القرصنة.. من سرقة صناديق الذهب إلى سرقة الفكر

لا حاجة لغطاء العين والثياب البالية لتكون قرصانا

القرصنة الفكرية وجه حديث للقرصنة البحرية (رويترز)
TT

لطالما شغلتنا قصص وملاحم القراصنة، ولطالما سحرتنا أخبارهم ومجازفاتهم في البحر، وتركت صورة القرصان في أذهاننا صورة ذلك الرجل المغامر، اللص، الهارب من العدالة، يزين ذراعه بوشم كبير، أسنانه متآكلة، يضع على عينه الذي فقدها في إحدى معاركه، غطاء، ويلبس لباسا رثا، ويكلل رأسه بقبعة مثلثة الشكل من الجلد الاسود ويربط تحتها قطعة من القماش الاحمر، ويرتدي سروالا طويلا، ومن المعروف أيضا عن القرصان حبه للتبرج فهو أشبه بالغجر، يكحل عينيه ويلبس المجوهرات.

غير ان مفهوم القرصنة تغير مع الزمن، فقراصنة العصر الحالي يلبسون البدلات وربطات العنق ويجلسون وراء مكاتبهم، واصبحت القرصنة نوعا جديدا من السرقة والسطو وأصبح يفتك بكبرى الشركات والدول ويسرق الاعمال الخاصة ويتعدى حتى على حقوق التفكير. ففي تقرير جديد عن القرصنة في العالم يقول المكتب الدولي للنقل البحري إن أعمال القرصنة في المحيطات زادت 20 في المائة في الربع الاول من هذا العام وشهدت المياه قبالة ساحل نيجيريا أسوأ أعمال القرصنة.

وقال المكتب في تقريره الفصلي امس إنه وقع 49 هجوما على السفن على مستوى العالم في الاشهر الثلاثة الاولى من هذا العام صعودا من 41 هجوما في الفترة نفسها من العام 2007.

وتنقل السفن التجارية أكثر من 90 في المائة من تجارة العالم في السلع. وقال المكتب الذي يتخذ لندن مقرا له في التقرير «ما زال استخدام العنف والتهديد به ضد ملاحي السفن عاليا الى درجة غير مقبولة». وأضاف انه في أغلب الحوادث كان المهاجمون مسلحين.

وقال المكتب ان نيجيريا حلت على رأس قائمة حوادث القرصنة اذ كان نصيبها عشر حوادث. ووقعت حوادث اطلق فيها النار على سفن وجرح فيها ملاحون من جراء ذلك. وأضاف التقرير أن كثيرا من الهجمات وقعت قبالة ساحل لاجوس.

وذكر المكتب أن الهند وخليج عدن حلا في المركز الثاني على القائمة، اذ كان نصيب كل منهما خمس حوادث. وكانت الحوادث في الهند تستهدف السرقة من السفن. اما الهجمات في خليج عدن فقد استهدفت خطف السفينة وأخذها الى موانئ صغيرة في شرق الصومال ما دعا رئيسها عبد الله يوسف الى التدخل لاتخاذ إجراءات دولية لمكافحة القرصنة في المياه الدولية، بعد أن صادر قراصنة مساعدات، واحتجزوا مؤخرا يختا فارها وركابه قبالة السواحل الصومالية.

ومع صدور التقرير الاخير عن القرصنة يمكن القول بأن شخصية قرصان الكاريبيان التي جسدها الممثل الهوليوودي جوني ديب اقرب الى الواقع منها الى الخيال، فعمليات السطو التي تتعرض لها السفن قبالة شواطئ نيجيريا او حتى الصومال ليست إلا تكميلا لصورة القرصنة التي أصبحت تطال حياتنا اليومية بجميع أشكالها.

القرصنة تطال الفكر فتنتهك عرض الحقوق الفكرية، وأنواع القرصنة كثيرة ومتعددة الاشكال، فقد يكون شكل جوني ديب المحبب يساعد على تحسين صورة القرصان المقززة بسبب دعابته وشخصيته الهزلية ووسامته، إلا أن القرصنة تبقى صورة مطابقة للسرقة فقد تكون قرصنة للحسابات المصرفية الشخصية، وقرصنة الهويات، وقرصنة الموسيقى والبرامج وقرصنة الافلام وحتى الثقافة والفن والفكر والأفكار.

لدرجة ان هناك مدرسة في العاصمة الفرنسية باريس وبالتحديد في المنطقة رقم 11 توجد بناية امتلأت واجهاتها بالكتابات الغريبة وهي عبارة عن مدرسة جديدة من نوعها تعنى بتعليم القرصنة بمختلف أشكالها.

