فيلم برسيبوليس: الهوية بين التقاليد والحداثة

تاريخ إيران الحديث عبر عيني صبية

مشهد من الفيلم الفرنسي (رويترز)
TT

يستند هذا الفيلم إلى قصة مصورة (كوميكس) سبق لمرجان سترابي، الإيرانية المقيمة في فرنسا، أن كتبتها ونشرتها، وفيها تنقل سنوات صباها ومراهقتها حتى بلوغها سن الرشد.

يتبنى فيلم برسيبوليس، أسلوب الرسوم المتحركة، بحيث تظهر الشخصيات بأبسط شكل من دون أي عمق وكأنها تخطيطات مسطحة، لا تظهر على وجوهها سوى الانطباعات المتغيرة فوق العينين والفم والغضون. وباستخدام اللونين الأسود عندما تسترجع البطلة مرجان ذكرياتها مع خلفية تتدرج ما بين زرقة باهتة تمتزج باللون الرمادي، مقابل الألوان الأخرى حينما تكون في الحاضر، يصبح ممكنا التنقل بسهولة ما بين الماضي والحاضر. كذلك سمحت رسوم الكرتون البسيطة التي يصاحبها صوت الراوية مرجان نفسها، أن تنتقل بسرعة وسهولة من حدث إلى آخر، لتتبع خط الحكاية بسلاسة كبيرة.

كانت مرجان صبية في العاشرة من عمرها حينما حدثت الثورة الإيرانية عام 1979. وحولها أبدى أفراد عائلتها اليسارية بهجة شديدة بالتغيير الذي شاركت في صنعه قطاعات سياسية واجتماعية واسعة، خصوصا بعد إطلاق سراح عمها أنوش، المناضل الشيوعي الذي قضى سنوات في سجن الشاه، وتحدث عن أنواع التعذيب المبتكرة التي كان يلقاها السجناء السياسيون على يد الجلادين. كذلك نتعرف من خلال الجدة ووالديها قليلا على تاريخ إيران خلال القرن العشرين، وما تضمنه من حركات معارضة، ومن أنواع القمع التي واجهتها، وخلال كل ذلك لم تكن للحركة الدينية الأصولية ثقلا متميزا في ذلك النضال ضد نظام الشاه المستبد.

لكن هذه البهجة لن تستمر طويلا، فمع بدء الحرب بين العراق وإيران، راح الأصوليون المتزمتون يفرضون قيودهم لا على نشاطات القوى السياسية المعتدلة أو اليسارية بل امتدت إلى الحياة الاجتماعية، وهنا كان للنساء الإيرانيات حصة الأسد.

في نقلات سريعة، نتلمس التحول الذي راح يطرأ على المجتمع الإيراني: فجأة تظهر أم مرجان وجدتها وهما يتلفعان بالتشادور الأسود. وتصبح المدرسة مكانا تجبر التلميذات فيه على اللطم وهن غارقات بالسواد. لكن العم أنوش يظل متفائلا، ظنا منه أنها مجرد فورة ستمضي بسرعة، ويظل على إيمانه المطلق بأن البروليتاريا ستصل في الأخير إلى الحكم، حتى حينما يتم اعتقاله ويصدر عليه حكم بالإعدام. حينما كان في السجن أعطي الحق أن يلتقي بفرد واحد من أسرته فاختار ابنة أخيه الصبية مرجان. وهناك سيطمئنها بأن البروليتاريا ستصل في الأخير إلى الحكم.

مع بدء مراهقتها، راحت مرجان تبحث عن كل ما كان سائدا في إيران قبل استيلاء الأصوليين المتزمتين على الحكم. كاسيتات المغنين الغربيين المشهورين، مواد التجميل التي أصبحت من المحرمات، وقمصان الـ «تي شيرت» ذات الرسوم الغريبة. ولم يكن هناك سوى السوق السوداء المزدهرة والباعة المتجولين الذين يظلون يتلفتون حولهم وهم يدسون بسلعهم في جيوب زبائنهم خوفا من وصول الحراس القساة. وبعد سلسلة مواجهات لمرجان مع معلماتها، ومواجهتها لبعض المشاكل مع حرس الثورة بسبب روحها المتمردة، يقرر الأبوان أن يرسلاها إلى النمسا مع أصدقاء لهما، تجنيبا لها مما قد يلحق بها من أذى داخل إيران.

قبل سفرها إلى فيينا، لقنتها جدتها التي ظلت لمرجان مثلا أعلى على روح الاستقلال والتشبث بالهوية الوطنية في آن واحد: أينما تذهبين عليك أن تظلي محتفظة بهويتك وفخورة بها.

لكن تجربتها خلال تلك السنوات الحاسمة في تكونها لم تكن سهلة في الغرب. فهناك ظل الناس ينظرون إليها باستغراب، مطبقين عليها الصورة النمطية القائمة في أذهانهم عن إيران والإيرانيين قاطبة. ومع انجذابها إلى الفئة الوحيدة التي تقبلها من الشباب المتمردين، تكتشف أنها في أعماقها ترفض الكثير من الممارسات التي تدور حولها من علاقات عابرة ومن المواقف المتعطفة عليها كفتاة شرقية أو من إدمان على المخدرات. ولن يكون الشعور العميق بالحنين إلى الوطن إلا بعد تقطع كل خيوط أواصرها مع معارفها في فيينا.

لكن الوطن الذي تعود إليه يكون قد تغيرت ملامحه تماما عن ذلك الذي عرفته من قبل. وفجائع الحرب بين العراق وإيران التي بلغت آخر عامها ظلت قائمة حولها. وهنا تواجه جدتها وهي تحاول إقناع مراهق بالتخلي عن قراره بالمشاركة في العمليات الانتحارية. وكانت أمه قد جلبت ذلك المفتاح الحديدي الذي حصل ابنها الوحيد عليه من منظمي تجنيد الصبيان الصغار، للوصول بفضله إلى الجنة.

بعد فشل زواجها، يصبح أمام عائلة مرجان خيار واحد: مساعدتها في الذهاب هذه المرة إلى باريس. لكنها الآن أصبحت أنضج بعد طقوس العبور التي مرت بها والتي خلقت منها شخصا أقوى وأكثر تمسكا بجذورها.

شاركت مرجان سترابي أيضا في إخراج الفيلم وكتابة سيناريوه مع المخرج الفرنسي فنسنت بارونو، بينما شاركت الممثلة العريقة كاترين دينوف في أداء صوت الأم. إنه فيلم شيق ومتقن، وخلال 98 دقيقة يستطيع المشاهد أن يستمتع ويتعرف على خصوصيات إيران لا صلة لها بكل التنميط السائد في جزء فعال من الإعلام بوضع كل البلدان المسلمة في سلة واحدة.