النجف تعيش فوق شبكة أنفاق وسراديب تقود إلى مسارات غير متوقعة

تراث معماري قديم أنقذ المدينة من الغزاة واللصوص وتقلبات الجو

الشيخ أحمد كاشف الغطاء يفتح بابا يؤدي الى نفق قديم تحت منزله في النجف (أ.ف.ب)
TT

من ضمن الاسماء الكثيرة التي تعرف بها مدينة النجف، وهي اكثر المدن قدسية لدى شيعة العالم بسبب ضريح الامام علي بن ابي طالب، هي «أم السراديب» أي المدينة التي تشتهر بالاقبية والسراديب. حيث توجد تحت المدينة القديمة شبكة من السراديب التي تربط بين ارجاء النجف وبيوتاتها القديمة. وشبكة الانفاق والسراديب هذه تم تشييدها في اوقات متفاوتة بهدف حماية السكان لكنها تحولت مع الوقت الى ملاذات تجنبهم قر الشتاء وحر الصيف.

وباتت هذه السراديب والانفاق من السمات الاساسية للتركيبة العمرانية للمدينة القديمة بحيث تعتقد غالبية المؤرخين بان بداياتها تزامنت مع نشأة المدينة، اي بعد مقتل الامام علي (العام 661 ميلادي) ودفنه في النجف.

وتنقسم السراديب الى نوعين، وفقا لعمقها، فالنوع الاول اعتيادي لا يحفر في العمق. أما النوع الثاني، وهو الاهم، فيطلق عليه النجفيون تسمية سراديب «السن» وهي طبقة صخرية صلبة تنكسر بصعوبة. وللسراديب فوائد عدة، منها الهروب من الحر الى اجواء باردة في الصيف، خصوصا ان النجف (160 كلم جنوب بغداد) ذات مناخ صحراوي. وكذلك الهروب من البرد في فصل الشتاء لأن السرداب يكون حارا شتاء وباردا صيفا.

كما تستخدم السراديب كأماكن لحفظ المؤن والاغراض الثمينة، في حين تستخدم سراديب «السن» بمثابة ثلاجة في البيت لحفظ الاطعمة والفواكه والخضار لشدة برودتها. وشيدت السراديب والانفاق بغرض الدفاع عن النفس والاحتماء بها، وأبرزها سرداب شيده المرجع الديني الشيخ جعفر كاشف الغطاء (1156- 1228 هجرية) الملقب بـ«الشيخ جعفر الكبير» واليه يرجع نسب اسرة كاشف الغطاء النجفية.

وأمر الشيخ جعفر بحفر هذا السرداب من اجل حماية النجف وممتلكات الروضة العلوية (مرقد الامام علي) من النهب والتدمير على يد غزوات قادمة من الجزيرة العربية استهدفت المراقد الشيعية في القرون المنصرمة.

ويقول الشيخ احمد مدير مؤسسة كاشف الغطاء وأحد أحفاد الشيخ جعفر لوكالة الصحافة الفرنسية «لما علم الاخير باقتراب الغزاة اتخذ قرارين لحماية المدينة، اولهما بناء السور الذي بقي جزء منه حتى الان، وحفر سرداب عميق بشكل هندسي مميز لا يستطيع من يدخله الخروج منه الا اذا عرف ممراته الستة الموزعة التي تنتهي عند مرقد الامام علي». ويضيف ان «للممرات أبوابا اخرى تنتهي خارج سور النجف من اجل تسهيل عملية الفرار في حال احتلال المدينة».

ويؤكد ان الشيخ جعفر «قام بعد الانتهاء من الحفر بانزال خزينة الروضة العلوية مع عدد كبير من المخطوطات والكتب البالغة الاهمية والنفائس الاخرى من اجل حمايتها من السلب والنهب في حال استبيحت المدينة من قبل الغزاة». ويتابع ان «بداية السرداب مكونة من اربعين درجة تنتهي بسرداب آخر يتضمن بئرا غير معروف عمقها، لاننا لم ننزلها. كما بنيت غرف سرية في جدران السرداب لم تستكشف حتى الآن». ويختم قائلا «لقد استخدمناه لحماية انفسنا من الجيش الذي استباح المدينة عقب الانتفاضة الشعبانية العام 1991»، في اشارة الى التمرد الشيعي ضد نظام الرئيس السابق صدام حسين.

من جهته، يقول رئيس جامعة الكوفة (150 كلم جنوب بغداد) السابق واستاذ مادة التاريخ حسن الحكيم: «نزلت مع بعثة استكشافية ارسلتها جامعة بغداد من اجل الاطلاع على هذا السرداب وفوجئنا باننا لا نعرف من اين نخرج لكثرة ممراته وانفاقه». ويضيف «سالنا الشيخ عباس كاشف الغطاء عما اذا كنا نستطيع الخروج فاجابنا بالنفي فقام باخراجنا من مكان آخر غير الذي دخلناه، الأمر الذي أدهشنا وجعلنا نشعر بالحيرة والتعجب».

ويتابع الحكيم ان «السراديب كانت ملاذات لتجمع المسلحين إبان ثورة العشرين ضد الانتداب البريطاني العام 1918، كما حدث في سرداب منزل عبد المحسن شلاش». ويؤكد الاستاذ الجامعي «ضرورة ان تحافظ النجف على هذه الانفاق والسراديب لأنها تراث لا يجوز التفريط فيه، خصوصا انه كان شاهدا على ما جرى ويجري في هذه المدينة. من جانبها، تقول سعدية احمد ،60 عاما، من سكان حي العمارة في المدينة القديمة: «ذكرياتي كثيرة في سرداب منزل عائلتي، فهو مكان للعب مثلما هو مكان جلوس العائلة». واضافت «جدتي وامي كانتا تهتمان بترتيب السرداب فيما نتولى انا واخواتي تنظيفه واعداده للحر الشديد والبرد القارس». واكدت سعدية ان «الاماكن القريبة من فتحات التهوية وتدعى (البادكير) هي المكان المفضل حيث يجلس رب الأسرة وكبار العائلة». والبادكير فتحات تهوية تبنى بشكل ملاصق لجدار السرداب لتمرير الهواء.

بدوره، يقول فاضل الشمرتي ،65 عاما، من حي المشراق في المدينة القديمة، إن «سرداب منزل والدي كان مكانا للراحة والامان بالنسبة للعائلة، اشعر بالحنين للجلوس هناك مع والدي واشقائي».