للشعراء العرب المعاصرين حكاياتٌ جميلة مع مدن المغرب العتيقة، تتجاورُ فيها مُتعة السفـر والسياحة بدفء الماضي وشعرية المكان. فمنهم من فتنته أزقة فاس أو ألوان مراكش، ومنهم من هام بأبواب مكناس أو أسوار الرباط.
سياحُ مدن المغرب العتيقة هم سياحٌ وزوارٌ من مختلف الجغرافيات والحساسيات والديانات والثقافات. فمنهم رجال السياسة والاقتصاد والفن والأدب، كما أن منهم من لا تستطيع لهم ضبطاً وحصراً على مستوى المهنة والهدف من الزيارة.
وهكذا، فبعد سلاطين المغرب الذين بنوها على الأرض أسواراً ومدارس وصوامع، سيعيد شعراء العرب المعاصرون بناءها في قصائدهم، التي ستمنح قراءها، الموجودين في الجهات الأربع للأرض، فرصة السفر والسياحة «الشعرية» في عوالم باذخة تجمع سحر التاريخ بشعرية القصيدة.
وإذا كانت المدن العتيقة بالمغرب ارتبطت في ماضيها بالملوك والسلاطين الذين اتخذوها عواصم لحكمهم، فإنها ستمنح شعراء العرب المعاصرين فرصة التغني في قصائدهم بجمال الماضي المغربي في مقارنة تامة مع ما يبني للحاضر من حداثة وعولمة متسارعة.
ومن بين كل المدن المغربية العتيقة، اشتركت فاس ومراكش والرباط ومكناس في أن كل واحدة منها أسست لكي تكون عاصمة ومركز حكم، حيث اقترنت فاس بمؤسس دولة الأدارسة، إدريس الثاني، ومراكش بيوسف بن تاشفين المرابطي، والرباط بيعقوب المنصور الموحدي، ومكناس بالمولى إسماعيل العلوي.
وكما اشتركت في ارتباطها بأقوى سلاطين الدولة المغربية، صارت هذه المدن، اليوم، تمزج الماضي بالحاضر، حتى أن السائح يحارُ أيّها يزور.
ومن بين الشعراء العرب، الذين تناولوا مدن المغرب العتيقة في قصائدهم وأعمالهم الأدبية، نذكر العراقي سعدي يوسف، والفلسطيني محمود درويش، والسوري أدونيس.
وزار سعدي يوسف مراكش، حيث جال وقرأ أشعاره، لكنه سيعلن تعلقه بمكناس، أما محمود درويش فهامَ بالرباط، فيما حار أدونيس بين مراكش وفاس.
وكتبَ سعدي يوسف أن أول مفاجأة حقيقية عاشها، حين هبطت به الطائرة في مطار مراكش المنارة، ذات زيارة للمدينة الحمراء للمشاركة في ملتقى شعري، كانت حكايته مع شرطي مغربي. «سألني شرطيّ: «أأنت فلان؟». أجبتُ : نعم. قال: «أأنت الشاعر نفسه؟». أجبتُ: نعم.. وهكذا، بدأ بيننا حديثٌ ظريفٌ عن الشعر وأهله، وعن معارفَ مشترَكين».
تنقّل يوسف وعاش بين مدن عديدة، عربية وغربية، مُفضلاً أن تكون المدينة «طليقة ومفتوحة وألا توجد فيها حواجز كثيرة». وذات سؤال، تناول خيار العيش بين لندن ومكناس، فضّل الشاعر العراقي المدينة المغربية، قائلاً «إنها توازي باريس بالنسبة لي، هي عاصمة السلطان إسماعيل الذي كان معاصراً لأهم ملوك فرنسا، لويس الثاني عشر. السلطان المغربي كان نداً حقيقياً للملك الفرنسي، حتى أنه طلب يد ابنته ليتزوجها. واعتبر أن بوابة المنصور في مكناس أجمل من كل بوابات باريس القديمة».
ويتذكر يوسف زيارته لمكناس، فيقول:«في الطريق من المحطة إلى الفندق، وكان المساء في أوائله، رأيت الشابّات والشبّان منطلقين في الشوارع والحدائق وهو مشهدٌ صرنا نفتقده في كثيرٍ من المدن العربية، كما لمحتُ، للمرة الأولى، أسوار المدينة العتيقة».
وحين خُيّر بين باريس ومكناس، اختار المدينة المغربية، مرة ثانية، مبرراً اختياره بأنها «مدينة طليقة الأنفاس، أهم من باريس باعتبار أنها الأقرب لحضارتي، والناس لم تستشرِ في نفوسهم (بعدُ؟) حُـمّى السياحة، كما هي الحالُ في مراكش. حتى السائحون يأتون إلى مكناس عابرين، إلى الأطلس أو الصحراء.. إلخ، يبيتون ليلةً أو اثنتين ويغادرون. الرومان كانوا هنا أيضاً. مدينةٌ رومانية كاملة تقع على مبعدة حوالي أربعين كيلومتراً عن مكناس: «فوليبليس» (وَلِيلي).. صرحٌ رومانيّ كامل وموزاييك عجيب».
وبالقدر الذي يبدو فيه سعدي يوسف مُتيماً بمكناس، نجده يُعلن موقفاً نقيضاً بصدد مراكش: «أنا لا أحب مراكش التي تحولت إلى مدينة سياحية، يملكها الأغنياء فقط، ولم يبق فيها للأهالي شيء».
