الوعي النسوي المصري من ثقافة الحريم إلى الهم الوطني

كتاب جديد يتتبع مسيرة رائداته وتحولاته ونشأته في أوائل القرن التاسع عشر

TT

يناقش هذا الكتاب عبر خمسمائة صفحة تاريخ الحركة النسوية المصرية، ويكشف عن المسكون والمهمش، بل الملتبس والشائك فيها، منذ بزوغ الوعي بهذه الحركة في بدايات القرن التاسع عشر. وتنحو المؤلفة المصرية مارجو بدران التي آثرت أن تكتب كتابها بالانجليزية طرائق عدة للوقوف بشكل شامل على تطور هذه الحركة، فهي تتبع قصص النساء رائدات هذه الحركة، وترصد حركتهن ونضالهن في سياق العائلة والأسرة والواقع المعيش آنذاك بكل ابعاده السياسية والاجتماعية والثقافية. وتميز في سياق هذه الابعاد بين ثلاث مراحل مرت بها هذه الحركة والتي لم تخرج عن نطاق الطبقتين العليا والوسطى في المجتمع، وترى ان المرحلة الأولى التي كانت في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر اتسمت بوعي نسائي ناشئ من خلال قصص وأشعار ومقالات نشرتها أصوات نسائية يعبرن فيها عن مفردات جنينية لهذا الوعي. أما المرحلة الثانية ففيها اكتسب هذا الوعي نوعا من صلابة الارادة والقوة ونحا نحو التعبير عن نفسه في صيغ وأشكال فردية وجماعية انخرطت في خضم الحياة العامة للمجتمع، لكن هذا التعبير ظل غير ملحوظ بالقدر الكافي الى أن بدأت المرحلة الثالثة في أوائل العشرينات عندما انشغلت النساء في نشاط نسوي منظم، عالي الوضوح، وانشئت أول مؤسسة نسوية تحت اسم الاتحاد النسائي المصري، وفي هذه المؤسسة استخدمن ارادتهن لتقرير شكل حيواتهن للمشاركة في تشكيل ثقافتهن وتشكيل مجتمعهن. ينقسم الكتاب الى ثلاثة أجزاء، تتضمن عددا من الفصول، خصصت المؤلفة الفصول الأربعة الأولى لرصد الارهاصات الأولى للوعي النسوي طيلة القرن التاسع، فتحدثت في الفصل الأول عن امرأتين شكلتا تاريخ الحركة النسوية في مصر أواخر القرن التاسع عشر وهما هدى شعراوي التي كانت تنتمي الى الطبقة الاجتماعية العليا، والتي قادت حركة نسوية منظمة، ونبوية موسى ذات الأصول الممتدة في الطبقة المتوسطة المتواضعة. وقد كشفت مذكراتهما عن تأثير الطبقة الاجتماعية في تكوين واعادة تكوين حياتهما، الأمر الذي أسهم في توجيه الاتحاد النسوي العام خلال تلك الفترة للوجهة الصحيحة كما تراها الرائدتان. وفي الفصل الثاني استعرضت ما تحقق للمرأة في الحياة العامة، حيث كانت الفترة من أوائل القرن العشرين من أحرج فترات الحركة النسائية وهي فترة نشوئها ثم تكونت بعدها الحركة النسوية المنظمة ذات الفاعلية والمطالبة بأدوار جديدة يؤديها النساء في المجتمع بدرجة متزايدة، وتقول الكاتبة انه وبرغم هذا الظهور الا انه لم يجعلهن يخرجن عن احترامهن عما تمليه عليهن ثقافة الحريم وتقاليد المجتمع المتدين المسلم خاصة في المحافظة على حجاب الوجه، لكن هذا الوضع سرعان ما تغير وبدأت بعض نساء الاقليات «أقباط ويهوديات وسوريات» في نزع حجاب الوجه بهدوء، بينما كن يبتدعن حيوات جديدة لأنفسهن. وهو ما ظهر في الصالونات الادبية خاصة صالون مي زيادة باستضافتها لمفكرين وأدباء من الجنسين وذلك بالقاهرة في بيت ابيها الذي كان يعمل رئيسا لتحرير جريدة «المحروسة» وبشكل أقل في صالون نازلي فاضل والسابق على صالون مي زيادة. وتلاحظ الكاتبة انه برغم دخول النساء في الحياة العامة لكنهن لم ينشأن مؤسسات جديدة تخص الأناث وحدهن ولكن دخلن عملا كان يحتكره رجال مصريون ونساء انجليزيات وهو مجال التعليم، وتوضح خبرات نبوية موسى كمدرسة وناظرة في المدارس الحكومية من 1906الى منتصف العشرينات مدى الصعوبة التي واجهتها في الوقت الذي كان فيه عدد المتعلمات بدرجة متناسبة قليلا، وكان نجاح نبوية موسى كناظرة يعد انتصارا وطنيا مهددا كلا من السلطة الاستعمارية وبعض شرائح الأبوية المحلية. وقد أصبحت الصحافة النسوية الاداة الرئيسية لانتاج قدسية الحياة المنزلية وهو ما أفصح عنه الفصل الثالث في الكتاب والمعنون «بتمحيص الجندر» الذي عبر بوضوح عن أن المرأة لم تخلق لكي تبقى داخل نطاق البيت لا تخرج منه ولم تخلق كي تنشغل بعمل خارج بيتها عندما يكون ذلك ضروريا فقط لإدارة شؤون البيت أو تربية الابناء والطهو.

