كأن أتاتورك جزءا من تفاصيل الحياة اليومية لدى الأتراك، وكأنه مات بالامس. فالاتراك يستشهدون به في كلامهم، فعندما يتحدثون حول حزب العمال الكردستاني والمشاكل على الحدود العراقية بسبب نشاطات الاكراد، يقولون: لو كان أتاتورك حيا لما حدث هذا. محمد وهو تاجر تركي قال لـ«الشرق الأوسط»: «لو كان أتاتورك حيا لأعدم عبد الله اوجلان (زعيم حزب العمال الكردستاني المسجون في تركيا حاليا). لم يكن ابدا ليسمح لشخص بأن يهدد وحدة أراضي تركيا». عندما تتحدث حول مشكلة الاسعار او البطالة او الحجاب او المواجهة بين العلمانيين والاسلاميي, ستجد ايضا من يرد عليك قائلا: لو كان اتاتورك حيا لفعل هذا وهذا.. وتصرف كهذا. او لو كان اتاتورك حيا.. لما فعل هذا». يختلف الاتراك حول الكثير من الاشياء لكنهم يتفقون حول اتاتورك، فالمتدينون، والعلمانيون، والفقراء والاثرياء وابناء الطبقة الوسطى، ورجال الدين يترحمون على اتاتورك في صلواتهم اليومية حتى اليوم. وهي مكانة لم يتمتع بها زعيم تركي من قبله او من بعده. فأتاتورك، مواليد 19 مايو (آيار) 1881، كان أول رئيس تركي، بين 29 أكتوبر (تشرين الاول) 1923 و10 نوفمبر (تشرين الثاني) 1938 عندما توفي. كما كان اول رئيس وزراء تركي، بين 3 مايو 1920 و24 يناير (كانون الثاني) 1921. وأول رئيس للبرلمان التركي، من 1921 الى 1923. واول زعيم لحزب الشعب الجمهوري، بين 1921 الى 1938. وهي مكانة تمتع بمثلها على الصعيد الدولي، فقد كان من أهم الشخصيات السياسية في عصره وظهرت صورته على غلاف مجلة «تايم» الاميركية 3 مرات خلال حياته، في أعوام 1923 و1927 و1934. اذا كنت زائرا لتركيا، لن تفتقد صور اتاتورك ايضا فهي في كل مكان، مثلها مثل العلم التركي. كما ان اسمه يتردد في النشيد الوطني التركي الذي يقول: «أنا تركي.. انا أمين.. اعمل بجد ولدي مبدأ وهو ان احمي صغيري وأحترم كبيري وان احب بلدي ووطني اكثر من نفسي. لدى حلم هو ان اكبر وأتقدم للامام. أتاتورك العظيم، اقسم لك أن اسير بلا توقف على الطريق الذي مهدته وللمبتغى الذي اخترته، املا في ان يكون وجودي هدية للاتراك. سعيد هو من قال: انا تركي». وفي النصب التذكاري الذي يضم مقبرته المعروفة باسم «انيت كبير» يتوافد المئات يوميا يسمعون خطبه في المناسبات المختلفة، ويعرفون اكثر عن تاريخ حياته، وبعضهم يبكي عندما يسمع صوته في الشرائط المسجلة له. في الضريح، المقام وسط أنقرة، تجد أقوال أتاتورك المأثورة مثل «السيادة للشعب بدون شروط»، و«الأمم التي لا تستطيع تحديد هويتها تستعبدها الأمم الأخرى». أما القبر المدفون فيه اتاتورك فهو عبارة عن غرفة تحت الأرض، غير مسموح للزائرين بالدخول اليها، لكن هناك كاميرا تنقل على مدار الساعة القبر من الداخل وأكواب التراب المرصوصة داخله، كل كوب يحمل تراب احدى مقاطعات تركيا، وهو ما طلب اتاتورك ان يدفن معه. وفوق القبر صورة لاتاتورك على النحاس ومعه أطفال ونساء وعمال ومعلمون وموظفون كلهم يرفعون شعلة. المتحف يروي بالصور تاريخ بناء الجمهورية التركية الحديثة، فهناك صورة لواحدة من اهم الكتابات التركيات في ذلك الوقت وهي نزيهة هانم بدون حجاب عام 1924 وهي من أوائل الصور لأمراة تركية غير محجبة بعدما منع اتاتورك الحجاب. وصورة للموظفين لدى الدولة بملابسهم الجديدة الاجبارية ,البدلة وربطة العنق والقبعة عام 1925. وصورة لأول ملكة جمال في تركيا عام 1929. وخطاب نادر لاتاتورك، وهو من اول الخطابات التي استخدم