الاقتصاد المصري يستورد أكثر مما يصدر، والظاهرة تزيد بالتوازي مع زيادة النمو الاقتصادي هل تلك علامة مرض أم صحة؟
سؤال لم يحسم الجدل الدائر بين الاقتصاديين المصريين الإجابة عليه لكن المخاطر الكامنة وراء ارتفاع العجز التجاري تحتاج الى ما هو ابعد من إجابة على تساؤل ويتطلب الأمر على حد قول البعض إعادة نظر شاملة في السياسات المتعلقة بتحرير التجارة. فقد كشف التقرير الشهري الصادر حديثا عن البنك المركزي وصول العجز التجاري إلى مستوى قياسي وهو 5.2 مليار دولار وذلك خلال الربع الأول من العام المالي 2007 ـ 2008 وبمعدل نمو 73% عن الربع الأول من العام المالي السابق.
وأظهر التقرير انه بالرغم من زيادة الصادرات بمعدل بلغ 20% العام الماضي، إلا أن الواردات زادت بمعدلات أسرع. وتشير الدراسات الى أن تفاقم العجز اخذ في التصاعد منذ سنوات، وكانت الحكومات السابقة مضطرة طوال الوقت لأخذ ذلك في الحسبان تحت ضغوط الرأي العام.
لكن الجديد هو أن الحكومة الحالية ذات التوجه الليبرالي التحريري، بحسب العديد من المراقبين، غير قلقة من تضخم العجز ومبررها أن مصر لا تعاني حاليا من ندرة في العملة الصعبة، كما أنها تملك من الاحتياطيات النقدية ما يغطي وارداتها لمدة عامين متتاليين. في المقابل يحذر اقتصاديون اخرون من خطر سيحل خلال عامين من الآن، إذ أخذ عجز الميزان التجاري لمصر في التزايد على مدى السنوات الخمس الماضية، حيث قفز من 6.6 مليار دولار في 2002 ـ 2003 إلى 15.82 مليار دولار في نهاية العام المالي 2006/2007. ولا يتفق هذا الوضع مع العديد من الدول النامية الأخرى التي تحقق فوائض كبيرة في موازينها التجارية، مثل اندونيسيا وماليزيا وتايلاند والبرازيل وسورية أو تلك التي تكاد تغطي صادراتها وارداتها، مثل تونس. ويرى مستشار معهد التخطيط القومي الدكتور إبراهيم العيسوي أن عجز الميزان التجاري المستمر واحد من أكبر مشكلات الاقتصاد لأنه يعكس الافتقاد الى قطاع صناعي عميق وقوي، حيث يعني وجوده قدرة تصديرية متنامية، وذلك أفضل حل لتحويل الميزان التجاري من عجز إلى فائض. ويقول العيسوي إن المسؤولين يركنون إلى أن العجز في ميزان تجارة السلع صار يغطيه فائض في ميزان الخدمات، أي أن زيادة الواردات عن الصادرات غير مهمة طالما كانت صادرات مصر من الخدمات، وعلى رأسها قناة السويس والسياحة تحقق فائضا من العملات الصعبة.
ويخشى العيسوي من أن تلك المصادر تتسم بالتقلب الشديد ولا ينبغي الاعتماد عليها كما انه يرى أن اعتماد الحكومة الحالية سياسة تحرير التجارة كمدخل للتنمية نظرية ثبت خطؤها وخطرها وهناك دراسات دولية مرموقة تؤكد أن التنمية هي المدخل الى تحرير التجارة لا العكس، ولذلك فان الحل يحتاج الى سياسات جديدة.
من جهتها تتوقع ريهام الدسوقي، محللة الاقتصاد المصري بمؤسسة «بلتون» المالية أن يتحول فائض ميزان السلع والخدمات بالفعل إلى عجز بحلول العام المالي بعد المقبل. وتبرر ذلك بأن العوامل التي أدت مؤخرا إلى وجود فائض في ميزان الخدمات كانت الزيادات غير المسبوقة في إيرادات قناة السويس، بالإضافة إلى نمو عائدات السياحة.
