ظلّ الوزير والشاعر السعودي، غازي القصيبي، ملتحماً بأستاذه أبي الطيب المتنبي حدّ التوحد، إلى أن استعار منه صفة لازمته أينما رحل، وهي: «مالئ الدنيا وشاغل الناس».
غازي القصيبي، كما المتنبي، لا يعيش بدون معارك، ولا يجد مكاناً في الظلّ حتى وهو يزحف نحو السبعين، (ولد في الأحساء السعودية سنة 1940، كما بقي القصيبي يستعير روح المغامرة من المتنبي، على نحو «كلما قلت شعراً أصبح الدهرُ منشدا»، فكلما اتخذ قراراً أثار الأجواء من حوله.
خلال مسيرته من الوزارة إلى السفارة، فالعودة إلى الوزارة مجدداً، استمر القصيبي يلوح بسيفه كدون كيشوت يصارع طواحين الهواء، وربما تركت صراعاته الأخيرة ندوباً غامرة في جسد أنهكته الجراح، فلم يكن يتصور أن إقدامه على مغامرة توظيف نساء سعوديات في محلات لبيع الأزياء النسائية داخل قاعات مغلقة بإحكام، توفر للنساء خصوصية التبضع لملابسهن الداخلية بكل خصوصية وأمان، أن هذا القرار سيجلب وراءه عواصف من الاعتراض، يضطر بعدها لتأخير تطبيقه إلى مرحلة أخرى، أما مشروع «السعودة» وتوفير وظيفة لكل شاب فهو الآخر مثّل عنواناً للمواجهة مع قطاع عريض وواسع هم رجال الأعمال.
وكعادة المتنبي، فإن القصيبي، يجد في الشعر، والأدب ضالته، تارة لينتقم، ولو بصورة رمزية، وأخرى ليرسم أشباحاً ويهزمها، كتعويض عن الإخفاقات من حوله، أو لمجرد تنفيس الاحتقان.. وتسلية الفؤاد.. ولأنه من الصعب التمايز بين شخصية القصيبي الرسمية، وشخصيته الأدبية، فقد سألتُه: «أيهما يصارع طواحين الهواء بمراس أكثر: غازي القصيبي، الوزير أم الشاعر؟»، فقال من دون أن يغفل تعلقه بالمتنبي إن «الشاعر لا يصارع طواحين الهواء ولكنه يصنعها ويشغل بها نفسه، ويشغل بها الناس»، ويقول «طواحين الهواء الشعرية هي تلك الأبيات أو القصائد التي تبدو جميلة مؤثرة، كإيقاعات الطبول، ولكنها سرعان ما تنكشف، عند من يستطيع التفرقة بين الشكل والمضمون، عن شيء يدور مع الهواء ولا يطحن شيئاً»، ويضيف «لقد كان صاحبنا الخبيث المتنبي رائد الطواحين الهوائية الشعرية، وهي، تحديدا تلك الأبيات التي ينام عنها ويسهر الخلق جراها ويختصم، ومنها، على سبيل المثال العابر، ذلك المطلع «الطاحوني»:
وفاؤكما كالربع أشجاه طاسمه بأن تسعدا والدمع أشفاه ساجمه
* والمطلع (الهوائي):
أحاد أم سداس في أحاد لليلتنا المنوطة بالتنادي
* ويقول القصيبي لـ«الشرق الأوسط»: «الوزير بدوره لا يصارع طواحين الهواء ـ كل الطواحين التي يصارعها مدججة بالأسلحة الفتاكة ومحّصنة ضد القرارات الوزارية ومدرعة بحيث لا تستطيع المصلحة العامة إحداث خدش بها. كم أتمنى أن تكون لي معركة واحدة، واحدة فقط، مع طاحونة هواء أعود منها بلا أضلاع مكسورة، أو قلب ينزف، أو قلم يرتعش».
لكن، هل يجد القصيبي الأدب، شعراً ورواية، ملاذاً من إحباط السياسة؟ يقول:«لا يفر الإنسان من الإحباط إلا إلى الإحباط ما دام حيّاً، ما دام عاقلاً، ما دام يهتم بما يتجاوز عالمه الضيق الخاص. وأنا أفر من الإحباط مؤقتاً، في ضحكات أحفادي وحفيداتي (أما الأولاد فلم يعد لديهم متسع من الوقت لي!)، وفي لحظات على الساحل أصيد فيها السمك مع الأحفاد، في فيلم خارق من أفلام الرعب، أفر فراراً مؤقتاً ثم أعود إلى الإحباط».
ويتساءل القصيبي: كيف أفر من الإحباط في الأدب؟! ويجيب : معظم الشعر، ومعظم النثر، نتيجة إحباط من نوع أو آخر، إحباط خلاق ـ ولكنه يظل إحباطاً. أرني إنساناً لم يمتزج بالإحباط وسوف أريك شخصاً معدوم الموهبة.
