عشاق العود مضطهدون في العراق وناجحون بالمنفى

مشاهد من ذكريات «ضياء جبار» و «رحيم الحاج»

TT

اعتاد ضياء جبار تدريس الموسيقى لمجموعة من التلاميذ في حجرة خلفية في أحد محال التصوير، حيث لا يمكن سماع الصوت من الخارج، لكن في الأسبوع الماضي، اجتاحت مجموعة من الرجال المسلحين المحل ودمرت آلاته الموسيقية وأصدروا أوامرهم له بالتوقف عن التدريس. كثيراً ما راود «جبار» حلم أن يمارس مهنة بعينها، بيد أنه تخلى الآن عن هذا الحلم، مؤكدًا بقوله: «لقد مات العراق».

في المقابل، وعلى بعد سبعة آلاف ميل، يحمل رحيم الحاج، الذي فر من العراق عام 1991، عوده متنقلاً في شوارع مختلف المدن الأميركية ليعزف لجماهيره التي تحتشد حوله بالمئات. وقد تم ترشيح ألبوم سجله قريبًا لنيل جائزة «جرامي أوارد». ويربط عشق العود كلا من «جبار» و«الحاج» والعود آلة موسيقية تمتد جذورها بعمق في التاريخ العراقي، ويرى البعض أن صوتها يعبر عن الروح المميزة للبلاد. وتلقى كلاهما تعليمه في ذات المعهد الموسيقي العريق ببغداد، ويحمل كلاهما حبًا دفينًا تجاه الألحان العراقية التقليدية.

إلا أن الروابط بينهما لا تقتصر على ذلك، حيث راقب كل من «جبار»، البالغ من العمر 29 عامًا و«الحاج» البالغ من العمر 40 عامًا، سقوط وطنهما في هوة العنف الطائفي. ويشعر «الحاج» بقلق مستمر على مصير والدته وشقيقه اللذين ما يزالان يعيشان في ضاحية مدينة الصدر داخل بغداد والتي تتسم بخطورة الأوضاع بها، حيث يعيشان بمنزل لا توجد به كهرباء ولا مياه جارية. وعندما يشتعل القتال بين أعضاء ميليشيا «جيش المهدي» والقوات الأميركية والعراقية، مثلما كان الوضع اليومي على امتداد الأسابيع الماضية، يعكف «الحاج» على إجراء اتصالات مستمرة بذويه للاطمئنان عليهم. ويقول «الحاج»: «إن الوضع صعب لأنني بعيد عنهم للغاية وبعيد جدًا عن صراعهم، ما يجعلني أشعر بالعجز».

وتثير أعمال العنف التي يقرأ عنها ذكريات مؤلمة تحمل صور تعرضه للتعذيب وذلك في الثمانينات في عهد حكومة «صدام حسين»، أو مشاهدة آخرين أثناء إعدامهم. وفي عام 2004، عاد إلى بغداد لتقديم حفل موسيقي في منزل أسرته، لكنه أوضح أن أصدقاءه الذين شب معهم أطلقوا لحاهم وبدا عليهم عدم الارتياح إزاء عزفه الموسيقى، حيث يجري النظر إلى الموسيقى باعتبارها من المحرمات. وأشار «الحاج» إلى أن أحد صانعي العود الذين يعرفهم اضطر لممارسة عمله سرًا في ورشة صغيرة فوق سطح منزله. وفي صباح أحد الأيام، استيقظ «الحاج» داخل منزل عائلته على صوت ابنة أخيه تشدو بأغنية عراقية عاطفية شهيرة، لكن الكلمات تم تغييرها، بحيث لم تعد تتحدث عن الحب الرومانسي، وإنما فقط عن الله والجنة والخطايا، ما دفعه للتساؤل حول السر وراء هذا التغيير.