وترى الدسوقي أن العامل الأول مهدد، نتيجة الركود العالمي المتوقع، وأيضا بسبب انخفاض وتيرة الحروب التي اقتضت في الفترة السابقة مرور أعداد كبيرة من القطع الحربية والمعدات القتالية عبر القناة. كما أن نمو السياحة إلى مصر سيهدأ في ضوء القدرة الاستيعابية لقطاع السياحة المصري التي أوشكت على بلوغ أقصاها. وتعليقا على ذلك الاستنتاج، يؤكد العيسوي أنه من الممكن تفادي مخاطر تلك التقلبات عن طريق زيادة الصادرات من ناحية، وتغيير هيكلها من ناحية أخرى، إذ أن الصادرات حتى الآن معظمها يتكون من مواد أولية وسلع غذائية. ووفقا لبيانات مركز دعم القرار لمجلس الوزراء، فإن نسبة الصادرات عالية المحتوى التكنولوجي والصناعي لم تتجاوز في مصر 11% من إجمالي الصادرات في العام 2005، مقابل حوالي 70% في تونس، وأكثر من ذلك في ماليزيا و41% في البرازيل. فمثلا، تعتمد مصر الآن على تصدير الحديد والسخانات والسجاد والسيراميك، وهي صادرات لا تحتاج إلا الى تكنولوجيا تقليدية. وتفترض الرؤية المستقبلية لمصر لعام 2025، والتي يعدها مركز دعم القرار، أن تتغير تلك الصورة بعد أقل من عقدين من الآن. وقد قال وزير التجارة والصناعة المصري، رشيد محمد رشيد خلال حديث سابق لـ«الشرق الأوسط» «أننا نسير في الاتجاه الصحيح فطالما اقترن النمو في الواردات بمعدلات نمو اقتصادي مرتفع، كان ذلك دليل صحة، حيث أن الواردات تكون في الأغلب الأعم من المواد الخام والسلع الوسيطة والمعدات، مما يدعم التصنيع، ومن ثم التصدير. وهكذا، فعلى المدى الطويل، وحسب الوزير، سيتجاوز معدل نمو الصادرات، معدل الواردات.
ولا يختلف إبراهيم العيسوي على هذا المبدأ، ولكنه يستبعد أن يحدث هذا من خلال التجربة المصرية الحالية حيث القيمة المضافة الناتجة عن القطاع الصناعي لا تزال محدودة، فالصناعة قائمة على التجميع والتركيب «ولا حل إلا سياسة تنحاز للتعميق الصناعي». من جهتها، عادت ريهام الدسوقي لتعلن تفاؤلها بالنمو الحالي: «بالنظر إلى الواردات نجد أن معظمها مواد لازمة للتصنيع، لهذا فهو يعتبر نموا صحيا». وتؤيدها في الواقع أحدث بيانات أصدرها البنك المركزي، حيث بلغت واردات السلع الوسيطة 10.5 مليار جنيه في 2006 ـ 2007، بمعدل نمو 140% عن عام 2002 ـ 2003. وهو معدل يفوق كثيرا معدل نمو السلع الاستهلاكية، والذي بلغ حوالي 100%. لكن احمد غنيم، أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة، وقف ضد التقليل من مخاطر النزعة الاستهلاكية عند المصريين. فهو يرى أن «الواردات من السلع الاستهلاكية، نسبتها كبيرة جدا بالنسبة لاقتصاد نام في حجم الاقتصاد المصري». ويدفع في هذا الاتجاه أيضا الانخفاض في قيمة الدولار عالميا، مما يخفض نسبيا من أسعار السلع المستوردة، وهو ما يشجع على زيادة الاستيراد.
قديما قال الشاعر جبران خليل جبران «الويل لأمة تأكل مما لا تزرع وتشرب مما لا تعصر». والآن على ما يبدو لا يملك الاقتصاديون إلا أن يشاركوه في الرأي، خاصة مع ارتفاع الأسعار العالمية للمواد الغذائية. ففاتورة الغذاء أصبحت تلقي بظلها الثقيل على الميزان التجاري. حيث تستورد مصر سنويا بما يزيد على 3 مليارات دولار من القمح والدقيق والاذرة ومن المتوقع أن تتضاعف هذه الفاتورة خلال العامين القادمين، إذا كان هذا هو حال الواردات، فهل تستطيع الزيادة في الصادرات أن تغطي الزيادة الرهيبة في الواردات؟ لا، هي الإجابة الأكثر ترجيحا بحسب كافة الارقان المتوفرة حول الميزان التجاري لمصر. وبالرغم من أن الصادرات قد نمت خلال السنوات الأربع الماضية معدلات غير مسبوقة، إلا أن معدلات نموها أقل من معدلات الواردات، فقد بلغ نمو الصادرات على سبيل المثال حوالي 20% خلال العام الأخير، حيث وصلت إلى 22.05 مليار دولار بنهاية العام المالي 2006 ـ 2007، وذلك مقابل 8.2 مليار دولار في 2002 ـ 2003.
