أدب «السيرة الذاتية».. عربي أباً عن جدّ

كتب حتى السقف لألوف الرجال والنساء الذين كتبوا تفاصيل حياتهم

TT

على العكس تماماً مما هو شائع، فالعرب هم أهل السيرة الذاتية ورواد في كتابتها، لا بل ان الكتابات العربية القديمة الموصوفة بالسير الذاتية، تفوق بعددها، كل ما كان يعتقد وجوده. وكل كلام عن ان هذا الفن عند العرب، مستورد من الغرب، مجرد بدعة، وسوء قراءة. فالأدب العربي القديم «مشحون حتى السقف بمئات ألوف الرجال والنساء الذين دونت حياتهم بعناية. وحجم هذا التراث ضخم إلى حد أننا نشرع الآن في سبره أو نكاد»، كما يخبرنا المؤرخ طريف الخالدي. هذا الرأي ليس اجتهاداً عربياً، او تنطحاً عنصرياً من قبل باحث كبير مثل الخالدي، انه أيضاً رأي المستشرق الأميركي دوايت رينولدز، الذي درس السير الذاتية العربية ومنحها جزءاً مهماً من حياته المهنية. ويأتي رأي الباحثين، المفاجئ هذا، ضمن كتاب جميل صدر حديثاً عن «مؤسسة الدراسات الفلسطينية» بعنوان «دراسات في التاريخ الاجتماعي لبلاد الشام، قراءة في السير والسير الذاتية»، شارك فيه 14 مؤلفا، وتناول عشرات السير الذاتية، ليكشف عن كنز نعيش بجواره من دون أن ندرك اهميته أو قيمة مضامينه، فهل نحن حقاً أمة السيرة الذاتية وروادها؟ وما هي القيمة الحقيقية لهذه الثروة الأدبية؟ ولماذا اتهمنا دائماً باقتباس سيرنا المكتوبة عن الغرب؟

من المفاجآت التي يذكرها الباحث دوايت رينولدز في كتاب «دراسات في التاريخ الاجتماعي لبلاد الشام»، انه خلال أبحاث مشتركة قام بها مع عدد من الباحثين، تم اكتشاف عدد غير متوقع من السير الذاتية العربية القديمة، وهي متنوعة إلى حد مدهش. ويكمل رينولدز بالقول «وقعنا على نصوص لتراجم شخصية عربية بأقلام كتاب ليسوا من العرب، فمنهم الترك والبربر والفرس، والأفارقة الغربيون، والآسيويون الجنوبيون، وبينهم كاتب إسباني مالوركي». ويشرح رينولدز أن بين هؤلاء المؤلفين المسلم والمسيحي واليهودي. وهم أصحاب مهن مختلفة، فمنهم أمراء وفلاسفة وموظفون حكوميون ومؤرخون ومتصوفة وعلماء دين وتجار ونحويون وأطباء، وحتى العبيد الأرقاء. ويكمل رينولدز: «إن ما نجده من تنوع اجتماعي عند هؤلاء المؤلفين، لهو واحد من السمات الأخاذة في تراث تراجم النفس العربية السابق على العصر الحديث، هذا التراث الذي ما زال مستمراً بصورة السيرة الذاتية الحديثة».

دراسة رينولدز هذه التي يتضمنها الكتاب المشترك، حرره كل من عصام نصّار وسليم تماري، تأتي وكأنها تتمرد على مؤلّف وضع أصلاً لدراسة السير الذاتية المكتوبة في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، في بلاد الشام، وبشكل أساسي فلسطين. وكأنما فكرة الكتاب في الأصل، كانت تستبعد وجود كتابات عربية قبل العصر الحديث، يمكن ان يطلق عليها اسم السيرة الذاتية، لكن رينولدز يتملص من هذه الإشكالية، بأن يعتمد تسمية «ترجمة النفس».

