الخبز ملح الحياة لدى المصريين ومصدر إلهام لفنانيهم

من أنواعه «البتاو» و«المرحرح» و«الشمسي» و«البطاطي»

TT

في الشكوى الثانية من شكاوى الفلاح الفصيح إلى فرعون مصر يخاطب مديرة المنزل، مذكرا اياها بما يحتاجه الإنسان في الحياة قائلا: «إن ما يحفظ أودك في بيتك قدح من الجعة وثلاثة أرغفة من الخبز». وفي 18 و19 يناير (كانون الثاني) عام 1977 اندلعت في مصر واحدة من أكبر الانتفاضات الشعبية، التي شهدتها على مر تاريخها، وعرفت تلك الانتفاضة في الأدبيات السياسية بـ«انتفاضة الخبز»، والسبب كان زيادة بعض أسعار السلع الأساسية، وعلى رأسها الخبز. وحاليا لا تزال مشاهد تجمعات المصريين على أكشاك ومنافذ بيع الخبز هي الأكثر إثارة للتساؤل حول حقيقة فلسفة «أكل العيش» عند المصريين.

ومن الأشياء اللافتة، أن المصريين دون بقية الشعوب العربية يطلقون على الخبز لفظ «العيش» فهو قوام طعامهم ووقود حياتهم، وهم يُقسمون به فيقولون «وحياة العيش والملح». الخبز عرفه المصري القديم منذ 6 آلاف سنة قبل الميلاد. وحسب خبير الزراعة المصرية القديمة حسن عبد الرحمن خطاب المسؤول بالمتحف الزراعي بالقاهرة، فإن مصر من أوائل الدول التي عرفت صناعة الخبز، فقد كان هناك نحو 100 نوع من الخبز عرفها المصريون القدماء، وكانوا يقدسونه، ولا يرضون أن يلقى في عرض الطريق، أو تدوسه الأقدام، فكل أفراد المجتمع كانوا يأكلون الخبز. وتذكر بردية هاريس أن القرابين المقدمة في عهد الملك رمسيس الثالث كانت حوالي 30 نوعا من الخبز. وفي الأساطير المصرية القديمة كانت إيزيس تصنع الخبز بيديها لزوجها أوزوريس دلالة على الحب والوفاء. أما عدد انواع الخبز لدى المصريين الآن فيقدر بحوالي 150 نوعا من الخبز.

وكان خبير الغذاء الراحل د. عبد السلام عيادي قد حلل الخبز الفرعوني فوجده يحتوي على الكربوهيدرات والبروتين والخميرة. أما الكعك فوجد به الزبد وعسل النحل وفيتامين B بالإضافة إلى العناصر السابقة. وهو ما يؤكد أن المصريين القدماء تمتعوا بمهارة خاصة في صناعة الخبز. ويقول ميشيل وصفي الخبير بالمتحف الزراعي، إن المصري ظل على تبجيله للخبز في العصر القبطي أيضا، فكان يقدم كقرابين في الكنيسة، وأفضل قطعة خبز كانت تسمى «قربان الحمل»، وكان هناك حوالي 100 نوع من الخبز. ويتابع حسن خطاب قائلا: إن المصريين حتى عهد قريب جدا كانوا يضعون في قبر المتوفى خبزا وملحا وقلة فارغة ( إناء من الفخار يستخدم في تبريد الماء للشرب) مثلما كان يفعل الفراعنة، حيث كان يدفن معهم بعض أشياء من الخبز وقليل من الملح. ولا تزال أنواع من الخبز المتداول تحتفظ باسمها الفرعوني مثل «البتاو» المشتقة من كلمة «بات» باللغة المصرية القديمة، الذي يصنع من القمح والسمن واللبن والذرة.