وتعتقد من ناحيتها ريهام الدسوقي أن تلك الزيادات كانت ناتجة عن عوامل غير قابلة للتكرار، فمن ناحية، يرجع جزء كبير من الزيادة إلى الزيادة في قيمة صادرات البترول نتيجة لارتفاع أسعاره العالمية، لكن التوقعات تشير الى أن البترول لن يتخطى سقف المائة دولار، ومن ناحية أخرى، كانت الصادرات غير البترولية تزيد نتيجة انخفاض قيمة الجنيه مقابل اليورو، عملة الشريك التجاري الأول لمصر. ووفقا لريهام «هنا أيضا لا يتوقع أن يستمر اليورو في الارتفاع». وتضيف، لذلك من غير المتوقع أن تشهد الصادرات معدلات النمو السابقة، خاصة أن ذلك يحتاج لزيادة القدرة التنافسية للصادرات، بالإضافة إلى زيادة قدرتها على النفاذ إلى أسواق جديدة. وهما يمثلان الآن تحديا كبيرا أمام الاقتصاد المصري.
ويقلل كل من أحمد غنيم وريهام الدسوقي من أثر الاتفاقيات التجارية التي أبرمتها مصر خلال السنوات الماضية على زيادة الصادرات، على الأقل حتى الآن. وهنا يؤكد غنيم على أن الزيادة السابقة كانت بسبب الإصلاحات الداخلية التي مست الجمارك وبيئة الأعمال بشكل عام، أكثر منه بسبب الاتفاقيات التجارية. وعلى سبيل المثال، كما يقول كان لدى مصر حرية نفاذ السلع المصنعة إلى الاتحاد الأوروبي منذ اتفاقية 1977. لذلك لم تضف اتفاقية المشاركة التي دخلت حيز التنفيذ منذ بداية 2004 أثرا يذكر. ومن ناحية أخرى، فالاتفاقيات التجارية مع الدول العربية لم تتسبب في الزيادات المرجوة في حجم التجارة بين تلك الدول ومصر. حيث تلحظ ريهام أن «الدول العربية ما زالت تضيق الطريق على صادراتنا، عن طريق الضرائب الجمركية والعوائق الفنية والإدارية، إضافة الى وجود قوائم طويلة من السلع غير الخاضعة للإعفاءات الجمركية. وحتى في قطاع الصناعات الغذائية الذي شهد نموا يفوق 20% في صادراته، يشكو طارق توفيق، رئيس المجلس التصديري للسلع الغذائية من محدودية الفائدة التي تعود على القطاع من الاتفاقيات التجارية السابقة، كما يأمل في أن يؤدي إعادة التفاوض مع الجانب الأوروبي إلى المزيد من الإفادة.
وفي الوقت الحالي، تعتمد الحكومة على الدعم التصديري لدفع الزيادة في الصادرات حيث زاد هذا الدعم من 500 مليون جنيه مصري (91 مليون دولار) إلى ملياري جنيه (حوالي 364 مليون دولار).
ويرى احمد غنيم أن تلك الآلية لن تكون فعالة إلا على المدى القصير فقط، حيث يستفيد منها قطاع محدود من المنتجين. أما على المدى المتوسط، فستحتاج الحكومة إلى زيادتها «بمبالغ كبيرة، والا فان العجز التجاري سيزداد بشكل يؤثر على سعر الصرف». ويرى أحمد غنيم أن الحكومة ربما ستحتاج وقتها إلى استخدام أدوات مثل الجمارك على بعض السلع المستوردة، فتلك الأدوات أفعل من غيرها في الحد من الواردات وسيكون ذلك تحول في السياسات التجارية له مغزاه لكن المؤلم انه سيتم تحت الضغط وليس بالاختيار وشتان بين الفارق.