فيها الحروف اللاتينية، بدلا من الحروف العثمانية والعربية، والخطاب مؤرخ في 9 أغسطس (آب) 1928. وصورة لمجموعة من الفتيات خريجات جامعة اسطنبول بدون حجاب عام 1937. وأول صحيفة معدنية استبدلت فيها الحروف العثمانية والعربية بالحروف اللاتينية، وعليها صورة اتاتورك وعصمت انونو ووزير التعليم في ذلك الوقت مصطفى نجاتي. ولا تقتصر آثار اتاتورك على ضريحه ففي مبنى الجمعية الوطنية التركية (البرلمان) الذي افتتحه اتاتورك عام 1924 وشهد اعلان ميلاد الجمهورية التركية الكثير من آثار أتاتورك، ومن بينها صالة كاملة بتماثيل من الشمع تمثل اتاتورك ونائبه عصمت أنونو وأعضاء اول برلمان تركي منتخب، وصورة اخرى كبيرة لجنازة اتاتورك عام 1938 في اسطنبول. كل ما هو متعلق بميراث او انجازات بأتاتورك يتوزع بين العسكري والمدني. فهو قضى نصف حياته يحارب القوى الكبرى على جبهات المعارك، والنصف الآخر في البرلمان التركي وقصر الرئاسة في تشانكيا يضع الاسس للدولة الجديدة. فحينما انتهت الحرب العالمية الأولى بهزيمة تركيا واحتلال أجزاء واسعة منها من قبل جيوش الحلفاء، تزعم مصطفى كمال حرب الاستقلال لتحرير الأناضول. لكن ظهر خلاف بينه وبين السلطان العثماني عندما رفض أوامر السلطان بمغادرة أنقرة والعودة إلى اسطنبول المحتلة من البريطانيين، فاستقال من الجيش ونظم منذ مايو (آيار) عام 1919 قوات التحرير التي قاتلت اليونانيين والبريطانيين والفرنسيين والإيطاليين تحت قيادته، حتى تمكن قبل نهاية صيف عام 1922 من طرد القوات المحتلة. وخلال معارك التحرير وفي عام 1920 أسس مصطفى كمال المجلس الوطني (البرلمان) في أنقرة ليتحول إلى حكومة موازية لسلطة الخليفة العثماني في إسطنبول. وفي عام 1921 أصدر المجلس ما سماه «القانون الأساسي» الذي تزامن صدوره مع إعلان النصر وتحرير الأراضي التركية في عام 1922 وأعلن فيه مصطفى كمال إلغاء السلطنة، التي تبعها توقيع معاهدة لوزان عام 1923، ثم اعلان قيام الجمهورية التركية في 29 نوفمبر (تشرين الثاني) من نفس العام، ثم تعيينه رئيسا وجعل أنقرة عاصمة للدولة الجديدة بدلا من اسطنبول. بعدما أنجز مصطفى كمال مهامه على جبهة القتال، تحول من عسكري الى سياسي وبدأ مجموعة من «الاصلاحات» الاجتماعية والثقافية التي رأى أنها ضرورية لاعادة بناء الامة التركية، ومن بينها منع المدارس الدينية وإلغاء المحاكم الشرعية، وإزالة الأضرحة وإلغاء الألقاب والطرق والدينية، وتبنى التقويم الدولي. وفي عام 1928 ألغى مصطفى كمال استخدام الحرف العربي في الكتابة، وأمر باستخدام الحرف اللاتيني. وجعل التعليم الابتدائي ومحو الامية إجباريا للرجال والنساء. ثم أقر قوانين مدنية مستوحاة من الدستور السويسري. ومنع لبس الطربوش والعمامة، وأقر قوانين مساواة النساء بالرجال ومنح النساء حق التصويت والترشح في الانتخابات. ثم شدد على فصل شؤون الدولة عن الدين. وخلال 15 عاما فقط تحولت تركيا بشكل جذري. لكن ثورة الاصلاحات التي قادها أتاتورك لم تكن بلا ثمن، أو بلا منتقدين، بالذات من قبل الجيل الاول من الاتراك الذين عانوا التغييرات المفاجئة والفوقية التي فرضها أتاتورك على المجتمع. وتقول الكاتبة التركية عدلات اغا اوغلو، وهي في نهاية الثمانينيات من عمرها، وتصف نفسها بأنها من الجيل الذي عانى اكثر من غيره من ثورة اتاتورك لـ«الشرق الأوسط»: «اصلاحات اتاتورك كانت بقرارات فوقية عليا. اي لم يطلبها الشعب، هو فرضها فرضا. وكانت البدايات