مراسم الزواج في كردستان.. طبل وأنغام ومزمار

تزداد خلال فصل الربيع ولا تزال متمسكة بتقاليدها

TT

تتباين طقوس ومراسم الزواج والزفاف من بلد لآخر بل من منطقة لأخرى وداخل البلد الواحد احيانا، مثلما تختلف طريقة إحيائها من شعب لآخر تبعا للتقاليد والأعراف الموروثة من الاجداد الى الاحفاد، وغالبا ما تخضع تلك التقاليد والاعراف لتأثيرات الطبيعة الجغرافية او المناخية التي تتجلى في مظاهر الحياة كشكل او هيئة الملابس وتصاميم البيوت والاثاث المنزلي وغيرها. أما التحولات الجذرية التي طرأت على الغالبية المطلقة من المجتمعات على نحو سريع ومخيف بفعل العولمة وإفرازاتها التي اكتسحت المجتمعات الشرقية بشكل مريب، خصوصا في العقد الحالي من الالفية، فقد غيرت كثيرا من تلك الطقوس والعادات الموروثة التي ظلت حية وقائمة لعقود طويلة من الزمن في الكثير من مجتمعاتنا الشرقية وبقيت الاجيال تتفاخر بها كجزء لا يتجزء من تراثها الانساني والقومي، لاسيما في المجتمع الكردستاني الذي كانت فيه مراسم وتقاليد القِران والزواج وما برحت (ولكن بقدر اقل من السابق) من اكثر الاعراف والعادات قدسية وأهمية.

وما زال هناك العديد من المنظمات الكردية المعنية بشؤون التراث والفولكلور تقيم سنويا، وبالتحديد في بداية فصل الربيع وبالتزامن مع يوم «النوروز» القومي، مهرجانات شعبية تراثية يحيي فيها الاحفاد جانبا كبيرا من التقاليد والأعراف الاجتماعية للأجداد على هيئة عروض مسرحية مفتوحة تقدم لحشود كبيرة من المشاهدين على قمم الروابي وفي احضان الوديان المتشحة بالبساط الاخضر، ليتعرف النشء الجديد على تقاليد أجداده في سالف الأزمان.

ويروي العديد من المسنين والعجائز ممن جاوزوا السبعين من العمر، والذين عاصروا في شبابهم حقبة العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي، كيف كان الزواج يتم بعسر شديد مقرونا بتحضيرات واستعدادات مسبوقة بعدة اشهر وكيف كانت الاشبينة تلعب دورا محوريا في إتمام عملية الزواج وتذليل العقبات التي تواجهها والتوفيق بين الرأسين في الحلال واقناع ذوي العروسين.

ويقول الحاج حمه صابر شريف، 82 عاما، ان الاشبينة كانت سيدة الموقف في كل حالات الزواج لأن العروسين ما كان لهما ان يتعرفا على بعضهما بعضا إلا بليلة الزفاف. وكانت الاشبينة تتولى بدهائها الشديد تجميل صورة العروس بوصف عينيها الواسعتين السوداوين وشعرها الحريري وقامتها الفارعة الممشوقة وبشرتها البيضاء ونضارة وجهها الناصع المدور لإذكاء الرغبة عند عريسها او بالعكس مقابل أجرها، تضاف اليها هدايا وهبات ذوي العروسين رغم أنها نادرا ما كانت تصدق في أقوالها.

ويتابع الحاج شريف في حديثه لـ«الشرق الاوسط» كانت الاشبينة قادرة ايضا على افشال اي مشروع زواج مهما كانت درجة الانسجام بين اسرتي العروسين، مستخدمة اساليبها الملتوية والشيطانية لأسباب كانت تتعلق بأتعابها في اغلب الأحيان، لا لكونها متسلحة بعصا سحرية، بل لأن العادات والتقاليد المتبعة وقتذاك كانت تحتم وجود الاشبينة في عملية تهيئة العروس للزواج منذ اللحظات الاولى لخطوبتها وما قبلها من ترتيبات، وحتى ايصالها الى بيت الزوجية. وكان من المعيب جدا بل من المستحيل ان تتزوج الفتاة بدون ان تتولى امرها اشبينة مخضرمة ومعروفة في الحي او المنطقة برمتها.

وفي ظل تلك السلطة الاجتماعية الممنوحة لها، كانت الاشبينة لا تمانع مطلقاً في تلميع وتجميل صورة عجوز في العقد الخامس او السادس من العمر لتزويجه فتاة في عمر حفيدته مقابل حفنة من المال، مستغلة في ذلك التقاليد الاجتماعية السائدة وقتذاك، والتي ظلت تحظر على الفتاة اختيار شريك حياتها بمحض إرادتها وتمنعها بشدة من الالتقاء او الاختلاط مع الجنس الآخر بل حتى من الدراسة، لذلك كانت غالبية الزيجات فاشلة، وان استمرت ويكابد فيها الازواج حياة بليدة ورتيبة تغيب عنها المشاعر والرومانسية والعشرة الطيبة.

