إنها بكل بساطة أجمل مدن إسبانيا والبحر المتوسط، لما تحويه من تحف نادرة، ليس فقط داخل متحف بيكاسو الشهير وسط المدينة القديمة، بل في شتى أنحائها من المباني والشوارع المكتظة بالفنانين إلى الساحات العامة المتناثرة المزخرفة بالتماثيل الغريبة، جميعها شيدت بطراز متميز استلهم من فن المعماري العبقري غاودي.
يعتبر سكان برشلونة غاودي الأب الروحي لمدينتهم. وعلى الرغم من انه قد توفي قبل أكثر من ثمانين عاما إلا أن أعماله ما زالت تؤثر على أسلوب العمارة في المدينة حتى يومنا هذا. ربما من أكثر ما يلفت الانتباه لدى زيارة برشلونة هو كاتدرائية «سغرادا فاميليا» التي تتوسط المدينة وترتفع فوق بناياتها كتاج وضع على رأس ملك من العصور الوسطى. قصة بناء هذه الكاتدرائية مثيرة تماما مثل شكلها الفريد، فقد بدأ سكان برشلونة بتشييدها عام 1882 أي قبل 125 عاما، بدون انقطاع، سوى لبضع سنين إبان الحرب الأهلية. نعم، كل تلك المدة لإتمام هذا الصرح التاريخي، أي ما يزيد على قرن، وما زال العمل جاريا لإتمام هذه التحفة التي ستخلد اسم مصممها غاودي ربما إلى الأبد. عشرات الفنانين من نحاتين ورسامين ومهندسين معماريين يعملون على مدار الساعة للخروج بالشكل النهائي للبناية كما أرادها غاودي، بعد أن كانت المخططات الأصلية التي رسمها قد تم حرقها خلال الحرب الأهلية. وعلى الرغم من أن موعد انتهاء العمل في الكاتدرائية هو عام 2026، أي بعد مائة عام من وفاة غاودي، إلا أنها تشكل منذ الآن أحد أهم المعالم السياحية التي يؤمها ملايين السياح لينبهروا بالأعجوبة الثامنة.
كل ما في برشلونة جميل، مثل الساحات العامة التي تعج بالناس ليل نهار، كل يستمتع بوقته بالقرب من التماثيل الجميلة وسط الضحك والغناء.
من أكثر الساحات التي طبعت في ذاكرتي هي ساحة كاتالونيا، ربما لأنها كانت أو مكان أحط فيه بعد وصولي من المطار. شاهدت ساحة تدب فيها الحياة وسط آلاف الأشخاص من مختلف الأعمار والألوان. ولا ننسى ساحة اسبانيا وشارع الرامبلا الشهير الذي يصطف فيه الفنانون لأداء جمل فنية رائعة وسط جو تقليدي بفضل البنايات القديمة التي تعود للقرون الوسطى المحيطة بالمكان لتعطيه رونقا خاصا.
الكل في الرامبلا يعرض موهبته للمارة، من رقص التانغو، والتمثيل الصامت، أو رسم المارة بأشكال كاريكاتيرية مضحكة وحتى غناء الأوبرا. البعض جاء من مدن إسبانيا في الجنوب وآخرون قدموا من أميركا الجنوبية خاصة الأرجنتين والباراغواي وحتى الجالية العربية تعزف ألحانها الشرقية.
ولكن إعجابي الحقيقي ببرشلونة كان من موقع سيبدو غريبا لكنه في نفس الوقت يعبر عن مدى تميزها وندرتها مقارنة بمعظم مدن العالم. إنه مستشفى عام، زرته ليس للعلاج بل للسياحة. نعم. بدأت القصة عندما قابلت صديقا لي في برشلونة اسمه مكسيم الذي التقاني في ساحة كتالونيا ليلة وصولي إلى المدينة قبل أن نتوجه لمنزله للمبيت. وفي الصباح التالي، وقبل أن يتوجه إلى عمله، نصحني أن أذهب إلى مستشفى سانتا باو الموجود بالقرب من منزله، قائلا إنني سأعجب بهذا المكان.
سألت نفسي كيف سأُسر بالذهاب إلى مستشفى؟ فأنا أكره هذه الأماكن لأنها تذكرني بالمرض! ووسط تردد توجهت وصديق كان بصحبتي بحثا عن هذا المستشفى! لم تمر أكثر من عشر دقائق وإذا بنا نقف أمام ما يشبه المتحف. بناية مزخرفة من كافة الجهات، يتوسط ساحتها تمثال من العصور الوسطى. إلى الداخل حديقة غناء مقاعدها الإسمنتية القديمة تحكي قصة المكان الرائع بصمت. لو لم يكتب على لوحة بالاسبانية أن المبنى مستشفى، ورأينا سيارة إسعاف عند البوابة، لما استطعنا تميز هذه البناية الرائعة بكل المقاييس على أنها مستشفى يؤمه العامة. علمت عندها أن أمامي رحلة مثيرة في هذه المدينة الغريبة.
وبالفعل كانت الإثارة تزداد عند كل زاوية وشارع، مع انبهاري بجمال هذه المدينة الذي لا يوصف.
من المستشفى انطلقنا نحو «بارك غويل» ـ حديقة شيدت بالقرب من منزل غاودي، الذي هو بحد ذاته تحفة معمارية. سواء كنت من عشاق الفن المعماري أم لم تكن، يجب أن تزور هذه الحديقة، إنها فخر الحدائق في العالم، حيث تعجز الكلمات عن وصف فن لا مثيل له. انها هي الأخرى واحدة من إبداعات غاودي. يمكنك قضاء ساعات تتجول بين معالم الحديقة التي تطل على برشلونة ومن أمامها البحر الأبيض المتوسط المتلألئ في الأفق تحت أشعة الشمس الدافئة. بعد فترة انطلقنا نحو شاطئ البحر لاستغلال دفء الشمس والجلوس فوق الرمال الناعمة بالقرب من القرية الأولمبية ومن ثم توجهنا لوجبة ساخنة في أحد المطاعم القريبة من منطقة الشاطئ نراقب المارة بهدوء.
لا حاجة لإعطاء النصائح عن الأماكن التي ينبغي زيارتها فأينما توجهت في برشلونة فالمتعة مضمونة.
هذه المدينة الساحلية، الغنية بماضيها العريق، تجعل من السياحة متعة حقيقية، وتطبع في ذاكرة من يزورها لحظات لا يمكن نسيانها. لا يقتصر الأمر على شوارع منظمة وأحياء منمقة أو مسارح أو شواطئ، إنما هي صورة متكاملة لمدينة عصرية تمكنت من الحفاظ على إرثها القديم وفي نفس الوقت الإقبال على المستقبل بكل انفتاح.