السودان: بين الإبحار في نفق التقسيم والتحليق في فضاء الوحدة

عام التحالفات السياسية وبعضها أقرب إلى جرعات السم

TT

عام 2008 بكل الشواهد والمعطيات عام حاسم في تاريخ السودان، والأسباب هنا عديدة. أولها أن اتفاقية السلام الموقعة في نيفاشا في التاسع من يناير 2005 ستدخل عامها الثالث، أي أنها تكون قد قطعت نصف المدة (الستة أعوام التي حددها الاتفاق) ليحدد شعب جنوب السودان عبر استفتاء ما إذا كان سيبقى ضمن السودان الواحد أو ينفصل كدولة مستقلة. وثانيها أن فترة السنوات الثلاث قدمت معطيات جعلت كثيرين يرجحون ذهاب الجنوب في طريق الانفصال، والأسباب هنا أيضا كثيرة، وأبرزها تعليق الحركة الشعبية ـ شريك المؤتمر الوطني في اتفاق نيفاشا، وفي حكومة الوحدة الوطنية ـ لجميع مناصبها الدستورية في الاتفاقية عشية عيد الفطر الماضي، ولم تعد إلا عشية عيد الأضحى الماضي، أي قبل أقل من أسبوعين، ليؤدي وزراؤها القسم وفق الاتفاق الجديد يوم الخميس 27 ديسمبر ليعقب أداؤهم للقسم أول اجتماع لمجلس الوزراء السوداني بحضورهم.

ثالث الأسباب أن أحزاب المعارضة ستبدأ خلال هذا العام حملاتها الانتخابية لتخوض أول انتخابات حدد لها الاتفاق زمنا مفتوحا بين عامي 2008 ـ 2009، وهي انتخابات ستكون ساخنة فيما ستبلور الاستعدادات لها صورة التحالفات القادمة في ضوء انقسام حزب المؤتمر في وقت سابق الى وطني بزعامة البشير، وشعبي بزعامة الترابي، وانقسام الأمة إلى قومي بزعامة الصادق المهدي، وإصلاح بزعامة مبارك الفاضل، وانقسام الاتحادي الديمقراطي إلى جناحين بزعامة الميرغني والآخر بزعامة جلال الدقير، بعد رحيل زعيم الانقسام الشريف زين العابدين الهندي في أواخر عام 2006 .

ووسط هذا الحراك والسيولة السياسية العالية هناك أزمة دارفور التي فشلت آخر محاولة ليبية لجمع أطرافها في سرت في أكتوبر الماضي فيما بدأت قوات الهجين المكونة من الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي الوصول منذ أواخر أكتوبر الماضي لرعاية الملفين الأمني والإنساني بالإقليم. وإذا كان لأزمة دارفور أن تستمر إلى حين دخول جنوب السودان مرحلة الاستفتاء، فالثابت أن نتيجة ذلك الاستفتاء ستلقي بظلالها على قضية دارفور، أي وضع السودان في نفق سيناريو التقسيم إذا اختار الجنوب طريق الانفصال .

