تفكر في فعل أمر ما، ثم تقرر عدم فعله لأنك تعتقد أنه خطأ. كيف تعرف أنه خطأ؟ إذا كنت متديناً، فقد تقول لأن الله حرمه. إما إذا كنت تلتزم بالقانون فحسب، فقد تقول إنه غير قانوني.
وفي الحالتين، هناك أمر مؤكد، وهو أنك قبل أن تقوم بأي عمل، ترجع الأمر إلى ضميرك. وبغض النظر عما يقوله الدين أو القانون، فإن الحكم الأول على أفعالك هو ضميرك. فقد تمتنع عن فعل أي شيء يراه ضميرك خطأ، حتى وإن كان الدين يأمر به أو يسمح به القانون.
هل يعني ذلك أن الإنسان ليس في حاجة إلى دين أو قانون لما حبي به من ضمير؟ وطبعاً قد يقول الملحدون انه لا حاجة إلى الدين، في الوقت الذي قد يرفض فيه الفوضويون المتطرفون كل القوانين بحجة أنها تضع قيوداً غير ضرورية على الحريات الإنسانية.
وعلى الجانب الآخر، قد يناقش الليبراليون أن القوانين ضرورية، وأن الدين يجب أن ينظر إليه باعتباره «مسألة شخصية». فلكل إنسان الحرية في الاعتقاد، شريطة أن لا يفرض عقيدته على الحياة العامة. وعلى هذا الأساس تُعرّف العلمانية بأنها فصل الدين عن السياسة. فللأشخاص الحرية في التدين، ولكن المجتمع بأكمله يجب أن يظل علمانياً، وهو ما يعني أن يتقبل كل العقائد وعدم الاعتقاد على حد سواء.
ويرفض أوستن داسي، وهو أحد نجوم الجيل الجديد من الفلاسفة الأميركيين، هذا التحليل باعتباره غير ملائم، إن لم تكن له نتيجة سلبية. فالإصرار على كون الاعتقاد ينتمي إلى الحياة الشخصية للأفراد فحسب يحول دون إجراء مناقشة جادة، كما يمنع أي نقد للأنظمة الدينية في الحياة العامة.
ويقول داسي في كتابه: «فلنسم هذا المغالطة الخصوصية. وتكمن هذه المغالطة في الافتراض بأن خصوصية الأمور المتعلقة بالضمير من ناحية كونها غير حكومية يجعلها خاصة فيما يتعلق بحق الاختيار الشخصي».
ثم يقدم الكاتب مغالطة أخرى يسميها مغالطة الحرية، فكما أن الضمير لا بد وأن يكون خالياً من أي إكراه، يجب أيضاً ألا يخضع إلى تحقيق أو نقد عام. ويوضح داسي أنه في الوقت الذي يتحتم علينا ألا نجبر أحداً على الاعتقاد في أي شيء، يجب ألا نجبر الآخرين، والمجتمع بأكمله، على التخلي عن حقهم في الفحص النقدي لكل العقائد. ويرفض داسي العلمانية في صورتها العصرية الحالية، ولكنه يؤيد اتجاهاً علمانياً جديداً.
ويقول داسي: «عندما تفكر في ما يمليه عليك العقل أن تفعله فيما يتعلق بمسألة ذات شأن إنساني، فأنت تُعمل ضميرك. والمبررات أمر يشترك فيه كل البشر على وجه الأرض. فعندما تقول ان القيام بفعل شيء هو الخيار الأفضل، فأنت تقول ان هناك مبرراً للقيام به، وأن أي شخص في موقف مشابه أو وثيق الصلة، سوف يملك مبرراً للقيام بالأمر نفسه».
ويرفض داسي الاتهام الكلاسيكي للعلمانيين بأنهم لا أخلاقيين، إن لم يكونوا فاسدين. وحول ذلك يقول: «الدين الحقيقي يتطلب وجود ضمير. ومن أجل أن تكون ممارسة الدين حقيقية، فلا بد وأن تعتمد على التقييم الصادق للأمور العقلانية».
ويصدر كتاب داسي في وقت مناسب، كما ترجع أهميته إلى سببين على الأقل.
أولاً، يصدر الكتاب في وقت يحتدم فيه النقاش في جميع أنحاء العالم حول مكان الدين في المجتمع. وتتجه الرؤية العلمانية المتعارف عليها إلى وجوب احترام المعتقدات الدينية للآخرين.
ثانياً، يرفض الكاتب الكياسة السياسية التي ظهرت في العقود القليلة الماضية، والتي تسيطر عليها المساواة الأخلاقية، مما جعلها تشجع مفهوم «الآخرية» بوصفها قيمة حقيقية. وإلى حد ما، يعتبر مقال داسي الرائع بمثابة عودة إلى مصادر الضمير العلماني. ويعتمد داسي على كل من إراسموس وسبينوزا وهيوم وأدام سميث وجون ستيوارت ميل ليثبت حجته. ويقول: «على الرغم من أن الضمير شيء يخص فرداً بعينه، فإن ممارسة الضمير تكون علنية بشكل فطري، فتصبح كالسلع المعروضة في الأسواق، والتي يقيمها آخرون. ونستطيع أن نفحص أسباب الآخرين وأن نقيم مدى قوتهم وضعفهم وصلتهم بالأمر. وعلاوة على ذلك، فإننا نشارك الآخرين أسبابنا. فعن طريق إبداء الأسباب نفسر سلوكنا للآخرين».
ويدرك داسي حقيقة أن النقاش حول العلمانية لم يعد مقصوراً على الدول الديموقراطية الغربية التي لم تعد تتخذ المسيحية ديناً لها فحسب، بل شمل أجزاءً أخرى من العالم. ولذلك يورد الكاتب عدداً من الأمثلة تتعلق بشكل مباشر بالعالم الإسلامي، موضحاً أن المسلمين أيضاً سوف يستفيدون من النقاش المفتوح والصادق حول المسألة التي تواجه الجنس البشري برمته. ويحتوي الكتاب على 45 صفحة من الإحالات، التي تهدف إلى تزويد القارئ بالمعلومات وتوسيع أوجه النقاش من خلال المزيد من القراءة والمناقشة.
إن رسالة الكتاب بسيطة وقوية، وهي أننا نعيش في عالم تتنافس فيه العقائد، ولن نجني شيئاً من بناء حائط ناري يستطيع الأشخاص خلفه أن يغذوا معتقداتهم في سرية.
والأسلوب الوحيد الذي يُمَكننا من العيش معاً في سلام وفي إطار من الاحترام هو أن نسمح للغير بفحص معتقداتنا علانية، ومن دون أن نشعر بأننا أفضل منه.
والحَكَم هو العقل، وهو ما يشترك فيه البشر أجمعون، مؤمنون أو غير مؤمنين. وموطن هذا العقل هو الضمير. إن طرح هذا الكتاب باللغات العربية والفارسية والتركية وغيرها من لغات العالم الإسلامي سوف يكون بمثابة خدمة جليلة. وسوف يُقدر كل من المؤمنين وغير المؤمنين براعة الكتاب العلمية وروحه الطيبة وتوضيحاته التي يسهل استيعابها.