* ثقافة الحريم وترصد المؤلفة ان المرأة لم تكتف بالكتابة والتعبير عن رأيها خلال الصحف النسائية انما تخطته حيث عبرن عن نسويتهن في كتب ومقالات تنشر في الصحافة العامة التي وصلت الى جمهور غفير من القارئات والقارئين أكثر مما كانت تصل اليه صحف النساء، وذلك امثال مقالات باحثة البادية ملك حفني ناصف ومقالات نبوية موسى، ولم تعوق الايديولوجية المحافظة وحدها تقلد المصريات أدوارا جديدة في مجال العمل بل أن السياسة الاستعمارية فعلت ذلك، فقد أدرجت السلطات الاستعمارية مبلغا صغيرة في ميزانية الدولة لتعليم البنات، فكان أول مطالبة نسوية للمصريات عام 1911 اثناء مؤتمر وطني عند اجتماع الرجال الوطنيين المسلمين الذي انعقد بمصر الجديدة والذي خاطبت فيه باحثة البادية المستعمرين البريطانيين والنظام الابوي المصري على النساء بوجوب اتاحة الفرصة للنساء للتعليم وشغل وظائف جديدة وأن يدخلن في مجال الاعمال المهنية، كما يجب ان يستعدن حقهن في المشاركة في العبادة الجماعية بالمساجد كما كان الامر عليه عند بزوغ أمة الاسلام. وفي الجزء الثاني للكتاب والذي بحث في سبعة فصول الحركة النسوية وتجلياتها في بيت المرأة واخوات المدينة واخوات الريف واعادة تنظيم العائلة وتعليم الأمة والنساء العاملات والمتاجرة بالنساء وحق الاقتراع والمواطنة لهن، تؤكد المؤلفة أن انشاء الاتحاد النسائي المصري الذي اعتبر احد تقاليد النضال النسوي المنظم المستقل كان حجر الأساس في التحول من نشاط نسوي مستتر الى البدء في حركة نسوية منتظمة بالغة الوضوح والتي حدثت على أثرها ثلاثة أمور هامة أولا: نزع رائدات الحركة النسوية أمثال هدى شعراوي ونبوية موسى وسيزا نبراوي الحجاب عن وجوههن كتعبير سياسي لرفضهن احتواء النساء واحتجابهن في ظلال «ثقافة الحريم».. ثانيا استخدمت النساء صفة النسائية اشارة الى النسوية بدلا من تعبير ما يخص المرأة، ثالثا انشأت النساء الكيان اللازم لحركتهن النسوية وهو الاتحاد والمطبوعات الصادرة عنه امثال مجلة «المصرية» الصادرة باللغة الفرنسية وغيرها بالانجليزية والعربية. وفي خضم هذا النشاط، وكما تقول المؤلفة، فإن الاتحاد النسائي المصري بدأ يعد برامج لصالح النساء الفقيرات وقدمت لبعض عضواته خدمات اجتماعية من خلاله أو من خلال الجمعيات الخيرية والتي تعدت المرأة لتشمل الرجال والأطفال، وقد كان بزوغ عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) والتي تحدثت جهارا عن احتياجات الفلاحات ما هو الا بزوغ وعي نسائي بعد مرورهن بخبرت قاسية والتي وصفتها عائشة التيمورية في مذكراتها من خلال حالات تعسة من الطبقة العليا امثال هدى شعراوي التي تزوجت وهي في الثالثة عشرة من عمرها وكان زوجها ضعف سنها وذلك لأجل تحقيق ثروة، كما دبر والد باحثة البادية زواجها من زعيم بدوي ثري كان بدون علم الوالد والإبنة متزوجا من اخرى، وكانت نبوية موسى ساخطة على ما تراه حولها حتى انها تجنبت الزواج كلية. وقد تعامل الاتحاد النسائي