معرض يعيد مصر إلى عصر ابن خلدون

يضم تحفا ومقتنيات ومخطوطات نادرة بخط يده

مخطوط مقدمة ابن خلدون بخط يده
TT

مجموعة من المخطوطات والمقتنيات والتحف النادرة يحلق بها ابن خلدون العلامة العربي رائد علم الاجتماع والعمران البشري في معرض احتفائي حمل عنوان «ابن خلدون بين الأندلس ومصر» يعرض حاليا بقصر الأمير طاز التاريخي بالقاهرة.

ما إن تدخل المعرض حتى ينتابك إحساس بأنك انتقلت إلى عصر ابن خلدون، وتتذكر حياته المثيرة وترحاله ما بين الأندلس، والمغرب والجزائر وتونس، ومصر التي مات ودفن بها قبل أكثر من ستمائة عام. يعزز هذا الإحساس الوسائط الإلكترونية الحديثة، والإضاءة الخافتة المنسابة بنسب وزوايا معينة على أجواء المعرض، تظهر جماله وعبقه التاريخي، فضلا عن الموسيقى الشرقية القديمة التي يعلو فيها صوت آلة العود تارة، والموسيقى الإسبانية بتنويعات الجيتار تارة أخرى. ثم شاشة كبيرة يتنوع فيها العرض ما بين آثار مملوكية وأخرى إسبانية، وهو ما يعطي انطباعا لافتا بالصلات والوشائج القوية التي كانت تربط مصر وإسبانيا ثقافيا وفكريا، وعلى المستوى السياسي والتجاري في الفترة ما بين القرنين الثامن والرابع عشر. بعد ذلك في القاعة الكبيرة للمعرض، يواجهك أيضا أسلوب الإضاءة الخافت الناعم نفسه، وتخطف بصرك قطعة سجادة صغيرة، تضيء على الأرض بنقوش مملوكية بديعة، ثم تكتشف أن هذه السجادة تضيء بواسطة الليزر، وعلى شاشة العرض السينمائية يطالعك فيلم عن بداية القرن 14، وكيف كانت أوروبا وبعض الخطوط العريضة لتاريخ دول البحر المتوسط.

ومن داخل فترينة زجاجية كانت بعض كتب ابن خلدون الأصلية والمكتوبة بخط يده تستقبل الزائر للمعرض، وهي من مقتنيات دار الكتب المصرية، منها «كتاب العبر» و«ثلاثة كتب أخرى» من المقدمة الشهيرة التي قال عنها المؤرخ الكبير تويني: «إنها دون شك أعظم عمل من نوعه أبدعه عقل بشري في أي مكان وفي أي زمان» والتي اتخذها عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين موضوعا لنيل درجة الدكتوراة. شعرت بالحماسة والوجل والخوف، فها أنا أمام النسخة الأصلية المكتوبة بخط يد هذا العبقري الذي أسس في مقدمته لعلم الاجتماع الحديث، لكن لاحظت أن هذه الكتب ينقصها ترقيم الصفحات كما في الكتب الحديثة.

فبعد ربع قرن من المعارك السياسية والدسائس في بلاط الملوك والأمراء أراد ابن خلدون الهدوء والسلام وطلب العلم والكتابة، فنزل هو وأسرته في مدينة مدناس التونسية في قصر أبي بكر بن عريف في قلعة ابن سلامة من بلاد توجين، وفي ذلك المكان البعيد ولمدة أربع سنوات تمتع خلالها بالهدوء والاستقرار بعيداً عن المكائد والدسائس السياسية، وجد ابن خلدون الفرصة مواتية للتأمل والبحث والدراسة، وفي منتصف سنة 779 هـ انتهى من كتابة المقدمة واستغرق في كتابتها خمسة أشهر فقط، وكان في الخامسة والأربعين. وفي المعرض تخلبك المقدمة المرسومة بماء الذهب وبنقوش إسلامية جميلة في صفحاتها الأولى. لقد سبق ابن خلدون عصره حتى في مجال التربية وعلم النفس، فها هو يقول: «من الواجب على المعلم أن يأخذ الأطفال بالقرب والملاينة لا بالشدة والغلظة، ذلك أن الإرهاف الحد بالتعليم مضر بالمتعلم لاسيما في أصاغر الولد، لأنه من سوء الملكة، ومن كان مرباه بالعنف والقهر من المتعلمين أو الخدم سطا به القهر وضيق على النفس في انبساطها ودعاه الى الكسل وحمله على الكذب والخبث، وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفاً من انبساط الأيدي بالقهر عليه. وعلماه المكر والخديعة وصارت له هذه عادة وخلقاً وفسدت معاني الإنسانية التي له».

