«حرب النهر».. رواية تشرشل «العنصرية» لقصة احتلال بريطانيا للسودان

وصف أهل السودان بأنهم «أعداء الله».. وأقر بأن المهدي قائد الثورة المهدية «أعظم أبطال عصره»

TT

يتناول كتاب «حرب النهر» لمؤلفه رئيس الوزراء البريطاني السابق ونستون تشرشل السياق التاريخي للسودان حين كان خاضعا للسيادة العثمانية ومجيء القائد البريطاني تشارلز غوردون باشا ليكون حاكما للسودان 1875 ـ 1879. وقد صدرت له حديثا ترجمة عن دار الشروق بالقاهرة بعنوان «تاريخ الثورة المهدية والاحتلال البريطاني للسودان» في 471 صفحة كبيرة القطع بقلم السوداني عز الدين محمود.

وحرب النهر المقصودة هي ما يعرفه البريطانيون بـ«معركة أم درمان» نسبة الى العاصمة الشعبية السودانية وما يعرفه السودانيون بـ«معركة كرري» نسبة الى جبل كرري (11 كيلومترا شمال أم درمان) الذي شهد أحداثها في الثاني من سبتمبر (ايلول) 1898. في هذه المعركة انتصرت القوات البريطانية بقيادة هوراشيو كتشينر على قوات الثورة المهدية في عهد عبد الله التعايشي، الذي خلف محمد أحمد المهدي، وبدأ بعدها الاستعمار البريطاني للسودان.

وكان المهدي هو الذي حرر البلاد من الغزاة العثمانيين وقائدهم العسكري الجنرال البريطاني تشارلز غوردون باشا. ويقول المؤلف، حسب عرض مطول للكتاب أوردته «رويترز» أمس، انه في عام 1883 تجمع أكثر من 40 ألف مقاتل تحت علم المهدي الذي رفض الاستسلام للجنرال هيكس ودارت معارك دمر فيها جيش الغزاة. وقتل كل الضباط الاوروبيين بمن فيهم القائد هيكس. كان مقاتلا اكتسب احترام أعدائه الشرسين وأصبح المهدي سيد السودان. ولا يقتصر تشرشل في الكتاب على وصف المعارك العسكرية بل يمتد تحليله لما هو أبعد. اذ يرى مثلا أن هناك علاقة خاصة بين مصر والسودان الذي «يرتبط بمصر عن طريق النيل كالغواص الذي يرتبط بالسطح بأنبوبة الاكسجين. بدونها ليس هناك سوى الاختناق. لا حياة بدون النيل».

ويبدو وصف تشرشل للمهدي جزءا من سلوك المنتصر تجاه بطل عنيد أربك حسابات الامبراطورية البريطانية بعض الوقت حين قاد ثورة أو حركة اجتماعية وعنصرية... قبل عام 1881 لم تكن هنالك أي حركات تعصب في السودان، مشددا على أن المهدي كان السبب المباشر لحرب بريطانيا على السودان كما يقلل أحيانا من شأن انتصارات المهدي ويرجعها الى تخبط أعدائه.

كما يرسم صورة تشكيلية لجغرافيا السودان قائلا ان النيل يجري في الصحراء «كخيط من الحرير الازرق يسبح على مجرى بني هائل. وحتى هذا الخيط ينقلب لونه الى بني غامق كل نصف عام»، مشيرا الى أنه في سرد قصة حرب النهر فان النيل له اليد الطولى وأنه سبب الحرب «ومن خلاله نحارب وهو النهاية التي نرغبها».

ويقع الكتاب في 471 صفحة كبيرة القطع. ويشيد مترجمه في مقدمته بموهبة تشرشل الادبية ويعتبر كتابه «درة في جبين الادب الانجليزي». لكنه يشير الى وجود روح التشفي والسخرية التي دفعت تشرشل الى عدم التوقف أمام انتصارات رجال المهدي في حين يسهب في وصف انتصارات الغزاة البريطانيين.

ووصف محمود ترجمة الكتاب بأنها عمل وطني مهم لكنه اعترف بحذف «أي تعبير قد يشتم منه اساءة لمصر أو السودان ورضيت بأن يقال ان الترجمة غير دقيقة في بعض مواضعها على أن أتهم بأنني أروج اساءات لبلدي». كما شهد بحياد تشرشل في بعض المواقف وإنصافه للرجال «الشجعان الذين قاتلوا بشرف واستشهدوا بشرف». وأضاف في هامش أن تشرشل قاد احدى الفرق العسكرية أثناء الزحف النهائي على أم درمان عام 1898 ضمن معركة يصفها تشرشل بأنها «معركة اعادة الغزو».

وقال السير جون كولفيل مساعد السكرتير الخاص لرئيس الوزراء في عهد تشرشل في مقدمة الكتاب ان «الروح الاستعمارية لدى تشرشل والتي كانت تشمل مشاعر أبناء ذلك الجيل من بني وطنه في عهد الامبراطورية تظهر بوضوح في هذا الكتاب. ولكن يجب علينا أن نحكم بما كان سائدا ابان العهد الفيكتوري وليس بما هو شائع هذه الايام»، مشيرا الى أنه في تلك الفترة وتحديدا عام 1899 حين كتب «الضابط الصغير» تشرشل هذا الكتاب وهو في الخامسة والعشرين لم يكن يساور بريطانيا أو فرنسا أو بلجيكا أو ايطاليا أو البرتغال أدنى أسف أو تردد في تقسيم افريقيا.

ويقول تشرشل في الكتاب ان المهدي «وضع في قلوب قومه الروح والحياة وحرر بلاده من الحكم الاجنبي. ان بسطاء الناس الغلابة الذين كانوا يعيشون شبه عراة وقوتهم لا يخرج عن كونه بعض الحبوب الجافة فجأة وجدوا معنى جديدا للحياة بعد أن استطاع المهدي أن يغرس في صدورهم الحس الوطني الجارف والوازع الديني القوي». ويضيف أنه بعد هزيمة الجيش الغازي عام 1883 ومصرع قائده هيكس قفزت فكرة الاستعانة بالجنرال غوردون الذي وجد نفسه بعد وصوله الى الخرطوم عام 1884 «محاطا بحركة وطنية جبارة ومد ثوري ضد كل ما هو أجنبي». وأورد يوميات غوردون التي كتب فيها «يجد المرء تسلية في تصور هذا المزيج العجيب من البشر الذي يرافق المهدي، أوروبيون قساوسة وراهبات. اغريق وضباط نمساويون». وفي يناير (كانون الثاني) 1885 بدأت معارك يصف فيها تشرشل أنصار المهدي بأنهم «العدو الوحشي» الذي تسلل الى الخرطوم وذهب بعضهم الى القصر وخرج اليهم غوردون «هذا الشخص العظيم الشهير ومندوب مملكة بريطانيا... لم يتمكن من عمل شيء مع جنون الفرحة بالانتصار والاندفاع الديني» فقتلوه واستولوا على المدينة ونظرا «لقوة العدو المنتصر» أجليت القوات البريطانية عن السودان بعد التخلص من المؤن برميها في النيل وأصبح المهدي حاكم السودان ثم تعرض بعد أشهر لمرض أسلمه الى الوفاة.

ويروي تشرشل أن جثة المهدي ظلت في قبر عميق بالغرفة التي توفي بها حتى أمر الجنرال هربرت كتشنر (1850 ـ 1916) بإخراجها عام 1898 حين دخل أم درمان بعد معارك ثبت فيها أن «شجاعة السود لا تقل اشتعالا عن رصاص بنادقهم» ورغم هذا يصفهم تشرشل بأنهم «أعداء الله».