صعبة جدا على غالبية الاتراك. فمثلا بدأ بجمع غير المتعلمين من الرجال والنساء في كل القرى التركية وبدأ بتعليمهم الكتابة والقراءة. لم يكن الكل سعيدا، الفلاح يريد ان يذهب للزراعة بدلا من المدرسة، لكن لم يكن لأحد خيار، فهذه كانت قوانين اجبارية من أعلى السلطة. كأننا كنا في معمل اختبار، والجميع امام امتحان. لكن اتاتورك كان معنا في هذا الامتحان، فهو لم يطلب شيئا لم يطبقه على نفسه، بدءا من لبس البدلة وربطة العنق, وحتى تعلم الحروف اللاتينية». وتوضح اوغلو التي اصدرت كتابا حول ايديولوجية الجمهورية التركية الجديدة ان «النساء اكثر من عانى من اصلاحات اتاتورك. فالكثيرات لم يردن خلع الحجاب. وكن متضررات جدا من الملابس الجديدة. كما ان الكثيرات كن غير راغبات في الذهاب للمدرسة، وأهلهن لم يكونوا متحمسين للفكرة، ففي القرى التركية في ذلك الوقت كانت ثورة اتاتورك التعليمية والاجتماعية بمثابة نار على البعض ممن يعتقدون ان على البنات البقاء في المنزل لحماية شرفهن ومساعدة الامهات. كان أتاتورك يقول: الدولة العثمانية انتهت، انتم الآن في جمهورية تركيا وهي دولة اوروبية. وكان من الواضح للاتراك انه لا طريق للرجعة. لكن الناس ساندته بسبب انتصاره في حرب التحرير. بالنسبة لي أكثر شيء مثير للانتباه في اصلاحات أتاتورك الطريقة التي تعامل بها مع الجيش. فهذا الجيش كان من بقايا الدولة العثمانية. بعد الحرب ما الذي حدث؟ بدأ اتاتورك مع الجيش نفس عملية اعادة التأهيل التي بدأها مع كل قطاعات الشعب التركي. كان على عناصر الجيش دراسة تاريخ الجمهورية ومعرفة هويتها الجديدة المميزة». ولم يستوعب غالبية الاتراك التعديلات التي ادخالها اتاتورك في البداية، فرجال الدين الذين كانوا من صفوة المجتمع ويتمتعون بمكانة اجتماعية واقتصادية بارزة تحولوا فجأة الى مواطنين عاديين، وكبار الموظفين الحكوميين لم يعودوا بتلك الاهمية بعد قيام الجمهورية، والمتعلمون لم يعودوا متعلمين، فتغيير حروف الكتابة من الحرف العثماني الى الحروف اللاتينية جعل الجميع يجلس على طاولة الدرس مجددا. هذه التغييرات الاجتماعية رافقتها لاحقا تغييرات اقتصادية، فمنطقة وسط اسطنبول القديمة او منطقة السلطان محمد الفاتح والتي كانت منطقة للصفوة والاثرياء ويسكنها رجال الدين والتجار والمعلمين، تحولت تدريجيا الى منطقة للشريحة الوسطى من الطبقة الوسطى، ثم تدهور حالها أكثر مع مرور الزمن، وخرجت منها الطبقات المتعلمة وباتت اليوم منطقة للحرفيين. وتشرح أوغلو هذه الفترة موضحة لـ«الشرق الأوسط»: «كانت تحولات مربكة جدا للاتراك. منع الرجال من لبس الطربوش والعباءة، وحل محلهما القبعة الغربية والبدلة. منعت النساء من لبس الحجاب. الدروس القرآنية التي كانت علامة التقوى لم يعد مرحبا بها، ثم منعت لاحقا. كان الناس يتندرون على طريقة تفكير اتاتورك، ويتساءلون ما هي العلمانية؟ لماذا يريد دولة علمانية؟ لم يكن رجال الدين يفهمون او الموظفون او الفلاحون. لكن الجميع سار وراء قائد حرب التحرير، وكان السائد هو ترديد: لا بد انه يرى ما لا نراه. وهكذا سارت تركيا على عكس جميع الدول في المنطقة. لم تكره الغرب، لم تقبل الاحتلال، اقرت العلمانية والديمقراطية نظاما. وكنا نعرف ان هذا لم يطبق في العالم العربي بعد لأن الاخبار بين اسطنبول والدول العربية كانت ما زالت موجودة». بالنسبة للأتراك العاديين ما سيظل يذكر لاتاتورك هو انتصاره على القوات الغازية التي كانت تريد اقتسام بقايا الدولة العثمانية فيما بينها. وقال أردوغان بكتاش وهو مواطن تركي في الثمانيات من عمره، صوت لحزب العدالة والتنمية في الانتخابات الماضية، لـ«الشرق الاوسط»: «حارب أتاتورك جيوش اربعة دول، وانتصر عليهم، بدون مال وبدون معدات متقدمة. يرحمه الله، انه القائد الابدي لتركيا.. البعض يقول ان أتاتورك لم يكن مؤمنا، هذا غير صحيح، كان يحفظ القرآن عن ظهر قلب، وكان يعرف اللغة العربية. اي قائد للجيش التركي اليوم يحفظ القرآن؟ لا أحد». وتابع «ليس هناك شخص مثل أتاتورك. عندما مات لم يكن يمتلك شيئا، فقد وزع كل أمواله على الاتراك. اليوم أفضل السياسيين الاتراك فاسد. الكل يستفيد من منصبه او موقعه. لم يحب احد تركيا مثلما احبها اتاتورك». لكن ذاكرة بكتاش لا تخلو من لحظات مرعبة تتعلق بالطريقة التي تعاملت بها الدولة التركية مع منع الدروس الدينية. ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «اتذكر عندما كنت صغيرا في القرية وكان عمرى 6 سنوات، رأيت اثنين من اصدقاء والدي جاءا عندنا وتناولا الغداء. ثم دخلا المسجد وصلا وبعد ذلك جلسا مع عدد من الأطفال يعطونهم دروسا دينية. جاءت الشرطة وأخذتهما وفتشت منزلهما واستجوبتهما. ولأنهما صديقا والدي، فقد جاءت الشرطة واخذت والدي وشقيقي ايضا ولم نسمع عنهما لمدة 4 أيام، الى ان افرج عنهما». كما يتذكر بكتاش الصعوبات التي لاقاها الكثير من الأتراك بسبب تضييق السلطات على اداء فريضة الحج، وقرار منع الآذان باللغة العربية، واستخدام اللغة التركية بديلا «كان اذان الصلاة باللغة العربية خلال الدولة العثمانية، لكن اتاتورك جعله بالتركية، ثم في الخمسينيات عندما اجريت اول انتخابات حرة، وخسر حزب الشعب الجمهوري وفاز الحزب الديمقراطي عاد الأذان باللغة العربية مجددا. وانا شخصيا كنت سعيد بهذا» يقول بكتاش. طبعا لم يكن المتدينون فقط هم من سخطوا على التغييرات التي ادخلها اتاتورك، فأكراد تركيا ايضا لا يحبون أتاتورك كثيرا. ويقول مصطفى هليل وهو شاب تركي يعيش في ديار بكر لـ«الشرق الأوسط»: «اتاتورك بنى دولة للاتراك وليس لكل ابناء تركيا. العرق التركي هو فقط المعترف به، اما نحن الاكراد فينبغي ان نكون أتراك حتى يعترفوا بنا. منع اتاتورك اللغة الكردية، وحاول سحق هويتنا، ثم وضع نشيدا وطنيا يقول: سعيد هو من قال أنا تركي». لكن ما سيبقى من أتاتورك هو الدولة التي بناها. فالبرغم من ان أتاتورك لم يكن هو شخصيا شخصا ديمقراطيا، وأفضل خصائصه انه كان يختار مستشارين جيدين، يسألهم ثم يتخذ هو القرار، الا انه وضع الاساس لنظام ليبرالي. وتقول عدالت اغا اوغلو بهذا الصدد «المثير ان اتاتورك ركز كل انتباهه على الاصلاحات الاجتماعية، وليس على الاقتصاد. كما كان مؤمنا بالليبرالية وليس بالتعددية»، فخلال حكمه لم تكن هناك اي احزاب معارضة، أو شخصيات معارضة. لكن بالنسبة لاتاتورك ومن بعده عصمت انونو، فإن حكمهما المطلق كان بمثابة «ضرورة سياسية مؤقتة لبناء الجمهورية»، وليس نموذجا يحتذى، لذلك لم يعمد اي منهما الى وضع اية اجراءات تتعلق بخلافته بعد وفاته، وشددا على احترام المؤسسات الديمقراطية الموجودة. ويلاحظ اندرو مانجو ابزر الاساتذة المختصين في تركيا، على انه على النقيض من الانظمة الشمولية التي يسيطر فيها الحزب الحاكم على الدولة، فإن حزب الشعب الجمهوري الذي اسسه اتاتورك لم يكن مسيطرا على الدولة، بل كانت الدولة مسيطرة عليه، واستعملته من اجل نشر ايديولوجيتها