وكما يركز المعرض على الفترة التاريخية لابن خلدون وعلاقة الشرق بالغرب، فهو يتناول أيضاً الأعلام المعاصرين له وأيضاً الآثار المتاحة من العصر الذي عاش فيه. فهل وقعت عينا ابن خلدون إذن على بعض هذه الآثار الموجودة هنا؟ هل رأى هذا القنديل العالي أثناء إقامته في المغرب. وهذا المصباح الزجاجي المملوك لمتحف الفن الإسلامي المصري من عصر السلطان حسن، هل جلس في غمار ضوئه ذات ليلة وهو يتسامر مع أحد المصريين. ومفتاح الكعبة المصنوع من البرونز سنة 765 هـ ربما كان شاهداً على تحاور شارك فيه ابن خلدون يوماً في بلاط أحد الملوك أو السلاطين أثناء وجوده بالقاهرة التي بهرته بجمالها كما بهرت من قبله ابن بطوطة.

أما صندوق المصحف الخشبي المصفح بالنحاس والمكفت بالذهب والفضة فقد تمت ولادته في العام نفسه الذي ولد فيه ابن خلدون 732 هـ ، وهو ملك المتحف الإسلامي المصري أيضاً.

هناك أيضا مقتنيات أخرى لمكتبة الإسكندرية، ومؤسسة التراث الأندلسي، ومكتبة جامعة سلامنكا الاسبانية، والمتحف الوطني بفرنسا، ومكتبة الأسكوريال بمدريد.

أما المخطوطات بالمعرض فهي كثيرة منها: مخطوطة «التاريخ العظيم» للمقريزي تلميذ ابن خلدون النجيب الذي تتلمذ على يديه وتأثر به كثيراً والمخطوطة من مقتنيات مكتبة الإسكندرية. إضافة إلى بعض المخطوطات التي تقتنيها دار الكتب والوثائق المصرية مثل: نفح الطيب للمقري ـ نثير فرائد الجمان لأبي الأحمر ـ نيل الابتهاج لأحمد بابا التنكيتي ـ الإحاطة في أخبار غرناطة لابن الخطيب (لسان الدين الخطيب) وزير السلطان الأندلسي محمد بن الأحمر ثامن ملوك بني الأحمر، وقد احتفيا بابن خلدون عندما قرر الرحيل الى الاندلس عام 764 هـ، وكان ابن الخطيب عبقريا متعدد المواهب وصانع أحداث عصره لصلته بالملوك والأمراء، ولما يتمتع به من شخصية قوية وكان يتشابه الى حد كبير مع ابن خلدون وكان بينهما إعجاب وتقدير، حتى بعد أن اختلفا وانشقا. وقد قال ابن خلدون عن ابن الخطيب: «بلغ في الشعر والترسل حيث لا يجارى فيهما وملأ الدولة بمدايحه وانتشرت في الآفاق قدماً»، وقال هو عن ابن خلدون: «جم الفضائل، باهر الخصال، رفيع القدر، ظاهر الخيال، أصيل المجد، وقور المجلس، عالي الهمة، عزوف عن الضيم، صعب المقادة، قوي الجأش، طامح لقنن الرياسة، خاطب للحظ، متقدم في عدة فنون عقلية ونقلية، متعدد المزايا، سديد البحث، كثير الحفظ، صحيح التصور».

وهاهو أيضاً مخطوط «كشف الجلباب في علم الحساب» لصاحبه القلصادي 1742 بالمغرب، وهو من مقتنيات مؤسسة التراث الأندلسي، مخطوط حوليات جان فروا سار (1337 – 1410) باريس.

