واشنطن تحتفي بالإعلام من خلال «نيوزيم».. حيث الكلمة والصورة وتاريخهما وحاضرهما

المتحف اختار الصفحة الأولى من عدد «الشرق الأوسط» الذي يقول إن «أميركا تحترق»

«نيوزيم» .. أحدث متاحف واشنطن
TT

قال تشارلس اوفريبي مدير متحف «نيوزيم» للمراسلين الذين حضروا حفل افتتاح أحدث متاحف واشنطن «هذا المتحف ليس لكم لكنه عنكم».

تجمع الصحافيون ذلك الصباح في بهو المتحف الباذخ... وهو أكبر عدد من الصحافيين يحضر لتغطية حدث مماثل. وأشاع الحضور الكثيف ارتياحاً وسط إدارة المتحف، الى حد انها قررت بعد وجبة الفطور، تقديم وجبة غداء للصحافيين الذين واصلوا تنقلهم داخل اروقة المتحف لتغطية ما تزخر به ستة طوابق من صور ووثائق وافلام نادرة، بعضها لا يمكن ان يوجد في اي مكان في العالم الا في هذا المتحف.

يقول اوفريبي لو لم يكن هناك سوى الحائط الامامي للمتحف لكان ذلك كافياً. في الحائط الامامي للمتحف الذي يوجد على مقربة من مبنى كابيتول هيل (الكونغريس)، تعرض الصفحات الاولى لحوالي 54 صحيفة من أهم اليوميات الاميركية، هي صفحات ستتغير يومياً. ثمة جناحان جذبا فضول الصحافيين، هما الجناح الذي خصص لأهم الصور التي فازت بجائزة بوليتزر والتي تعد أهم جائزة صحافية، أميركياً وعالمياً.. وتحمل الجائزة اسم ناشر الصحف جوزيف بوليتزر، الذي توفي عام 1911.

وعلى الرغم من ان ادارة المتحف نشرت جميع الصور الفائزة منذ انطلاق الجائزة قبل عقود، فإنها اختارت مجموعة من الصور اعتبرتها الاكثر تميزاً، ومن بين المجموعة المتميزة هناك سبع صور اعتبرت بمثابة «لقطات لا تضاهى» تعد قيمة فنية وإنسانية في الوقت نفسها.

الملاحظ ان العبارة التي كتبت عند مدخل هذا الجناح تقول «هذه الصور ربما تجعلك تبتسم او تضحك او.. تبكي» لكن الصور كلها كانت تشخص حالات عنف او تراجيديا قاسية، باستثناء واحدة.

الصورة الاولى وهي من الصور المتداولة كثيراً، تبين عملية اعدام احد مقاتلي ثوار فيتنام اثناء الحرب الفيتنامية من طرف ضابط من قوات ما كان يعرف وقتها باسم حكومة سايغون الموالية للأميركيين. التقط الصورة المصور ادوارد آدمز من وكالة «اسوشياتد بريس» اما التعليق الذي اختاره متحف «نيوزيم» فيقول «هذا رجل جاء من اللامكان» في إشارة للمقاتل الفيتنامي الذي كان مقيداً في الوقت الذي يطلق عليه الضابط رصاصة من مسدس على بعد سنتيمرات من صدغه.

الصورة الثانية، تبين طفلين وهما يسقطان من نافذة بناية في بوسطن بعد ان اشتعل فيها حريق، وتقول العبارة المصاحبة للصورة «انني اتأملك.. فقط عليك مواصلة التقاط الصور». التقط الصورة ستانلي فورمان لصحيفة «بوسطن تايمز».

الصورة الثالثة في منتهى البشاعة، حيث يقوم تايلندي بضرب طالبة يسارية بكرسي بينما هي تحتضر بعدما تقرر اعدامها شنقاً بحبل يتدلى من شجرة في بانكوك، والتقط الصورة مصور تايلندي يدعى نيل بلغيش تايلر وكان يعمل مع وكالة «اسوشيدت بريس»، اما التعليق فيقول «لا يوجد لها مكان للنشر».

الصورة الرابعة هي الوحيدة الباسمة، إذ تجمع بين عداءات من نيجيريا يحتفلن بفوزهن في مسابقة الركض بالتناوب، والتقط الصورة المصور كين جيفر. اما تعليقها فيقول «الفرحة لا تسعهن».

الصورة الخامسة من كوسوفو وهي لطفل تمرره أمه عبر الاسلاك الشائكة الى الجانب الآخر من الحدود، وتعليقها يقول «الابرياء والرعب» وهي صورة التقطها كارل كيغري.

