مخزون سيناء من البنزين والسولار والإسمنت ينفد بفعل الطلب الغزاوي

آلاف الفلسطينيين يصلون إلى العريش سيرا على الأقدام لتجنب الأجور الباهظة

TT

كانت سيارتنا تتحرك ببطء شديد وسط طابور السيارات الطويل الزاحف جنوباً، وبدا المشهد وكأنه اختناق مروري هائل. ورغم أن المسافة بين المنطقة الوسطى في قطاع غزة والحدود مع مصر لا تتجاوز الثلاثين كيلومترا، إلا أن قطعها استغرق قرابة الساعة.

والاختناق المروري لم يقتصر على المتجهين جنوبا الى مصر، بل طال المتجهين شمالا قادمين من مصر. فمئات السيارات كانت تتجه ببطء شمالاً وهي تنوء بما تحمل من متاع. وعلى بعد مسافة 4 كيلومترات من المعبر، لم يكن بوسعنا التحرك بسبب حشود الناس التي أغلقت كل المسارات، فاضطررنا الى وقف سيارتنا على جانب الطريق، مثل المئات من غيرنا، وترجلنا لنشق طريقنا وسط السيل البشري، الذي شكلا سد منيعا في جميع الاتجاهات.

كان الاحساس السائد بين الجموع، احساس الفارين من سجونهم لا يريدون الالتفات الى الوراء، بل قطع اكبر مسافة ممكنة بعيدا عن غزة.

ولدى وصول المعبر، كان علينا أن نتسلق سوراً اسمنتياً طوله متران لنواصل طريقنا نحو الطرف الشمال الشرقي من مدينة رفح المصرية وتحديداً حي الصفا، لنركب سيارات الاجرة الى العريش، لكن المفاجأة غير السارة التي كانت تنتظرنا هنا هي المسافة الكبيرة نسبياً (7 كيلومترات) التي سنضطر الى قطعها سيرا على الاقدام لنصل الى ذاك الحي، وان كانت اللهفة للوصول الى العريش والسير وسط كروم اللوز والزيتون يخففان اعباء الرحلة. ووصلنا الى حي الصفا، الذي كان قد سبقنا اليه المئات من الرجال والشبان الذين تزودوا بغالونات البنزين والسولار البلاستيكية. وكما أخبرنا أحد السائقين من بلدة الشيخ زويد، جنوب مدينة رفح المصرية، فإن مخزون المدينة والبلدة من البنزين والسولار قد نفد لأن أهالي قطاع غزة لم يتركوا شيئاً، الأمر الذي دفع جميع السائقين في المنطقتين للتوجه الى العريش للتزود بالوقود. في هذه الأثناء كان العديد من تجار الأغنام من غزة الذين تواجدوا في المكان ينظرون بتوتر وقلق صوب الشوارع الفرعية المؤدية للشارع الرئيسي في الحي بحثاً عن الأغنام والماعز لشرائها. ولم يخيب بدو المنطقة ظنونهم فتوافدوا مع ماشيتهم من اغنام وماعز، لبيعها بالأسعار التي يريدونها لتزايد الطلب وانخفاض العرض والعملة التي يختارونها. وجن جنون سليم الوريدي، تاجر أغنام من المنطقة الوسطى من القطاع، عندما اخبره أحد أصحاب الماشية أنه غير مستعد لتقاضي اسعار اغنامه بالدينار الاردني، مشترطاً عليه أن يحول ما لديه من مال الى دولارات أو جنيهات مصرية. وهذا الموقف ساعد تاجرا آخر على الفوز بهذه الاغنام وعددها 50.

يذكر هنا ان التنافس بين تجار الماشية له ما يبرره، فالاسعار جراء الحصار أصبحت جنونية.