وهنا يرد رينولدز على كل من يمكن أن يحتج على تسميته أو تصنيفه لبعض النصوص العربية على انها سير ذاتية، رغم انها لا تتمتع بالمواصفات الغربية، لاسيما منها البوح، والتحدث عن الخصوصيات، بإيضاحات مقنعة. فرينولدز يعتبر أن بعض هؤلاء الكتاب لم يشأ ان يتحدث عن صباه، لكن البعض الآخر ذكر معلومات حساسة، بل ومحرجة عن طفولته وصباه، ويضرب أمثلة حية ومهمة على ذلك. أما اتهام هذه السير بأنها لا تتطرق إلى الحياة الداخلية لأصحابها، كما حياتهم الخارجية فهذا تصور لم يكن شائعاً في ذلك الزمن، حسب رأيه. مع العلم أن ثمة نصوصاً صوفية اهتمت بتدوين الحياة الروحية لأصحابها بشكل منفصل عن حياتهم الخارجية، وهناك في بعض النصوص سرد للأحلام، كنوع من أنواع استبطان الذات. وثمة من استعان بالشعر وهو يكتب سيرته الذاتية، للتعبير عن حالة داخلية بأسلوب شعري، حين يصبح الكلام نثرا، أمراً مستعصياً. وهو ما فعله أسامة بن منقذ عندما كتب عن شيخوخته ووهن بدنه بعد أن بلغ التسعين، وما فعله علي العاملي وهو يتحدث عن وفاة ابنه.

ورغم ان دراسة طريف الخالدي، التي يعتبر فيها نصوص «السير من مفاخر الثقافة العربية»، وتلك المتعلقة برينولدز ويطرح فيها نظريته حول سيرنا الذاتية الفاتنة، ما هما سوى مشاركتين من أصل 14 في هذا الكتاب، إلا اننا اوليناهما اهتماماً لما فيهما من افكار تستحق ان يثار حولها حوار جدي. غير ان المشاركات الأخرى تأتي، في حقيقة الأمر، لتؤكد افكار رينولدز والخالدي، وتستعرض كماً من السير التي كتبت في العصر الحديث بمقدورنا أن نعتمدها كمرجع لاستكشاف ما خفي من الحياة السياسية، وما طمس من يوميات الناس وطريقة معاشهم، مطلع القرن العشرين، في فلسطين وبلاد الشام.

صقر أبو فخر في دراسته لسيرة المؤرخ نقولا زيادة، الذي رحل في يوليو (تموز) 2006، التي تحمل اسم «أيامي» يصفها لجرأتها بأنها «تتحرش بيوميات أندريه جيد، وتقترب إلى حد كبير من اعترافات جان جاك روسو، واعترافات تولستوي والقديس أوغسطينوس، هذه الاعترافات التي شجعت الميل إلى تعرية النفس الملتبسة بالآثام». فهو يتحدث عن علاقته بزوجته مرغريت كما لا يفعل أحد. وقد كتب زيادة «عن تفتح غرائزه، والإغواء الذي تعرض له من بعض الفتية النابلسيين، وكيف لاقى الأمرّين في جنين في دار المعلمين عندما حاول كثيرون الإيقاع به، لكنه رفض هذه الأفعال المنافية للذائقة العامة، مثلما أنف من أحاديث القرويين عن مجامعة الحمير». ومما يذكره ايضاً تحرش صديقة أمه به جنسياً، وكيف تملص منها. لكن أهمية سيرة زيادة، الذي عمّر ما يناهز القرن، تكمن بشكل أساسي بأنها «تشتبك وقائعها بالتاريخ، وبأخبار الأمكنة والرجال الذين كان لهم حضورهم في تاريخنا العربي المعاصر». وميزة هذه السيرة انها «لا تتحدث عن السياسة والسياسيين، وإنما عن الفكر والأدب والثقافة والتربية والأماكن والرجال والنساء والعادات، وعن الريف والمدينة والرحلات، وذلك كله بعين المؤرخ الذي يلتقط أدق التفصيلات، من دون أن ينسى الاتجاهات العامة وخطوط الأحداث الرئيسية».