ونسأله: متى يستفيق المتنبي في داخلك، ومتى يستريح؟، ويقول: المتنبي ينتقم مني كل لحظة، ويتشفى بانتقامه. عندما كنت شاباً في مقتبل العمر (في العشرين أو نحوها) كنت أكره المتنبي. كنت أرى فيه شخصية سوداوية مليئة بالكراهية والتشاؤم والغضب العبثي. كنت أقول: كيف يمكن لشاعر أن يقول:
ومن عرف الأيام معرفتي بها وبالناس... روَّى رمحه غير راحم؟
* وكنت أقول: أي شاعر هذا الذي يستطيع أن يقول:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة.. فلعلّه لا يظلمُ؟
* ويقول: كنت أردد أبياتاً كثيرة له من هذا الطراز، ثمَّ ـ عندما أزمع ركب العمر رحلة نحو المغاني الآخر ـ كما يقول (إبراهيم) ناجي ـ بدأت أكتشف أن ما قاله الأستاذ، لا ما كنت أحلم به في صباي، يمثل، للأسف الشديد، التشخيص الأدق للطبيعة البشرية.
ويقول معترفاً: حسناً! المتنبي في داخلي لا ينام، يرقبني ويرقب الأحداث. في الأسبوع الماضي حدث حادث، لا تهم تفاصيله، ففاجأني الخبيث منشداً:
لا يخدعنك من عدو دمعه وارحم شبابك من عدو ترحم
* وهذا الأسبوع شهد حادثة أخرى، لا تهم تفاصيلها، فأنشدني:
كل حلم أتى بغير اقتدار حجةٌ لاجئ إليها اللئامُ
* وهو لا يفتأ يذكرني كل دقيقة:
نصيبك في حياتك من حبيب نصيبك في منامك من خيال
* والغريب أن القصيبي الذي ينظر إليه كصانع النجاح، يرى أن نجاحه الأول كان في صراع مع النفس، يقول حين سألناه: أين يكمن نجاحك الأول؟ «نجاحي الأول ـ والوحيد ـ أنّى استطعت عبر جهود مضنية استغرقت عقودا من الزمن أن أتغلب، إلى حد ما، على ما في داخلي من مخزون الخجل وعقد الانطواء وضعف الثقة بالنفس والخوف من الجموع وعشق العزلة..». وحين سألناه: أين تَرى أنك أخفقت؟ قال «ما عدا ذلك فإخفاق يتلوه إخفاق».
ونسأل الوزير الذي تدرج في مختلف المناصب: أي الوظائف كان الأقرب إلى نفسك، الوزارة، أم السفارة؟ والكهرباء والصحة، أم المياه والعمل؟ فيقول: «صدقني! لا توجد وظيفة قريبة إلى القلب، صدقني! كل وظيفة تعني صحوا مبكرا ونوما متأخرا ومواعيد مزعجة وزوارا ثقلاء ومصالح ترتدي ثوب النزاهة وأوراقا مبعثرة وطعنات من كل اتجاه ـ لا أستثني من ذلك أي وظيفة مررت بها أو مرت بي. القريب من القلب هو الشعور انك استطعت رغم هذا كله، لا بسبب هذا كله، أن ترسم ابتسامه على وجه، أن تخفف من معاناة إنسان، أن تجعل الحياة أخف وطأة على مخلوق ـ هذا، وحده ما يبقى والباقي قبض الريح!».
سألناه: هل فاجأك موقف رجال الأعمال من خططك لتوطين الوظائف؟ فاستل مرة أخرى من المتنبي سلاحاً وقال: عرفت الليالي قبلما صنعت بنا» كما قال الاستاذ الخبيث الماكر (ما غيره). وأضاف: كان بوسعي توقع ردود الفعل من كل من تضررت مصالحه، على نحو أو آخر، ويبدو انه من قدري أن اضر بمصالح البعض في كل عمل أتولاه، وكان بوسعي توقعها بدقة نشأت من الخبرة المتراكمة، أما الذي لم استطع أن أتوقعه ولا أستطيع الآن وقد لا أستطيع في المستقبل، هو موجات الكراهية تأتيك من أناس لم تمس مصالحهم من قريب أو بعيد ولم يروك ولم ترهم، ولعل الأستاذ كان اقدر مني على فهم هذا الموقف الغريب، حين قال:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه وصدق ما يعتاده من توهم لكنه يستدرك قائلاً: من نعم الله أن هناك موجات من المحبة تجيء ممن لا تعرفهم أو يعرفونك فتصدم الأمواج وتخرج من المعمعة سالما.. إلا من الرضوض المعتادة.
وفي هذه اللحظة نسأله: بشأن عمل المرأة قلت: «إن لساني تحول إلى حبل من كثرة الحديث»، هل هذه «الشكوى» هي كل ما على النساء أن يتوقعنه من وزير العمل؟، فيقول: لو كففنا عن الحديث عن ضوابط عمل المرأة، وسعينا بهدوء وبلا ضجة إلى توظيف المرأة في الأماكن التي ترتضيها المرأة، لانتهت نصف مشاكل البطالة النسائية، ماذا افعل والبعض يودون لحديث الضوابط أن يستمر إلى الأبد، حتى الحبل تعب من ترداد «بحق الله! كفوا عن الحديث عن ضوابط التوظيف وابدأوا في التوظيف، هناك للأسف في مجتمعنا رجال يشعرون أن أي قدر من الاستقلالية تحققه المرأة، سواء كان ماديا أو معنويا أو حتى رمزيا، يصيب رجولتهم في الصميم، شفاهم الله! أخيراً نسأل غازي القصيبي: ما هي جولاتك القادمة، في أي ميدان؟ فيقول: رحلتي القادمة في أعماق نفسي، في تلافيف ذاكرتي، في الأعماق السوداء الراكدة في الغابات الاستوائية التي تكتنف الروح، ورحلة مثل هذه من يعرف نتائجها؟ من يعرف إذا كان هناك أمل في العودة منها؟