الجديدة وهي العلمانية والحداثة. لكن خلافة عصمت انونو لاتاتورك لم تكن امرا سهلا عليه. وبالبرغم من ان انونو كان مقربا من اتاتورك لعشرين عاما او أكثر، الا ان خلافات في وجهات النظر نشبت بينهما خلال الثلاثينيات، ولم يعودا قريبين جدا، اما سبب الخلاف على وجه الدقة فليس معروفا. لكن الطريقة التي تحرك بها انونو بعد وفاة اتاتورك قد تكشف جزئيا عن أسباب الاختلافات في وجهات النظر. فبعد وفاة اتاتورك، اعاد أنونو، الذي سمي الاب القومي للاتراك، فتح المدارس الدينية، لكنها كانت دائما مقيدة ومسيطر عليها. فترة حكم أتاتورك وشخصيته جعلت فكرة موته فكرة مخيفة للكثير من الاتراك، وعندما اشتد عليه المرض في نوفمبر (تشرين الثاني) 1938 كان حتى كبار رجال الدولة يرتجفون رعبا. التف الاطباء حول اتاتورك وكان عمره فقط 57 عاما، وهو بالكاد يتنفس، وقد لفت حول جسده بطانية. كانت الاجواء قاتمة، وهناك شعور عام ان هذه هي اللحظات الأخيرة. وكان الجميع خائفا جدا، حتى انونو الذي كان سيخلفه. لم يكن أحد يدري كيف سيكون الحال بعد اتاتورك. عندما أعلنت الوفاة، خرج الآلاف الى الشوارع يبكون. ويقول بكتاش «عندما مات أتاتورك كان عمري عامين فقط. لم يكن لدينا راديو في تلك الايام، لكننا عرفنا الخبر لأن الناس كانت تبكي في الشوارع. الجميع كان يبكي انا اتذكر هذا، فليرحمه الله». خرج الملايين في الجنازة، الكثير منهم نساء. فشعبيته وسط النساء كانت قد وصلت ذروتها بسبب قانون منح النساء التركيات، حق الانتخاب والترشح في الانتخابات البلدية عام 1930، ثم قانون منح النساء حق الانتخاب والترشح في البرلمان عام 1934. وتقول عدالت اغا اوغلو «النساء خصوصا كن حزينات، اتذكر ان امي بكت وصلت، ولم تنم لأيام من الحزن. كانت تركيا كلها تبكي. وكانت خائفة». ولعلها ما زالت خائفة حتى اليوم، فميراث أتاتورك كما يبعث على افتخار الأتراك، يبعث على خوفهم ايضا.
* مصطفى.. كمال.. باشا.. أتاتورك الاسم الذي ولد على دفعات
* إسم مصطفى كمال أتاتورك تَشَكل عبر الزمن. وهو مثل مسيرة صاحبة مزيج بين أشياء عديدة. كمال هو الاسم الاصلي لمؤسس تركيا الحديثة، الذي ولد في مدينة سالونيك اليونانية عندما كانت لا تزال جزءا من الامبراطورية العثمانية. والده هو علي رضا وكان يعمل موظفا في الجمارك، ثم عمل بعد ذلك في تجارة الاخشاب، ولما توفي كان مصطفى لا يزال طفلا صغيرا. فتولت والدته السيدة زبيدة تعليم مصطفى بنفسها. ومن زبيدة تعلم الابن كل خصاله، فهي بالنسبة له لم تكن فقط مجرد أم، بل كانت مثلا أعلى، ومنها تكونت صورته حول النساء التي تميزت باحترام كبير، فأعطاهن حقوقا مساوية للرجال في كل شيء. ظل مصطفى بهذا الاسم أي مصطفى علي رضا حتى المدرسة، عندما طلب منه استاذه في الرياضيات وكان اسمه كمال ان لقبه بكمال بسبب ذكائه غير العادي في الحساب. وهكذا بات الاسم مصطفى كمال. لكن بعد الدراسة والعمل في الجيش العثماني بات مصطفى كمال، مصطفى كمال باشا بعدما أن منحته السلطنة العثمانية لقب باشا بسبب ادائه خلال الحرب العالمية الاولى. وفي اول اجتماع للجمعية الوطنية التركية (البرلمان) بعد حرب التحرير، اعطاه البرلمان التركي لقب «غازي» أي فاتح. وأخيرا عندما أقر قانون «اسم العائلة» عام 1934 أعطي لمصطفى كمال الحق في اختيار أول اسم عائلي، فاختار أتاتورك. (اتا) يعني ابو، و(تورك) تعني الاتراك أي «أبو الأتراك». ومنذ ذلك الحين لم يسم احد عائلته باسم اتاتورك احتراما له.