وبما ان غاية هذا الكتاب هي العودة إلى السير الذاتية للإسهام في كتابة تاريخ فلسطين (كجزء من بلاد الشام)، من خلال مراجع جديدة، لا بل بكر، فقد اخذ كل كاتب على عاتقه سيرة او أكثر يستنبط دررها، ولو بعجالة قد لا تفي بالغرض. فقدم فيصل درّاج قراءة في مذكرات خليل السكاكيني ونجيب نصّار، وهما مثقفان فلسطينيان مختلفان، حلما بالحداثة في مجتمع تقليدي. عاشا القضية الوطنية، نظرياً وعملياً، وبقيا مع ذلك على هامش القرار السياسي الفلسطيني، وعلى هامش الحياة الاجتماعية. الأول صار يهجس بالهجرة والثاني يشعر بالإحباط. أمر لا يختلف كثيراً، عن مثقفين على شاكلتهما يعيشون بعدما يقارب قرن من ذلك الزمان. وهو ما يتعمق الإحساس به حين نقرأ عن الحسرة «السكاكينية» من قيادة وطنية لا تعرف معنى الوطن والمواطنة بالمعنى الحديث، متمسكة بالطقس السياسي القائم على الاحتكار السلطاني، بينما هي في مواجهة مصيرية، مع غزو صهيوني مزود بأحدث المفاهيم والأساليب الأوروبية. ويكتب طريف الخالدي عن قيمة سيرة السكاكيني: أي شيء أكثر إثارة من تصوير خليل السكاكيني للبريطاني الزاحف، الجيد الكسوة والسلاح والغذاء، في مقابل الجندي التركي المتراجع، المرتجف، المجرد من السلاح، المتضور جوعاً، والحافي في بزته الممزقة البالية؟».

ومن السير التي يتناولها الكتاب تلك التي كتبها محمد طارق الأفريقي، تحت عنوان «المجاهدون في معارك فلسطين 1948»، وهي تعد، حسب رأي الباحثة خيرية قاسمية إحدى الوثائق العسكرية التي تظهر جانباً خفياً من معارك المجاهدين أثناء حرب 1948. فكاتب السيرة يعرّف بنفسه كالتالي: «ولمّا كنت احد قادة المجاهدين الذين قادوا معاركها من البداية حتى النهاية، حيث قمت بإدارة أربعين معركة مسجلة ضد اليهود في جبهتي غزة والقدس، رأيت من واجبي أن أسجل هذه المعارك وما يحيط بها من الأسرار وكيفية وقوعها وجريانها، مع ذكر أسماء شهدائها وجرحاها وغنائمها خدمة للحقيقة والأجيال القادمة». وفي هذه السيرة يوضح هذا المقاتل من أصل نيجيري أن عرب فلسطين قاتلوا ببسالة، على عكس ما يشاع، لكنهم كانوا يواجهون قوى أشد تنظيماً وفتكاً، ورغم ذلك استطاعوا ان يحافظوا على مواقعهم حتى وصول الجيوش العربية. لكن هذه الجيوش هي التي خيبت الآمال، بسبب افتقارها للقيادة الموحدة، واستهانتها بالخصم.

ولا تقتصر السير التي يدرسها الكتاب على فلسطين، ففواز الطرابلسي يكتب عن سيرة سليمان بك المشغراوي اللبناني، الذي كان قد خصه بكتاب خاص، صدر منذ ثلاث سنوات عن «دار رياض الريس»، وستيف تماري يخصص صفحات شيقة لثلاث سير دمشقية كتبت في القرن الثامن عشر. ويعتبر تماري ان دارسي تاريخ سورية الحديث محظوظون لوفرة في تراث التراجم والسير، الموجود اليوم في تصرفهم. وقد اختار ثلاث سير ذات سمات مختلفة. السيرة الأولى هي لإسماعيل العجلوني، إسلامي الرؤية، نهجه في الكتابة يدل على استلهامه جمع الأحاديث النبوية الشريفة، بأسانيدها التي تربط أجيال العلماء. أما السيرة الثانية فهي لصاحبها محمد خليل المرادي، ويصح ان يقال عنها بأنها مجموعة من التراجم كتبها هذا الرجل العثماني النزعة. أما السيرة الثالثة فهي يوميات ابن كنان، الدمشقي الهوى، الذي لم يستطع ان يفصل بين يومياته الشخصية ويوميات اهل مدينته. ومن خلال هذه الرؤى الثلاث، لإسلامي وعثماني ودمشقي، حاول تماري أن «يغوص في العمق الأثيري الآسر المتعلق بالوعي والهوية في مطلع التاريخ العربي الحديث. فكل من هؤلاء الرجال كتب تاريخاً لدمشق مختلفاً عن الآخر، بسبب هذا الإدراك الخاص للانتماء والهوية.