ومن منطقة الشرق الاوسط هناك صورتان، وهما الأكثر بشاعة على الاطلاق. الصورة الاولى لعملية اعدام مجموعة من الايرانيين عام 1979 بعد ثورة آية الله الخميني، ولا تشرح الصورة سبب الاعدام، حيث اصطفت فرقة الاعدام وهي نصف جالسة امام شبان يجري اعدامهم وقد وضعت عصبات على أعينهم، والتقطت الصورة في وقت إطلاق النار حيث كان بعضهم يتساقطون قتلى. وذكر ان المصور الذي التقط الصورة مجهول الاسم. اما التعليق فيقول «لحظة فقدان الاحساس بالمشاعر ما بين الحياة والموت».

الصورة السابعة كتب تعليقها المصور نفسه الذي التقطها ومن خلال تعقيبه يوجه الى نفسه توبيخاً قاسياً. وهي من سنوات الحرب في جنوب السودان بين الحركة الشعبية بقيادة العقيد جون قرنق وقتها، وبين القوات الحكومية الموالية لحكومة الرئيس السوداني عمر البشير. صورة طفل من جنوب السودان في حدود الثالثة او الرابعة من العمر، يتضور جوعاً ويبدو انه لم يقو على الحركة وتكور على نفسه في منطقة غابوية وخلفه نسر لم ينتظر طويلاً حيث هاجم الطفل الهزيل ليقتات من لحم التصق مع العظم من فرط الهزال والجوع. الصورة التقطها كيفن كارتر من صحيفة «نيويورك تايمز» أما التعليق الذي كتبه فيقول «إنني جد آسف... جد آسف لأنني لم انقذ هذا الطفل في الجناح المخصص لمخاطر المهنة، نشرت صور صحافيين سقطوا خلال السنوات الاخيرة. وكان للعراق الذي يعد أخطر مكان لممارسة المهنة في العالم النصيب الاكبر من عدد المراسلين الذين قتلوا اثناء تغطيتهم الاحداث الدامية هناك. والى جانب العراقيين كان هناك صحافي عربي واحد في لوحة الضحايا، هو محمد طه محمد احمد رئيس تحرير يومية «الوفاق» السودانية، وكان طه قد اقتادته مجموعة غاضبة من منزله في الخرطوم وذبحته انتقاماً من مقالات لم ترقهم.

من الأجنحة المتميزة جناح تاريخ الصحافة الذي يركز بصفة خاصة على تاريخ المهنة في اميركا، خاصة صناعة الصحف والكيفية التي كانت تعمل بها الوكالات وكذلك الاذاعات في بداياتها.

ومن الأمور اللافتة في هذا الجناح بعض الصور والمعدات لأول محطة إذاعية أنشأها الانجليزي ماركوني عام 1897، والطريف ان هناك صوراً من اول محطة اذاعية ومعدات تعود الى عام 1920 في مدينة ديترويت، عاصمة السيارات الاميركية، في ولاية ميشيغان حيث أنشئت اول محطة لبث الاخبار، وتبين الصورة الوثائقية من بين المستمعين لتلك الاذاعة بعض العرب من اللبنانيين واليمنيين الذين جاؤوا للعمل مع شركة «فورد» للسيارات مع بدايات القرن الماضي. ربما يفسر ذلك لماذا قال أحد الكتاب إن العرب ظاهرة صوتية.

في هذا الجناح يمكن للزائر ان يسمع تسجيلات لخطابات وأخبار لها قيمة تاريخية عالية. في جناح الوكالات جرى التركيز على المعدات التي استعملتها منذ عقود وتطور هذه المعدات، وفي هذا السياق عرضت حمامة زاجل محنطة استعملتها وكالة «يونايتد بريس انترناشونال» في نقل اخبارها من احد مكاتبها الى مركزها الرئيسي، في حين عرضت صورة لباخرة على متنها أحد مراسلي الوكالة الذي حقق أول سبق صحافي عالمي، عندما سافر لأسابيع من لندن الى نيويورك حاملاً معه «تقريراً اخبارياً» يشير الى ان البلاشفة استولوا على الحكم في موسكو عام 1917، وكان ذلك ايذاناً ببداية حكم الشيوعيين في روسيا.

