان يا أخي. وصفّونا ثلاثة، ثلاثة على الجدار تمهيدا لرمينا بالرصاص. كان ترتيبي السادس، وكنت انتمي الى الوجبة الثانية التي سينفذ فيها حكم الاعدام. ولم تبق لي الا دقيقة واحدة لكي أعيش. في تلك اللحظة فكرت فيك يا اخي، في اللحظة القصوى التي لا تتجاوز الثواني كنت انت وحدك في خيالي. وعندئذ عرفت الى اي مدى أحبك يا أخي الحبيب.

ولكني في آخر ثانية قبيل التنفيذ دُقت الطبول وأعلنوا عن العفو الملكي الذي وهبنا الحياة من جديد!.. هل تستطيع ان تتصور تلك اللحظة؟ من يستطيع ان يتصورها؟ ولكن على الرغم من كل ما حصل لي فلم أفقد الشجاعة ولا الأمل. الحياة في كل مكان هي الحياة. الحياة موجودة في داخلنا وليس في العالم الخارجي.

لا تبكِ عليّ يا أخي، ارجوك لا تبكِ.. قَبّل زوجتك واطفالك وتحدث لهم عني لكيلا ينسوني. فربما التقينا يوما ما.. لم اشعر في اي يوم من الايام بمثل هذا الفنى الروحي الذي يغلي في داخلي كالمرجل. ولكن هل سيصمد جسدي على المحنة؟ هذا هو السؤال. اني ارحل وانا مريض. ولكن لا بأس، خلها على الله... لا تخف يا أخي. فقد تحملت كثيرا من المصائب في حياتي، ولم يعد هناك أي شيء يخيفني. ليكن ما يكون.. في أقرب فرصة سوف أعطيك من أخباري.

هل من المعقول الا أكتب شيئا بعد الآن؟ هل يمكن ان تنتهي حياتي الأدبية وانا لا أزال في بداية البدايات؟ آه يا أخي! كم من الصور المعاشة والافكار سوف تموت في رأسي، سوف تتبخر الى غير رجعة اذا ما حصل ذلك. نعم اني سوف أموت اذا ما مُنعت من الكتابة. اكتب لي يا أخي كثيرا. اكتب حتى عن الاشياء التافهة، وبخاصة الاشياء التافهة، العادية، اليومية. فأنا سأكون في المنفى بعيدا عن الحياة. مفصولا عن الحياة.

ولكن بحق السماء لا تبك. لا تبك عليّ يا أخي لا تبك.. اعلم اني لم افقد الشجاعة ولم يتخل عني الأمل حتى في أحلك اللحظات قبل لحظة الاعدام بقليل كنت أعلم ان خبر اعدامي سوف يقتلك في أرضك.. ولكن الآن تجاوزت هذه النقطة، ولم يعد هناك من خوف. اني أولد من جديد. لا يعرف معنى الحياة الا من فقدها أو أوشك على فقدانها. ما ان أعود الى الماضي حتى افكر بكل الوقت الضائع سدى. افكر بلحظات البطالة والعطالة والضلالات والفرص التي راحت.. كم اخطأت بحق نفسي وروحي.. عندما افكر بكل ذلك اشعر بنزيف دام في قلبي. الحياة عطية، الحياة هدية ثمينة جدا ولا نعرف قيمتها الا عندما نفقدها أو تصبح مهددة فعلا. الحياة سعادة. في كل دقيقة يوجد قرن من السعادات.. آه من طيش الشباب! والآن اذ اغير حياتي اشعر وكأني أولد بصيغة أخرى».

(1854)

الرسالة الثانية بعد الخروج من بيت الموتى

من يستطيع أن يتخيل فرحة دوستويفسكي وهو يخرج من سجن الاشغال الشاقة ويغادر سيبيريا الى غير رجعة؟ من يعرف كيف تنفس الصعداء وشمّ نسيم الحرية لأول مرة؟ بعد اربع سنوات من العذاب والاشغال الشاقة اليومية وتقييد رجليه بالاغلال والسلاسل يخرج دوستويفسكي من تحت الانقاض وكأنه ميت يبعث من القبر. لقد شاهد كثيرا دوستويفسكي واحترق كثيرا، وسوف ينتج عن ذلك شيء لا يمكن تصوره بعد ان تعتمل الاشياء في الداخل وتتفاعل. سوف تنتج الروايات العبقرية.

وسوف يصبح واحدا من أهم الكتاب على مر العصور. لنستمع اليه يقول الى اخيه ميخائيل في أول رسالة يكتبها بعد تحريره:

«سوف نلتقي يا اخي قريبا. أشعر بأن روحي شفافة ورائقة في هذه اللحظة. المستقبل لي المستقبل كله لي وارى منذ الآن ما سأفعله، كما لو انه تحقق الآن أمامي. أنا راض عن حياتي. ليس هناك الا شيء واحد أخشاه: البشر والاعتباط.. ولكن البشر في كل مكان هم البشر. حتى في سجن الاشغال الشاقة وجدت بشرا بين المجرمين والقتلة واللصوص. نعم بعد اربع سنوات من العيش معهم اكتشفت ان بصيص الانسانية لم يمت في داخلهم. وقد احبوني وبكوا عندما افترقنا الى غير رجعة. لقد تعرفت على روسيا في السجن. وبالاخص على الشعب الروسي. وأزعم اني اعرفهما الآن أكثر من أي شخص آخر».

ثم نلاحظ انه يطلب منه بعض الكتب لأنه سوف يظل بعيدا أو مبعدا لفترة اضافية أخرى كمجرد جندي في الجيش. وهو موجود في مناطق نائية لا كتب فيها ولا مكتبات وسوف نفاجأ بنوعية الكتب التي يطلبها، وبخاصة الكتاب الأول:

«أرجوك ان ترسل لي القرآن، ونقد العقل الخالص لكانط، وارسل لي بدون اي تردد هيغل وبخاصة كتابه عن تاريخ الفلسفة.. كل مستقبلي يتوقف على هذا الكتاب...» هكذا نلاحظ ان قراءات دوستويفسكي لم تكن تقتصر على الرواية فقط وانما كانت تتعداها الى الدين والفكر والفلسفة.

والواقع انه كان دائما شديد الاهتمام بالكتاب المقدس للاسلام. وله عنده مكانة خاصة واحترام كبير. والدليل على ذلك انه ذكره اكثر من مرة في كتبه وبخاصة في روايته الشهيرة: الممسوسون. وكان قد ذكر القرآن كأحد مصادر التأثير الثقافية على شاعر روسيا الاكبر: بوشكين. وقد ورد ذلك في خطابه الشهير بمناسبة الاحتفال بذكراه في موسكو. يضاف الى ذلك ان دوستويفسكي كان يمتلك نسخة من القرآن الكريم في مكتبته الخاصة. وكانت بالفرنسية التي يتقنها. وهذا شيء مؤكد من مصادر موثوقة. اذا علمنا مدى ارتباط الكاتب الكبير بالانجيل والعقيدة المسيحية في مذهبها الارثوذكسي فاننا لا نملك الا ان نبدي اعجابنا بهذا الانفتاح الروحي الرائع على الكتاب المقدس لدين آخر منافس تاريخيا للمسيحية. وهذا دليل على ان ايمان الكتّاب الكبار ليس ضيقا ولا متعصبا على عكس الناس المنغلقين.