لن نستطيع هنا تقديم كل المقتنيات والآثار والمخطوطات الموجودة بالمعرض، فكلها جميل وقيم وثمين، ونذكر منها أخيراً هذا الطبق النجمي وهو من الخشب المزجج ومحفور به أشكال إسلامية محشوة بالعاج. وسلطانية خزفية من القرن الرابع عشر، وجزء من سجادة طراز مملوكي، وآلة عود أندلسي من القرن العاشر من مقتنيات متحف نابارا بالأندلس. وهناك أكثر من مصحف شريف من عصر المماليك.

وعندما نتوقف أمام الشاشة السينمائية الموجودة بالقاعة يلفت النظر أسلوب العرض المميز، فالمخطوطات القديمة مثل مخطوطات سمرقند وإحداها تصف معركة لتيمورلنك أو «تيمور الأعرج» كما سماه الفرس، يتم تحريك الأشخاص بها بطريقة خيال الظل القديمة. والفيلم يبدأ من بداية القرن 14؛ قرن التغير والدول العصرية، ويوضح كيف كان الطاعون كاسحاً في تلك الفترة، حاصداً أرواح الملايين شرقاً وغرباً من الصين الى البرتغال، ومن مصر الى الدول الاسكندنافية حتى أن ابن خلدون سماه «الطاعون الجارف» وفقد بسببه والديه وهاجر بسببه أيضاً من تونس الى المغرب عام 750 هجرية وانقطع عن متابعة دراسته. ويعرض الفيلم بعد ذلك كيف كانت الحرب الأهلية وأخبار ممالك شبه الجزيرة الأيبيرية، والملك ارجون، ومملكة قشطالة، وكيف عمل ابن خلدون سفيراً بعثته غرناطة الى أشبيلية، والكثير من الأحداث مما لا يتسع المجال لذكرها. ولا يجب نسيان المكيتات أو المجسمات الورقية الموجودة بالمعرض والتي ترمز لبعض الشخصيات المهمة المعاصرة لابن خلدون، نذكر منها أخاه يحيي بن خلدون والذي توفي في تلمسان 780 هـ في حاشية بن عبد الواد، ومؤرخهم الأخ الأصغر لابن خلدون والذي ولد مثله في تونس عام 734 هـ، وكانت سيرة يحيي وسيرة أخيه متشابهتين من حيث اهتمامهما بالعلم والسياسة، وإن كان يحيى لم يبرز مثل أخيه، ولا نجد عنه إلا إشارات في كتاب التعريف وكتاب العبر، حيث يحكي ابن خلدون قصة موت أخيه المأساوية، وكان يحيى بن خلدون كاتباً لأمير تلمسان ابن حمي الثاني فقد ألف كتاب تاريخ رائعا عن عهد هذا الأمير المشرق، وعن سلالة بن عبد الواد، عنوانه «بقية الرواد في ذكر الملوك من بني عبد الواد». أيضا هناك ماكيت لبو كاتشيو وهو مفكر إيطالي ذو نزعة إنسانية، ولد عام 1313م، في فلورنسا، وتوفي 1375م. وكان ابن تاجر ثري، ومن أكثر أعماله شهرة كتابه «آل ديكاميرون»، ويضم 100 قصة، يحكيها رجال ونساء فروا من الطاعون، واجتمعوا في ضيعة لمدة عشرة أيام، محاولين أن ينسوا الموت، ويصنف هذا العمل ضمن أعمال عصر النهضة لكونه يتطرق إلى أمور إنسانية.

افتتح «معرض ابن خلدون» الرئيس المصري حسني مبارك والملك خوان كارلوس ملك اسبانيا وقرينته الملكة صوفيا في إطار زيارة رسمية قاما بها لمصر مستهل فبراير(شباط) الحالي. وحضر حفل الافتتاح لفيف من الوزراء والمسؤولين في البلدين، وأشرفت على تنظيمه وزارة الخارجية والتعاون الإسبانية، ووزارة الثقافة المصرية. وقامت بتنفيذه مؤسسة التراث الأندلسي (مجلس مدينة الأندلس) بالتعاون مع المجلس الأعلى للآثار بمصر، ومؤسسة أغاخان للثقافة. كما ساهم في تنظيمه دار الكتب والوثائق المصرية، ومتحف الفن الإسلامي، ومكتبة الإسكندرية. ومن الجانب الإسباني المؤسسة الحكومية للمعارض الدولية، والبيت العربي.. وسوف يستمر المعرض حتى آخر مارس المقبل.