والى ذلك سيشهد عام 2008 مزادا سياسيا ساخنا بين الأحزاب الموالية لاتفاق سلام الجنوب والشمال وبين الأحزاب الرافضة له، والمرجح هنا أن تكون دارفور هي تحفة ذلك المزاد. والمؤشرات هنا كثيرة، بينها أن المواقف من الأزمة ربما تستقطب تحالفا جديدا يقف فيه الصادق المهدي الى جانب حسن الترابي، وربما الحزب الشيوعي، محاولين إقناع الرافضين لاتفاق أبوجا، وأبرزهم عبد الواحد محمد نور زعيم جناح بحركة تحرير السودان، وخليل إبراهيم زعيم حركة العدل والمساواة بالدخول معهم في تحالف عريض يتمكنون معه، وفق أمانيهم، من الحصول على أغلبية برلمانية في الانتخابات القادمة، وذلك في مقابل تسريبات صحافية تقول إن المؤتمر الوطني الحاكم نفسه يعد العدة لتدشين تحالف يوسع به تحالفه الحالي مع بعض الأحزاب الصغيرة. ومن هنا أيضا يكتسب عام 2008 خصوصية أخرى كونه سيكون العام الذي سيشهد عودة محمد عثمان الميرغني زعيم طائفة الختمية والاتحادي الديمقراطي من منفاه، وهو الذي تلكأ كثيرا في هذه العودة لعوامل كثيرة، وحاليا يلوك شارع الخرطوم السياسي سيناريوهات عديدة حول تحالفات الميرغني القادمة بعد عودته. ويرى البعض أنه ربما يغسل يديه من رئاسة التجمع الوطني الديمقراطي الذي يرأسه وقاد به المعارضة السياسية والمسلحة للنظام مع الراحل جون قرنق باعتبار أن الحركة الشعبية لتحرير السودان تحت قيادة خلفاء قرنق لم تعد تتحدث عنه أو تعول على دور له في المرحلة القادمة. ولقاء ذلك من الصعب على الميرغني أن يخوض الانتخابات القادمة منفردا، ليجد نفسه بين خيارات أحلاها مر، فإما التحالف مع الصادق المهدي وحسن الترابي، وذلك احتمال ضعيف بحكم عوامل كثيرة بينها مرارات الماضي بينهم كزعماء بصرف النظر عن الخطاب السياسي، وإما التحالف مع المؤتمر الوطني الذي ظل يعارضه من الخارج لستة عشر عاما، وهنا يمكن أن يزيد مثل هذا التحالف من الانشقاقات التي يعاني منها الحزب أصلا، وإما، وهذا هو الخيار الثالث، ويبدو أيضا ضعيفا، أن يحاول توحيد الحزب وإعادة الخارجين عنه، وذلك أيضا ضعيف باعتبار أن جناح الهندي وجلال الدقير حاليا قطع شوطا بعيدا في تحالفه مع المؤتمر، وسيجد المؤتمر الوطني نفسه في موقف أخلاقي حرج إذا «باع هذا الجناح عند حافة النهر كما يقول أهل الغرب»، وهو الجناح الذي تجرأ كثيرا ومد يده للنظام في وقت كانت المعارضة السياسية له في أوجها. أما الخيار الرابع في خريطة التحالفات فهو إعادة الوحدة بين جناحي المؤتمر الشعبي والوطني (البشير والترابي) بسعي إسلامي يرفع لافتة توحيد الحركة الإسلامية، ولكن هذا السيناريو يبدو أيضا ضعيفا بحكم حجم المرارات بين الجناحين والمكايدات السياسية التي سودت أداءهما منذ ما عرف بانقلاب القصر الذي أقصى الترابي من رئاسة البرلمان وأمانة حزب المؤتمر الوطني.

بمثل هذه المعطيات يكون عام 2008 عاما حاسما في تاريخ السودان لأنه سيبلور ملامح سودان المستقبل، بين أن يضع نفسه على أول طريق التقسيم، أو أن يظهر صورة يقترب معها بأحسن الفروض من نسخ ذلك السيناريو. وفوق ذلك، وبالاستعدادات للانتخابات القادمة ستتضح معالم القوى السياسية التي ستحكم سودان ما بعد 2009، بما تحمل من إمكانيات موت أحزاب وبعث أخرى وفق معايير القوة والضعف التي ستقررها صناديق الاقتراع. (مساحة السودان مليون ميل مربع وهو أكبر أقطار القارة السمراء مساحة بتعداد سكان يبلغ 39 مليون نسمة و379 ألفا، والمفترض أن يشهد عام 2008 ضمن استحقاقات سلام الشمال والجنوب تعدادا سكانيا جديدا. ويبلغ ناتج السودان الإجمالي 97 مليار دولار في العام ومتوسط دخل الفرد 2400 دولار في العام، وقد ظل السودان طوال الثلاث سنوات الماضية في مقدمة الدول العشر الأعلى نموا في العالم بنسب نمو فوق الـ 8%، والغريب أن كل المصادر الاقتصادية المعنية بترشيح قوائم الأعلى نموا في العالم لم تورده ضمن ترشيحات 2008).