على الجانب الآخر، عاين «جبار» التحول الذي طرأ على بغداد يومًا بعد الآخر، حيث شاهد مشاعر الحماس الديني وهي تهيمن على الشوارع خارج منزل عائلته في ضاحية «الشعب»، حيث اعتاد الجلوس وعزف الموسيقى للمارة. وتحولت الحفلات الموسيقية، التي كانت شائعة في وقت من الأوقات، إلى نشاط سري. كما اختفت فرص العمل بمجالي التدريس والعزف، والتي كانت تتوافر في العادة أمام عازفي العود المهرة. ويشكو «الحاج» قائلاً: «لقد أضعت 10 سنوات من عمري، وهي السنوات التي قضيتها في تعلم عزف العود من أجل الناس». يذكر أن العراق اشتهر في وقت من الأوقات بعازفي العود. وكانت آلة العود من الآلات الشائع وجودها بالمنازل العراقية، مثلما الحال مع الجيتار داخل الولايات المتحدة. وتشير إحدى الأساطير التي أوردها موقع «جروف ميوزيك أونلاين» على شبكة الإنترنت إلى أن آلة العود تم اختراعها على يد «لاماك»، حفيد «قابيل» الذي ورد بالنصوص التوراتية المقدسة. وتكشف النصوص التاريخية عن تمجيد أحد قضاة بغداد في القرن التاسع الميلادي لهذه الآلة، وكذلك أحد كتاب القرن التاسع عشر، «محمد شهاب الدين» والذي أكد على أن العود «يحقق توازنًا بالحالة المزاجية. ويهدئ القلوب ويحييها». حتى ان صدام حسين نفسه لم يكن بمعزل عن التأثير الساحر لهذه الآلة، حيث أشار البعض إلى حصوله على عود هدية من «محمد فاضل»، أحد أشهر صانعي العود، مصنوع من أخشاب نادرة ومحلى بالعاج. كما أصدر «حسين» أوامره إلى معلم شهير للعود بتعليمه كيفية العزف عليه، لكن عند وقوفه في حضرة هذا الحاكم الاستبدادي، شعر الرجل بخوف هائل أخرسه عن الكلام. وتشير القصة إلى أنه تم استبداله بعازف آخر أعطى الحاكم العراقي درسين في العزف. أما «جبار»، فقد اعتاد في طفولته النوم على أصوات الموسيقى المنبعثة من جهاز الراديو الخاص بوالده. ولاحقًا، شدا «جبار» بأغانٍ وطنية في المدرسة الثانوية. وفي سن الثامنة عشرة، بدأ عزف العود وعكف على دراسة أسرار المقامات العراقية. وعن ذلك يقول «جبار»: «لقد ولدت لأتعلم». وعندما اجتاحت الدبابات الأميركية بغداد عام 2003، شعر «جبار» بإثارة بالغة. وعن هذه الفترة يقول: «اعتدت الجلوس مع أصدقائي والحديث عن أحلامنا وما ستصبح عليه بغداد بعد الغزو. لقد توقعت أن تصبح بغداد على غرار هوليوود. وكنا نتحرك بحرية. وأحيانًا كنا نعود إلى منازلنا في الثانية صباحًا».

بيد أن الحرية الجديدة لم تدم طويلاً، حيث نمت إلى مسامع «جبار» قصص انتشرت على نطاق واسع حول تعرض موسيقيين للتهديد من جانب متطرفين دينيين، بل وتعرض أحد أساتذته لهجوم أثناء قيادته سيارته عائدًا إلى العراق من سورية. وحطم مسلحون آلة العود التي كانت بحوزته، مهددين إياه بالقتل حال معاودته العزف مجددًا. وبعد شهر، فر البروفيسور من العراق.

يقول «جبار»: «بدأت أتحلى بحذر أكبر وتوقفت عن الحديث عن دراستي. واعتدت الزعم بأنني أدرس الرسم أو التاريخ أو أنني سأصبح مدرس لغة إنجليزية». ويستطرد أنه في بعض الضواحي، كان بإمكانه حمل العود دون خوف كبير، بينما في ضواح أخرى، كان ذلك أشبه بـ«الانتحار». والآن، يعزف «جبار» أينما أمكنه ذلك، سواء في احتفالات من وقت لآخر أو تجمعات سرية مع الأصدقاء. وبين حين وآخر، يمر بمحل «أحمد العبدلي»، صانع العود، في السوق الرئيسية ببغداد. من جانبه، يشرح «العبدلي» أنه «قبل هذا الحين، كان الكثير من العازفين يأتون هنا ويتجمعون ويعزفون ويغنون، ويعودون إلى منازلهم يملأهم شعور بالسعادة والارتياح. لكن الآن، أصبحوا لا يأتون، أو إذا ما أتوا، يكونون واحدا أو اثنين بنفس الوقت ويعزفون لبضع دقائق فحسب، حتى لا يجذبوا انتباه المتشددين». يذكر أن «جبار» يملك عودًا من صناعة محمد فاضل، وهو قيّم لدرجة أنه لا يسمح لزوجته بلمسه، ومع ذلك، يفكر حاليًا في بيعه. أيضًا، كان بحوزة «الحاج» عود من صناعة «محمد فاضل» أعطاه إياه منذ عقود أحد معلميه في بغداد. واعتاد «الحاج» النوم إلى جوار هذا العود، بل والحديث إليه، ما أثار قلق والديه. إلا أنه عام 1991، عندما فر من العراق وأثناء مروره بالأردن، صادر أحد حرس الحدود العود. وما زال «الحاج» يتذكر أنه عندما رأى العود يختفي من بين يديه، انتابته رعشة وأصابه شعور بالمرض. ويؤكد «تلك هي أكثر لحظات حياتي حزنًا».

وفي عام 2000، وصل «الحاج» إلى الولايات المتحدة، بعد سنوات قضاها في سورية، وعثر على فرصة عمل بمحال «ماكدونالدز». وأخيرًا، عاد مجددًا للعزف على العود، ويبذل كل ما في وسعه الآن للحفاظ على موسيقى العود العراقي حية ويقيم حفلات لصالح الأطفال العراقيين ويتحدث إلى الجمهور بشأن العود وتاريخه. ويدرك «الحاج» جيدًا أنه محظوظ لكونه يتمتع بحرية العزف والتحدث بلا خوف، حيث يقول «أتمتع بفرصة أن أرفع صوتي هنا».

ويضيف أنه شعر بالبهجة عند سقوط نظام «صدام حسين»، لكنه عارض الغزو الأميركي، مشيرًا إلى أنه في بعض الأحيان تجول بخاطره فكرة أن «هناك جنديا في العراق، ولا أدري إن كان يقتل شقيقي».

* «خدمة نيويورك تايمز»