وفي جناح الصحف، عرض مسبار تاريخي من النوع الذي كان يستعمل في بث برقيات الصحف، مع الصفحات الاولى لأهم الصحف في العالم وبينها الصفحة الاولى لصحيفة «الشرق الاوسط» غداة هجمات 11 سبتمبر وعلى صفحتها الاولى صورة على ثمانية أعمدة حيث يبدو الدخان متصاعداً من أحد برجي التجارة الدولية في نيويورك، ويتصدر الصفحة عنوان واحد يتكون من خمس كلمات يقول «اميركا تحترق وبوش يتوعد بالانتقام». عندما سألت المسؤولة عن هذا الجناح عن السبب الذي جعلهم يختارون هذا العدد بالضبط، قالت إن الاختيار لم يكن عشوائياً بل قامت بها لجنة من صحافيين وإعلاميين مرموقين طلب منهم «منبر الحرية» وهي المؤسسة الرئيسية التي مولت تشييد المتحف، اختيار صفحة اولى مميزة من اي صحيفة تعرض في الرواق. وأوضحت نيكول والتر «ربما لان أحداث 11 سبتمبر معروفة لدى الجميع... وبرج التجارة المحترق يدل عليها، وهو أمر لا يخفى على أي زائر حتى ولو لم يكن يعرف العربية».

ولعل من أكثر الاجنحة التي تستقطب الاهتمام ذلك الذي يندرج تحت ما يمكن ان يطلق عليه «مخاطر المهمة» لكن دارة المتحف اطلقت عليه «من اجل حرية الصحافة».

في هذا الجناح توجد شاحنة بيضاء (نصف نقل) كان يستعملها فريق مجلة «تايم» الاميركية اثناء تنقله ايام الحرب في البوسنة. الشاحنة تعرضت لوابل من الرصاص جعل جوانبها تبدو مثل غربال، وخلف الشاحنة توجد صورة تم تكبيرها لتصبح في حجم جدارية، وهي لاثنين من المصورين اثناء احداث عنف في جنوب افريقيا عام 1994. المصوران هما جيمس ناشتوى وبيتر تيرنلي وعلى الرغم من الرصاص المنهمر، والذي أجبر الجميع على الانبطاح أرضاً، فإن المصور جيمس كان تحت اقدام المسلح الذي يطلق الرصاص يبحث عن لقطة، في حين كان زميله بيتر متمدداً على الارض خلفهما يبحث هو الآخر عن لقطة اخرى. لكن التعليق المصاحب للجدارية لم يحدد اسم المصور الذي التقط الصورة لزميليه.

يفتح متحف «نيوزيم» ابوابه للجمهور اليوم (الجمعة) وعلى الرغم من ان بطاقة الدخول حدد سعرها في 20 دولاراً وهو أمر استثنائي مقارنة مع المتاحف الاخرى في واشنطن حيث الدخول مجاناً، فإن إدارة المتحف تتوقع ميلوني زائر سنوياً.

يقول تشارلس اوفريبي مدير المتحف «نحن نوجد في منطقة متاحف وبالتالي وكما يقال سنرمي الصنارة حيث توجد الاسماك». وقال اوفريبي لـ«الشرق الاوسط» في معرض تفسيره لفرض رسوم دخول على زوار المتحف «المتاحف الاخرى تتلقى دعماً من دافع الضرائب ونحن لا نحظى بذلك». وابدى اوفريبي تحفظاً بشأن تأكيد ما قيل حول عدد توقعات العدد السنوي للزوار، واوضح «لا نريد ان ندخل في لعبة الارقام لكن التقديرات اعتمدت على اساس ان هناك 20 مليون شخص يزورون متاحف واشنطن سنوياً».

وعن تمويل المتحف قال اوفريبي وهو في الوقت نفسه رئيس مؤسسة «منبر الحرية» إن المؤسسة قدمت عام 2000 مبلغ مائة مليون دولار الى مجلس مدينة واشنطن لبناء المتحف الجديد، حيث وشرع بعد ذلك في الاشغال «. وكان متحف «نيوزيم» في ارلنغتون (ولاية فرجينيا المجاورة) اغلق أبوابه بعد ان استقبل أزيد من مليوني زائر. ويرى اوفريبي ان الجدار الخارجي الذي سيضم يومياً الصفحات الاولى لاهم الصحف الاميركية، يكفي وحده لاجتذاب الزائرين. وحول ما يمكن ان يحققه المتحف من أهداف قال اوفريبي «نأمل ان نعلم الناس شيئين، الصحافة وحرية التعبير...ولا أظن ان دولة يمكن ان تزعم ان لديها حريات إذا لم تكن بها حرية صحافة».