ولم تكن السيارات في انتظارنا لنقلنا الى العريش، كما كنا نتوقع او بالأحرى نأمل، فالركاب الذين سبقونا كثر رغم ان السيارات كانت تحمل فوق الطاقة المسموح بها، ورغم ان اصحاب سيارات شحن الخضار، انتهزوا هذه الفرصة واستخدموا شاحناتهم الصغيرة لنقل الركاب بدلا من الخضار. وقد اثار الازدحام غير المعهود في هذه المنطقة استهجان احد الأهالي فانفجر صارخاً صوب أحد الشباب الذي كاد يقع من سيارة الشحن التي كانت تقله بسبب شدة الإزدحام على ظهرها «غزة التي تركتها أفضل مائة مرة من العريش التي كدت أن تموت من أجلها».

اوشكت الشمس على الغروب ونحن لم نعثر على سيارة تقلنا الى العريش. وتذكر احد الاشخاص الذين كانوا يرافقونني، أن له قريبا في الشيخ زويد، فاتصل به عله يرأف بحالنا. ولم يخيب القريب ظننا ولم تمض نصف ساعة، حتى قدم بسيارته ونقلنا للشيخ زويد.

وعلى طول المسافة التي تفصل رفح عن الشيخ زويد، كان الآلاف من الفلسطينيين رجالاً ونساء يمشون سيراً على الأقدام بعد أن يأسوا من امكانية العثور على سيارة، أو لأنهم ببساطة لا يملكون المال الكافي، اذ أن سائقي سيارات الاجرة استغلوا الوضع بشكل كبير، فكانوا يطلبون اجرة من الراكب الواحد لنقله من رفح الى العريش 200 جنيه، مع أن الاجرة في الظروف الطبيعية لا تزيد عن 10 جنيهات. وما ينطبق على السائقين ينطبق على جميع أصحاب المصالح في العريش، الذين استغلوا حاجة الناس فضاعفوا أسعار البضائع بشكل كبير، ورغم ذلك كان الغزيون يشترونها، لعدم توفرها في غزة.

وصلنا الشيخ زويد وقد افترسنا الجوع، بعد أن قطعنا مسافة الكيلومترات السبعة سيرا على الأقدام، كما ان معظمنا لم يتناول طعام الغداء أصلاً، فرحنا نبحث عن مطاعم الفول والفلافل، وكانت الإجابة في كل مرة «آسفين خلص». وحتى البسكويت أوشك على النفاد لولا أننا عثرنا على محل في زقاق، فاشترينا علبة بسكويت والتهمنا ما بها، قبل أن نتوجه لأداء صلاة المغرب في المساجد.

وأكثر ما لفت الانتباه في العريش هو عمليات شراء الاسمنت، حيث اشترى العديد من تجار غزة كميات كبيرة من الإسمنت علما بأن كيس اسمنت واحدا لم يدخل غزة منذ سبعة أشهر، ونفد ما في العريش من اسمنت جراء هذه الهجمة.

وبشق الأنفس عثرنا على سيارة تقلنا للعريش، بعد أن اخبرنا السائق أنه سيمر بنا في شوارع التفافية لتجاوز حواجز الأمن المصري التي غدت تمنع حركة الفلسطينيين جنوباً. وصلنا العريش لنجد أن غزة قد انتقلت الى هناك، فعشرات الآلاف يجوبون شوارعها بل يغلقونها رغم البرد القارس حتى ساعات متأخرة من الليل، رغم ان المدينة كما قال أهلها ـ تخلد للنوم مبكراً. وقد كانت العريش ملقى للاصدقاء الذين لم يروا بعضهم بعضا منذ زمن رغم انهم يعيشون في غزة.

الملاحظة التي رددها تقريباً كل الفلسطينيين الذين تحدثت اليهم في هذه الجولة، هي أنهم يرون في العريش اصحابا واصدقاء في غزة لم يلتقوهم منذ زمن بعيد. قصارى القول ان اندفاع الفلسطينيين على هذا النحو ليس مبعثه الوحيد التزود بالحاجيات، بل بشكل أساسي محاولة الخروج، ولو بثمن كل هذا العناء، من الزنزانة الكبيرة التي يطلق عليها قطاع غزة.