قبل أن يهدم البيت القديم الذي عاشت فيه الفنانة التشكيلية السودانية نسرين طفولتها، هرعت بمساعدة فنانة أخرى ألمانية، لتبعث الحياة فيه ولو لأيام قليلة. هكذا استخدمت الفنانتان بقايا أصحاب البيت ومهارتهما في الرسم، لتنعشا يوميات، وتحكيا ذكريات ولّت، كما ولّى بعض أصحابها. والطريف أن الجدران هي التي نطقت هذه المرة، وقالت ما يمكن أن يعجز عنه اللسان.
أن تسرد ذكريات وحكايات سكان بيت قديم، في شعر أو نثر فهذا سهل، أما أن تحكي ذكريات هذا البيت باستخدام أدوات الفنون المعاصرة فهو الجديد المبتكر. وهذا ما كان فى المعرض الذى أقيم أخيرا بمدينة أم درمان واشتركت فيه فنانتان تشكيليتان هما، نسرين أبشر من السودان، وأوناليزا ليوبولد من ألمانيا.
المكان الذي أقيم فيه المعرض ليس مركزاً للفنون التشكيلية بتقنيات العرض والإضاءة الحديثة، بل بيت قديم جداً ومهجور منذ سنوات طويلة، في حي «العمدة» العريق بأم درمان، بحيث احتاج زوار المعرض لحمل خارطة توضيحية للوصول إليه.
كان هذا البيت ملكا لجد الفنانة نسرين التي ولدت ونشأت فيه بواكير طفولتها، ثم تفرق الشمل ورحل كل من في البيت إلى بيوت أخرى، أو الحياة الأخرى. لكن نسرين فكرت أن تستعيد طفولتها التي ما زالت تعتمر بداخلها، في معرض بمشاركة صديقتها أوناليزا، تحت عنوان «بيت قديم - فن حديث - الجدران تتكلم فلنستمع». ولم تستخدم الفنانتان فى العرض إلا ما وجدتاه في البيت من أثاث قديم، قدمتاه بأسلوب معاصر لا يحدّ جموحه وغرابته خيال.
كان المدخل طريفاً، على حوائط الفناء الخارجي المبنية من الطين والطوب، كما هي البيوت التقليدية السودانية رسمت نسرين أجساداً لأناس باللون الأسود أشبه بالظلال، كل منهم يبدو في حالة حركة. ظلان يتبادلان الحديث، ومجموعة ظلال أخرى، تقف بعيداً تتداول أمراً، وظلان لفتاتين تدخلان البيت للتو. أما على الحائط المقابل، فنجد رسمين لاثنين يجلسان على مقعدين تقليديين يشربان القهوة. فقد كانت الحياة تعج في هذا البيت القديم قبل أن تدوسها عجلات الزمن.
بجانب ظلال الفناء التي رسمت بطريقة رائعة، هناك غرفة، وضعت الفنانتان أمام بابها مجموعة من الأحذية، حيث كانت عادة الزوار خلع أحذيتهم قبل دخول الغرفة. وهي عادة تعكس طبيعة الحياة في الأحياء القديمة، حيث الزوار يدخلون ويخرجون ليل نهار. ورغم أن باب الغرفة مغلق ولا ينطلق منه إلا صوت السكون، إلا أن مشهد الأحذية المتجمعة يجعلك تجزم أن الناس بداخلها الآن يتسامرون...
في غرفة أخرى كانت بها مجسدات لأجسام صغيرة من البلاستيك صممتها نسرين، مربوطة بخيوط صغيرة تنتهي بفتحة في أعلى السقف يتسلل من خلالها ضوء الشمس. اسم المشهد «نحو تحقيق الحلم». لقد رأت نسرين في الماضي سكان هذا البيت يتعلقون بحبال أحلامهم، منهم من حقق جزءاً منها ومنهم من تشبث بالحائط بعيداً عن الخيوط، ليصل الى السقف الحلم بعد أن يئس من سلك الطرق التقليدية، ومنهم من يئس وارتمى على الأرض، ومنهم من يمضي ناحية الخيوط يريد أن يمسك بواحد منها. هو تجسيد طريف للحياة والأحلام، ما تحقق منها، وما لم يزل حلما... في غرفة ثالثة وضعت على شباكها شاشة تلفزيون قديم مغطى سطحها بالأتربة، كتبت عليها أوناليزا «نشرة الطقس بالخرطوم اليوم». وهي فكرة طريفة لأن الشاشة، جسدت مناخ الخرطوم الذي تغلب عليه العواصف الترابية. وعلى الباب عبارة ممنوع الدخول، لظل جميل يمنعك بطريقة لائقة. وعلى أحد الحوائط الخارجية علقت ثلاثة إطارات صغيرة لموتوسيكل قامت الفنانة الألمانية بوضع صورة أشعة أكس قديمة وجدتها ملقاة في البيت توضح صدراً مصاباً، فرسمت عليها وجهاً وألصقت بها سيجارة ووضعتها داخل إطار الموتوسيكل الصغير.
على حائط الحمام الخارجي عبارة ساخرة، وهي:«غوغل إيرث - ممنوع التصوير أو الاقتراب». يوحي التعبير بالتهكم من مثل هذه العبارات القديمة قدم البيت، التي لن يجمعها بعد الآن إلا المتحف، بعد انطلاق برنامج مثل «غوغل» يصور كل ما يدب على الأرض، بعد أن اندمجت البشرية، بحيث تأتي ألمانية لتشارك سودانية في سرد ذكرياتها في قلب مدينة أم درمان!
غرفة أخرى بعيدة، كان يسكنها في الزمن الماضي رجل أتى من مدينة الدمازين، حيث تنتشر آلة «الوازا» الموسيقية، فما كان من الفنانة الألمانية أوناليزا إلا أن حفرت على أحد حوائطها شكل آلة «الوازا» الموسيقية، تطلع منها أنغامها في شكل دوائر متداخلة تمتد حتى الحائط المقابل، حيث حفرت عليه بلغات أربع (ألماني، عربي، فرنسي وانجليزي) كلمة «اسمع»، بينما التسجيل يدور بصوت تلك الآلة، الذي يشبه صوتا حزينا آتيا من بئر عميق.
حقا كان تجسيد الفن المعاصر للذكريات في ذلك البيت القديم جميلاً ومعبراً، واستطاع الزوار الذين وفدوا لمشاهدة المعرض معايشتها والإحساس بها كما لو انهم قرأوها في رواية أو قصيدة. لقد نفخ الفن الروح في ذلك البيت المهجور لمدة يومين، قبل أن تطرقه معاول الإزالة، بعد أسبوع فقط من انتهاء العرض!