طلابها من المهتمين في تعلم اصول القرصنة على الكومبيوتر وهم من فئات اجتماعية مختلفة، أما بالنسبة للمدرسين فهم مجهولو الهوية لا يستعملون اسماءهم الاصلية.

ومع الانطلاقة العملاقة لشبكة الانترنت في تسعينات القرن الماضي شهد العالم تحولات كبرى في ميدان التعاملات الالكترونية غير الورقية، اذ ازدهرت التجارة الالكترونية، والنقد الرقمي، وتطورت نظم التصويت الانتخابي الالكتروني، وتوسع ميدان عرض الافلام والصور والبيانات عبر شاشات الكومبيوتر حول العالم.

ومع أولى بدايات الإبحار على الانترنت انطلقت ايضا قوافل القراصنة الالكترونيين الذين اخذوا يغزون ثغور الشبكة ومواقعها لسلب ممتلكاتها الفكرية، والابتزاز او التخريب. وأمام هذه الهجمة المتواصلة يتوجه المبرمجون الى حماية البيانات والعروض بتطوير نظم الترميز والشفرات التي يصعب فك رموزها.

وتنفذ عمليات القرصنة الحديثة على اوسع نطاق.. من تنزيل المقطوعات الموسيقية الكترونيا، الى تزييف الاقراص الرقمية أي خرق الملكية الفكرية لأصحابها، الى تزييف العلامات التجارية لأشهر دور الأزياء او الشركات العالمية للمنتجات الرفيعة الغالية الثمن. ووصل الامر الى تزييف انواع من الاجهزة الالكترونية والطبية الثمينة.. ناهيك عن تزييف الفياغرا، حبة الحب الشهيرة. ووفقا لإحصاءات منظمة التعاون والتنمية فان حجم التجارة في المنتجات التجارية المقرصنة قد وصل الى 200 مليار دولار في السنة، أي ما يقابل 2 في المائة من حجم التجارة الدولية. وتأتي اغلب هذه المنتجات من الصين.

وتشمل الملكية الفكرية عددا من الامور من ضمنها براءات الاختراع والعلامات التجارية والحقوق نفسها لمئات الآلاف من المنتجات المتداولة والأفلام والأغاني والكتب. وقد ساهمت المدخولات من حقوق الملكية الفكرية في تأمين نحو 40 في المائة من النمو الاقتصادي للولايات المتحدة عام 2007 ونحو 10 في المائة في بريطانيا. ووفقا للاحصاءات الاميركية فان الخسائر الناجمة عن القرصنة الدولية كلفت الولايات المتحدة 58 مليار دولار وأكثر من ربع مليون وظيفة عمل! وتعتبر الصين اكبر سوق للقرصنة الالكترونية، اذ يباع قرص «دي في دي» اصيل واحد فقط من كل عشرة اقراص. وتعتبر القرصنة الالكترونية موردا هائلا للعصابات الاجرامية، اذ يربح قراصنة صنع الافلام في بريطانيا 300 مليون جنيه استرليني (نحو 570 مليون دولار) وفقا لاحصاءات اتحاد مكافحة سرقة حقوق التأليف (فاكت). ويشير الكثير من الخبراء الى ان تقليل الاسعار سيقلل الى حد كبير من عمليات القرصنة.

ومع دخول العالم الى العصر الرقمي، وازدياد امكانات التشارك بالملفات الكترونيا، فان البيانات والعروض والافلام السينمائية والموسيقى اصبحت فجأة قابلة للنسخ، الامر الذي خلق تحديات امام الواقع الاقتصادي المتعارف عليه. ولا يعتقد اغلب مستخدمي الانترنت الذين يستمعون الى الاغاني او يشاركون في تنزيل العروض بأنهم قراصنة بالفعل، بل يعتبرون انفسهم مشاركين «أحرارا» في المعلومات لا اكثر ولا أقل! وتعتبر الولايات المتحدة من اكثر الدول صرامة في مكافحتها للقرصنة. ومن مفارقات القدر ان الاميركيين كانوا أكبر قراصنة الملكية الفكرية القرن التاسع عشر عندما كان الكاتبان الشهيران تشارلز ديكنز وآرثر كونان دويل يجاهدان للحصول على مكافآت لملكيتهم الفكرية لكتبهم في اميركا.

وفي احدث التطورات اعلن بيان صادر من مجلس الدولة الصيني ان الصين حققت نجاحات كبيرة في مكافحة القرصنة الالكترونية. ونقلت وكالة رويترز في نشرتها الانجليزية عن ين زينتيان المتحدث باسم مكتب الدولة لحقوق الملكية الفكرية ان 4 آلاف شخص حوكموا فيما احتجز 52 مليون قرص مزيف في عام 2007.