وتزخر الأمثال الشعبية المصرية بالعديد من صور العيش أو الخبز منها: «اللي ياكل رغيف السلطان يحارب بسيفه» و«الجعان يحلم بسوق العيش» و«يا واكل قوتي يا ناوي على موتي» و«العيش الحاف يربي الكتاف» و«إدي العيش لخبازه ولو ياكل نصفه» و«رجع قفاه يقمّر عيش» و«وشه يقطع الخميرة من البيت» و«ده ما بيضحكش للرغيف السخن» و«الخميرة أميرة» و«كل لقمة حبيبك تسره وكل لقمة عدوك تضره» و«عَمّال يلت ويعجن». وغيرها العديد من الأمثال التي تشير إلى مخزون الخبرة الجماعية في التعامل مع شؤون الواقع والحياة.

ومن العادات الشعبية التي لا تزال شائعة لدى الكثير من المصريين وضع قطعة خبز في المنخل بعد استعماله لحفظه ولدوام الخبز. وإذا تعرض أحدهم لكابوس يضعون له تحت الوسادة رغيف خبز به ملح وسكين لطرد الأرواح الشريرة. ولا يزال معظم المصريين إذا وجد أحدهم قطعة خبز ملقاة في الطريق يأخذها ويقوم بتقبيلها سبع مرات، ثم يضعها بجوار الحائط، وهذه العادات يقوم بها المسلم والمسيحي على السواء.

و في كتابه «الخبز في المأثورات الشعبية»، يقول الدكتور سميح شعلان: «هناك يوم محدد من العام اسمه يوم النقطة لا يحتاج فيه العجين إلى خميرة، فالخميرة في ذلك اليوم تنزل من السماء!. وفيه يتم إعداد الخميرة للعام كله، ويكون هذا التجديد في يوم محدد هو ما يوافق 11 من شهر بؤونة في التقويم القبطي. والنساء يحسبن لهذا اليوم وعند حلوله يعجن خبزهن من دون أن يضفن إلى ذلك العجين أية خميرة، ويتم اقتطاع قطعة من هذا العجين وحفظها وتخزينها لاستخدامها في العجين التالي، ثم تقطع منه للعجين الذي يليه. وهكذا حتى يمر العام ويأتي يوم النقطة من جديد ليتم تجديد الخميرة للعام القادم من عجينة هذا اليوم، ويضيف سعد الخادم الباحث في التراث الشعبي: «عيد النقطة عيد قديم يحتفل به يوم 11 من شهر بؤونة من كل عام، وكانت الفكرة السائدة في هذا العيد أن الملاك ميخائيل يسقط في ماء النيل نقطة من الماء المخمر فيرتفع منسوب الماء، ويحدث الفيضان، أما الفلاحون فكانوا يعجنون ليلة النقطة في ماجور (وعاء) طيني مصنوع من طمي النيل فإذا وجدوا في اليوم الثاني أن الطين اختمر اعتقدوا أن النيل سيكون وافيا».

وفي المأثور الشعبي توصف السيدة التي يتخمر عجينها بسرعة بأنها غيورة، دمها حام، فتنتقل سخونتها إلى العجين. وبالعكس المرأة صاحبة الدم البارد، ذات البال الطويل، التي لا تتسم بسرعة الحركة فعجينها يأخذ وقتا إلى أن يتخمّر.

وأيضا من الأشياء الطريفة أن المرأة التي تعجن تقيم علاقة خاصة مع العجين، فهي تكلمه وتهدهده ليثق بها ويعطيها أفضل نتيجة، فهي تنشر الدقيق لتستر العجين وتحافظ عليه، وليس بغرض أن تعفٍّره. وفي إحدى أهازيج هذه الحالة تخاطب المرأة العجين قائلة: « سترتك بالدقيق / يكفينا شر الضيق تسترني مثل ما سترتك / تسترني في كل طريق سترتك ما عفّرتك ..».