اما عن مراسم الخطبة وليلة الزفاف، فتقول الحاجة قدرية حمه علي، 76 عاما، إنها لا زالت تتذكر جانبا كبيرا من تلك الطقوس التي تلاشت او تغيرت بتقادم الزمن وتطور الموضة. وتضيف ان الفتاة ومنذ سن العاشرة كان يحظر عليها الخروج من منزل والدها إلا بإذن مسبق وبرفقة احد افراد الاسرة مع الادثار بعباءة سوداء وتغطية وجهها إما بالحجاب أو بالخمار الاسود، لذلك لم يكن بمقدور الشباب مطلقا اختيار فتاة احلامهم او الاتفاق معها على الزواج كما هو الحال الآن حيث لا قيود ولا تقاليد. وكانت الاشبينة او بعض الوسيطات من اقارب الطرفين السبيل او الوسيلة الوحيدة للجمع بين الفتيات والشباب، اذ كانت الاذن تعشق وتحب، وينطق اللسان بالموافقة قبل ان ترى العين شريك الحياة. وتمضي الحاجة قدرية المتزوجة عام 1950 في روايتها عن تلك المراسم لـ«الشرق الاوسط»، قائلة «بعد اتفاق عائلتي العروسين على تفاصيل الزواج وحيثياته كالمهر ومؤخر الصداق وتجهيزات بيت الزوجية وموعد الخطوبة والزفاف، خلال جلسة خاصة كان فيها الإمام (الملا) سيد الموقف لا سيما في الريف باعتباره متمم القِران الشرعي بين العروسين. وكانت اسرة العريس تتقدم بالمهر المتفق عليه مسبقا الى اسرة العروس وبالحلي الذهبية الى العروس، إما من خلال والدة العريس او شقيقته او احدى قريباته لتلبسها في غرفة اخرى وسط اهازيج وفرح ذوي واقارب العريس متبوعا بتوزيع الحلوى والمشروبات ثم وليمة عشاء كبرى للمشاركين في المناسبة. وكانت تلك المراسم بمثابة اعلان للخطوبة، لتأتي بعدها بشهر واحد مرحلة الاستعداد ليوم الزفاف باتفاق عائلتي العروسين، حيث كانت العروس تخضع قبل ذلك بثلاثة ايام لعمليات تجميل غير جراحية طبعا، كحف الزغب والشعر عن وجهها واطرافها وللمرة الاولى في حياتها، وصبغ شعرها بالحناء لتفوح منه رائحة زكية وفي ليلة الزفاف كانت النسوة من اهل العروسين واقاربهما يجتمعن في بيت العروس لإحياء حفل نسوي خاص كان يسمى ليلة الحناء، حيث كانت الاشبينة تتولى وضع حفنة من الحناء الايراني الشهير في راحتي العروس وعلى اطراف اصابعها واسفل قدميها وكعبيها كنوع من المكياج، اضافة الى توزيع ما يتبقى من الحناء على جميع النساء الحاضرات، وخصوصا الفتيات المتلهفات على الزواج، جريا على الاعتقاد القائل إن الفتاة التي تتعطر بحناء العروس، يوفر لها الطالع والحظ فرص الزواج في اقرب وقت.

وفي صبيحة اليوم التالي، تقام مراسم زفاف العروس في منزل العريس حيث كانت العروس تنقل من بيت والدها الى عش الزوجية على ظهر حصان يتم تزيينه وتحضيره خصيصا لها، ترافقه عدة خيول يمتطيها رجال يرتدون الزي الكردي ويحملون بنادق (البرنو) ويتحزمون باشرطة من الاطلاقات النارية، والخناجر في خواصرهم والمسدسات في جنباتهم كجزء من الديكور المكمل للموكب الذي كان ينبغي ان يرافق العروس في زفافها. وطوال الطريق الى بيت الزوجية كان الفرسان يطلقون النار في الفضاء ابتهاجا. وعند باب منزل الزوجية، كان على العريس ان يستقبل عروسه وينزلها من على ظهر الجواد ويرفع عن وجهها الطرحة البيضاء الرقيقة، ويقبل جبينها تعبيراً عن الترحيب بها في منزلها الجديد. وبعد دخول العروسين الى غرفتهما، يقام الحفل البهيج بمشاركة الرجال والنساء من الاقارب والمعارف والاصدقاء والجيران، حيث الاغاني والدبكات الكردية الفلكلورية التي تستمر لساعات طويلة وفي حلقات كبيرة على ضربات الطبل وأنغام المزمار في انتظار خروج العروسين ليعلنا للملأ نجاح زواجهما، لتتعالى بعدها زغاريد اهلهما وأحبتهما مقرونة بدوي المزيد من الاطلاقات النارية في الهواء. وفي اغلب الاحيان كان الحفل يستمر ثلاثة ايام متتالية بلياليها لاسيما اذا كانت المناسبة تخص العوائل الميسورة.