ونبقى في الهوية، التي هي في صلب هذا الكتاب وجوهره، حيث نتعرف على نوع جديد في كتابة السيرة الذاتية، بات معتمداً في فلسطين، للقبض على ما تبقى من ذاكرة فلسطينية تحاول إسرائيل محوها. وتروي لنا روشيل ديفيس المستشرقة الأميركية والأستاذة في جامعة جورجتاون، ان ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، شهدت إنتاجاً غزيراً في الكتابات التي تتناول حياة الفلسطينيين قبل سنة 1948. جاءت هذه الكتابات على شكل سير ذاتية، وكتب تذكارية، اعتمدت كلها على شهادات شهود عيان أدلوا بما في ذاكرتهم من قصص ومشاهدات عاشوها. وقد ظهرت هذه الكتب في فلسطين ومختلف دول الشتات، وتناولت مثلاً، قرية بعينها، وعرضت لعائلاتها وأصولها وشجرة انسابها، ووصفاً لأراضيها وعاداتها. هذا إلى جانب الزراعة والتعليم والاقتصاد والزراعة في القرية. وبالإمكان اعتبار هذه الكتب «سيراً جماعية» ليس الغرض منها فقط إعادة بناء ما أبيد من قبل إسرائيل ولو على الورق، وإنما أيضاً استخدام ما يجمع كمراجع تعليمية للأجيال المقبلة وتعريفهم بتراثهم وتاريخهم. ويقوم بإصدار الكتب التذكارية التي تتضمن روايات شخصية أو سير جماعية جهات مختلفة، رسمية وأهلية، وجامعات، وهناك أساليب عدة لتسجيل هذه الذاكرة. والمهم في هذا الأمر هو تحويل المعرفة الفردية والجماعية إلى نصوص يمكن حفظها. وتعلق روشيل ديفيس على هذا النمط من الكتابات بالقول: «تبين قراءة متمعنة للكتب التذكارية الفلسطينية كيف يفهم الفلسطينيون تاريخهم وحاضرهم ويضعونهما في قوالب من خلال ممارسات متداخلة من الحس الوطني والعرقي والديني، وغيرها من العناصر المتعلقة بالهوية التي تعتبر جزءاً من تعريف الفلسطينيين لأنفسهم كشعب».

هكذا يطرح كتاب «دراسات في التاريخ الاجتماعي لبلاد الشام» بفضل اهتمامه بالسير الذاتية، مجموعة من الأسئلة والإجابات ما كان لها أن تبصر النور، من دون الاهتمام بهذا الفن الذي يحلو لنا، عادة، أن نصفه بأنه مستغرب، وحديث جداً، وليست له جذوره العربية الضاربة في تراثنا القديم. لكن هذا الكتاب يقدم صورة أخرى للسيرة العربية المكتوبة، بل يعتبر أن السير الحديثة التي يلقي عليها الضوء ما هي إلا امتدادات طبيعية لتراث غني، ربما لا نجد له مثيلاً في حضارات أخرى من حيث تنوعه وكمه. وإن كان من تأثر بالنهج الغربي لكتابة السير حصل في القرن العشرين، فقد انتج لنا سيرة ذاتية هي أشبه بعمل روائي ينقسم إلى فصول، لا عملاً تاريخياً ينقسم إلى أبواب تندرج فيها أصناف المعلومات. وبهذا حرمنا ولادة سير من نمط «الساق على الساق» للرائع أحمد فارس الشدياق، أو «الخطط التوفيقية» لعلي مبارك أو حتى «الأيام» لطه حسين. وما زال الوقت مبكراً لنقول أيهما أكثر إفادة للمؤرخين والباحثين في الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع، هل هي سيرتنا العربية التأريخية الطابع، أم تلك التي نراها في الوقت الراهن التي تميل إلى التخيل والفانتازيا؟ ولكن في الحالتين ما هو مهم اليوم، ألا يكون هذا الكتاب الثري الذي بين أيدينا، مجرد صرخة في واد، وأن تعار السير العربية، قديمها وحديثها، ما تستحق من القراءة والبحث.