وللجلوس أمام الفرن طقوسه، فلكي تحافظ المرأة على نفسها من الأذى، وعلى خبزها من سوء الإعداد يجب ألا تجلس أمام الفرن وهي غاضبة أو حزينة، أو تتناول سوء الأمور بلسانها. فمن الممكن أن يصيبها أذى، من «ملك الفرن»، كما يعتقدون. ومن أهازيج المرأة في طقس إعداد الخبز:

« ياعجين اشرب شرابك / ما عذاب إلا عذابك ياعجين لوف لوف / كما لافت النعجة ع الخروف ياعجين لوف لوف / كما لافت الحنة ع الكفـوف ويؤثر العامل الجغرافي على صناعة الخبز في مصر وانتشاره، فعلى الرغم من وجود مشترك عام إلا أن هناك أنواعا من الخبز تختص بها بعض القرى والنجوع والمدن، مثل الخبز الشمسي، والفايش والجراية والبتاو في صعيد مصر، والمرحرح بمحافظة الشرقية، والبطاطي بمحافظة المنوفية، والسينوي وعيش الصاج والفراشيح بشبه جزيرة سيناء، والمجردق والمقرّن في الوادي الجديد والواحات وبعض القرى في وسط دلتا مصر. ولأهمية الخبز في حياة المصريين خصصت الهيئة العامة لقصور الثقافة الإصدار الأول من أطلس المأثورات الشعبية عن الخبز في محافظات مصر. ورصدت الموسوعة أنواع الخبز ومكوناته، وقسمته إلى خبز أساسي يتم تخزينه لأسبوع أو أسبوعين، وآخر غير أساسي للاحتياج اليومي. ويصنع الخبز بشكل عام من القمح والذرة واللبن والسمن، وأحيانا تضاف إليه مقادير من الحلبة ومسحوق البامية المجففة ليتماسك قوامه وإكسابه طعما لذيذا، كما تضاف أحيانا مقادير من الأرز لإكسابه بريقا جذابا. ويصنع الخبز أحيانا من الشعير، وحسب الأعراف يدل هذا الخبز على الفقر الشديد.

وفي هاجس الحكومات المصرية المتعاقبة يمثل البعد الاقتصادي والاجتماعي للخبز أهمية خاصة، لذلك يكون الحرص ـ غالبا ـ على عدم المساس بأسعاره خوفا من أن ينفجر الغضب المكتوم، خاصة أن اغلب المصريين من الطبقات الفقيرة، التي تعتمد على الخبز المدعوم حكوميا بشكل أساسي في حياتها، ويجلسون أحيانا بالساعات أمام الأفران للفوز بحصة «عيش» ليومهم، أما الغموس «الإيدام» فيكون أي شيء: حزمة جرجير، أو «خصّاية» أو بصلة وكوب شاي . ومن أهم مآثر الخبز في مصر الفرعونية أنه كان يتم إعطاؤه كمرتبات للبحارة وموظفي المراكب، وكان ثمة حكمة فرعونية تقول «إعط الشغال رغيفا تأخذ رغيفين من كتفه». وفي الكثير من الأدبيات والوثائق الفرعونية يتمتع الخبز بمكانة خاصة. فمن واجب الزوج تجاه زوجته أن يطعمها بالخبز وكسوتها وتعطيرها بالعطور. وفي وصايا الحكيم آني يوصي ولده بأمه قائلا: «ضاعف الخبز لأمك واحملها إن استطعت كما حملتك». وفي العصور الحديثة دخل الخبز أجندة الكثير من الفنانين التشكيليين المصريين، فتأثروا بدلالاته وطقوس صناعته في أعمال واقعية بالغة الرقة والجمال، منهم الفنان الرائد محمد ناجي صاحب لوحة «نساء يخبزن» 1934، وهناك لوحة «الفرن» لمحمد عويس، كما يبرز الخبز في أعمال عبد الهادي الجزار، وراغب عياد، وبدوي سعفان، وعبد الوهاب عبد المحسن، وعلى الدسوقي الذي يرى أن صانعة الخبز هي صانعة الحياة.