المصري مع العائلة بطريقتين، الأولى ركز فيها على اصلاح البناء القانوني للعائلة. واهتم في الثانية بالأثير على مواطنيهن من الرجال اصحاب القوة السياسية لاقرار تعديلات في قانون الأحوال الشخصية، وكانت الخطوة التالية لهن هو حق التعليم للنساء عامة في المدارس الثانوية، وقد واصلت الرائدات نضالهن في ضرورة دخول النساء الجامعة وساندهن في ذلك الوقت أحمد لطفي السيد رئيس الجامعة آنذاك ود. طه حسين وزير المعارف، الى أن تم الحاق خمسة منهن عام 1929 بالجامعة حيث التحقت د. سهير القلماوي بكلية الآداب وفاطمة سالم بقسم التاريخ اليوناني والروماني وزينب عبد العزيز وفاطمة فهمي في الفلسفة ونعيمة الأيوبي في الحقوق. وكان عمل النساء المدفوع الأجر في ثلاثينيات القرن العشرين قد اتخذ موقعا رئىسيا في حملة رائدات الحركة النسوية واللائي أكدن ان الدين الاسلامي ليس مسؤولا عن ابقاء النساء بعيدا عن مجالات العمل، وظلت هذه الحملة الى أن أجاز البرلمان عام 1933 قانونا ينظم عمل النساء في المؤسسات الصناعية والتجارية. ولم يتوقف الجهاد عند هذا الحد بل طالبن بحقهن في عضوية نقابة المحامين، وكانت أول محامية في نقابة المحامين، وهي نعيمة الايوبي التي تخرجت في الحقوق، قد طالبت بقيدها بجدول النقابة، إلا أنها رفضت بدورها هذا الطلب. وبعد مداولات استمرت كثيرا تم قيدها وعملت بمكتب المحامي محمد علي علوبة، وتبعتها في ذلك كل من مفيدة عبد الرحمن وعطية حسين الشافعي. ولم تكتف الحركة النسائية المصرية بذلك بل حاربت الكثير من أوجه الفساد في المجتمع، في مقدمتها محاربة البغاء الرسمي الذي وضعه المستعمر البريطاني بعد أن احترفت النساء الفقيرات البغاء ليقمن أود حيواتهن وحيوات أفراد عائلاتهن. وعندما حضر وفد الاتحاد النسائي المصري أول مؤتمر للتحالف النسائي الدولي عام 1923، وكان البغاء هو أهم موضوع مدرج في جدول اعمال المؤتمر، واستمر هذا الجهاد حتى عام 1949، حتى اغلقت الدولة منازل البغاء المرخص بموجب قرار عسكري. وبعد مرور عام على ثورة 1952 أصبح البغاء محرما بنص القانون نهائيا. وعلى المحيط المصري توصلت المرأة في جهادها لحق الاقتراع والمواطنة الذي أكده الدستور الجديد الصادر عام 1923 الى أن حصلت علىه عام 1956. واختتم الكتاب بدائرة موسعة عن الحركة النسوية العربية التي استلهمت المد النسائي المصري أواخر الثلاثينيات والاربعينيات وأصبح للعروبة والاسلام مكانهما البارزان في التعبير عن اعمال الحركة الموسعة. اذ جمع الاتحاد النسائي المصري شمل النساء عبر طيف عقائدي وسياسي عريض، مما كون موقفا تاريخيا اضافيا لضم صفوف القوى في الكفاح الوطني وبخاصة قضية فلسطين وغيرها من القضايا الوطنية التي تعززت في اهابها الحركة النسوية العربية على أصعدة شتى. الكتاب: رائدت الحركة النسوية المصرية والإسلام والوطن ـ المؤلفة: د. مارجو بدران ـ المترجم: د. علي بدران الناشر: المجلس الأعلي للثقافة - المشروع القومي للترجمة عام 2000