ورغم أنه كتب ذات نص أن «ليل مراكش يبدأ بأغنية الطير والشجر وينتهي بأغنية الطير»، فإن سعدي يوسف لا ينسى أن يتذكر قصيدته «مجاز وسبعة أبواب»، حيث كتب: «مرّاكشُ الحمراءُ تُبنى الآنَ عالية وعاصمة فهل نحن الحجارة ؟».
من جهته، يرى الشاعر محمود درويش أن «المدن رائحة»، وأن كل مدينة لا تُعرف برائحتها «لا يعول على ذكراها». وهكذا، فإذا كان لموسكو رائحة الفودكا، ولباريس رائحة الخبز الطازج والأجبان ومشتقات الفتنة، ولدمشق رائحة الياسمين والفواكه المجففة، ولتونس رائحة مسك الليل والملح، ولبيروت رائحة الشمس والبحر والدخان والليمون، فإن للرباط رائحة الحناء والبخور والعسل.
وكتب أدونيس في قصيدة «والفضاء ينسج التآويل» أن «المدن بحارٌ ميتة» و«الشوارع أيتام وأرامل»، وهي قصيدة يدخل من خلالها الشاعر السوري إلى مدينة مراكش في «حاشية من توابع الشجر والعشب»، فيما تحييه «طلائع النخيل». مراكش، حيث الخريف جمر الربيع والربيع ماء الخريف، يكتب أدونيس، الذي سيسمع ما يشبه الكلام عن القمر الذي ينزل إلى المدينة، ليزور أصدقاءه الفقراء.
وفي المدينة الحمراء، سيترك أدونيس لقصيدته أن تطرح أسئلتها:
«وماذا يقول ماسح الأحذية لهذا القفطان المذهب؟ وماذا يوسوسُ بائعُ اللبن لتلك الناطحة من الإسمنت ؟ وما لهذه الأرصفة كأنها خيولٌ أرهقت، تنكس البيارق ؟».
مُراكش حيث تلبس القصيدة قفطانها، وحيث ساحة جامع الفنا «كوْن مشحونٌ بكهرباء الذكرى».
وفي مراكش، يقول أدونيس، «حين ترى إلى الشمس تغرب، يتجاذبها الأطلس الكبير والمتوسط، يُخيل إليك، في الحق، أنها جسد امرأة يتخطفها سريران عاشقان». أما في فاس، فـ«التاريخ ينز من الجدران، يطلع من النوافذ، يمسكنا بأيدينا ويسير أمامنا»، يتابع أدونيس قصيدته مسافراً بين مدن المغرب.
وقبل أدونيس، تغنّى المغاربة كثيراً بفاس، مُرَددين «فاس.. والكلّ في فاس».
وتأسست فاس قبل 12 قرناً، على يد إدريس الثاني، الذي جعلها عاصمة دولة الأدارسة بالمغرب. وهي تنقسم إلى «فاس البالي»، وهي المدينة القديمة، و«فاس الجديد»، وبنيت في القرن الثالث عشر الميلادي، و«المدينة الجديدة»، التي بناها الفرنسيون إبان فترة الاستعمار الفرنسي.
وشكلت فاس مركزاً دينياً وعلمياً في شمال أفريقيا وتوجد بها جامعة القرويين، واشتهرت بأنها العاصمة العلمية للمغرب.
وتوجد بالمدينة معالم أثرية تؤرخ لتاريخها وحضارتها، من أهمها الأسوار والأبواب بأقواسها ونقوشها. وفي داخل الأسوار، تتميز المدينة بوجود بنايات أصيلة ومارستانات ومساجد وزوايا ومدارس.
وفي علاقة بفاس، تقول الأغنية الشعبية.. «بين فاس ومكناس ما يْجيكْ انْعاس» (أي أنك تؤخذ بجمال الطبيعة بين المدينتين فتبقى مستيقظاً مستمتعاً). وكانت مكناس، ازدهرت في عهد السلطان العلوي المولى إسماعيل، الذي حكم المغرب ما بين 1672 و1727 ، وعُرفت بلقب العاصمة الإسماعيلية، وأخذت اسمها من قبائل مكناسة الأمازيغية.
من جهتها، اشتهرت الرباط منذ تأسيسها رباطاً وعاصمة، اختارها يعقوب المنصور الموحدي في القرن 12 الميلادي، لكي تجسد قوة الدولة المغربية، في ذلك الوقت. وهي تشتهر بأسوارها وأبوابها وتتميز بقصبة شالة وقصبة الأوداية وصومعة حسان.
وبعيداً عن فاس ومكناس والرباط، وعند التوجه إلى الجنوب من خريطة البلد تُوجد مُراكشْ، التي حافظت على قيمتها التاريخية، حتى صارت، اليوم، أكثر مُدن المغرب شهرة في العالم. وكانت مراكش أعارت اسمها للمغرب، واحة على أبواب الصحراء وجوهرة في سفح الأطلس. واشتهرت بساحة جامع الفنا وبحدائقها وأسوارها ومدارسها ومتاحفها وأضرحتها وصومعة الكتبية، كما عرفت بمجموعة ألقاب، فهي مدينة النخيل والحمراء والبهجة ومدينة السبعة رجال. وإلى أسماء السلاطين المؤسسين وقصائد الشعراء العرب المعاصرين، تشترك فاس ومكناس والرباط ومراكش في حاضر صارت تعاند فيه بعضها، لكنه عنادٌ يتطلب منها أن تأخذ الحذر من أضرار التوسع والتطور إسمنتاً ودخان سيارات.