موت آخر فرسان الموضة الراقية

إيف سان لوران كان تراجيدياً في حياته الشخصية وفناناً ثورياً في أعماله

ايف سان لوران وآخر عرض له في عام 2002 (أ.ب)
TT

لفظ، إيف سان لوران، آخر فرسان المدرسة القديمة للموضة أنفاسه مساء يوم الأحد عن عمر يناهز الـ71 عاماً، مخلفا مؤسسة فرنسية عريقة، وتاركا ديْنًا في عنق المرأة ستحفظه عبر الأجيال القادمة؛ فهو الذي حررها من الفستان وأهداها البنطلون أو ما صار يعرف بـ«لو سموكينغ»، وهو الذي أيضا بدأ حوار الحضارات باستعانته بعارضات سمراوات مثل الصومالية إيمان في السبعينات، وهي أمور كانت حينذاك بمثابة ثورات اجتماعية قبل ان تكون ثورات في مجال الأزياء. ليس هناك اكثر من إيف ليجسد مقولة ان الإبداع يولد من رحم المعاناة. كإنسان كان رقيقا وحساسا للغاية، وهنا تكمن تراجيديته ومأساته التي لازمته طوال حياته، وكمصمم كان قويا وثوريا لا يخاف إحداث الصدمة، وهنا تكمن قوته كفنان ومبدع. وليس أدل على هذا من أنه كان أول من حمل «الأزياء الراقية» إلى مصاف الفن بالمعنى الحقيقي للكلمة، فقد كان دائما في حوار مع الفنون الأخرى؛ وعلى رأسها الرسم بغرفة من أعمال بيكاسو وفان غوخ وغيرهما، والأدب، الأمر الواضح في مجموعة بعنوان شكسبير، والسينما والباليه وغيرها من الفنون.

موته، بلا شك، صدمة لعشاق الموضة، لكنه ليس مفاجأة، فإيف سان لوران عاش مع المعاناة طوال حياته، وفي السنوات الأخيرة بالذات، زادت معاناته بسبب ضعفه الجسدي الذي جعله عرضة لعدة أمراض. ففي عام 2006 بدا رجلا هزيلا أوهنته السنوات، وهو يسقط أمام انظار المصورين بعد حضوره عرض أزياء ستيفانو بيلاتي، خليفته في الدار التي اسسها عام 1961، مؤججا الإشاعات بقرب النهاية، وإن كانت نهايته الفنية قد كتبها بنفسه عام 2002 عندما تخلى عن عرشه في دار «إيف سان لوران» مختتما 44 عاماً من العطاء والإبداع، ببعض المرارة. فالفنان الثائر بداخله لم يتحمل، حسب قوله آنذاك، ان تصبح الأزياء الراقية تحت رحمة العطور ومنتجات التجميل، التي بدأت تركز عليها المجموعات المالكة لبيوت الأزياء وأصبحت هي التي تدر الأرباح على بيوت الأزياء في وقت شهد ركودا اقتصاديا انعكس على توجهات المصممين وعطاءاتهم التي بدأت تتبع أسواق المال، وليست خدمة الأناقة التي نصب نفسه وليا عليها. كما لم يكن راضيا عن المصمم توم فورد الذي نصبته مجموعة «غوتشي» مصمما فنيا لداره، فقد كان يشعر انه لم يفهم أسلوبه الذي حرص فيه طوال مشواره على الارتقاء بالمرأة وذوقها. صحيح أن كتب التاريخ ستسجل أن موته حدث في الأول من يونيو (حزيران) 2008، لكن 22 من يناير (كانون الثاني) 2002، سيبقى في ذاكرة عشاق فنه اليوم الحزين، لأنه كان يوم تأبينه في مركز جورج بومبيدو، الذي غطته سحابة حزن كثيفة، لأن الكل كان يدرك ان الموضة ستثكله وأن المرأة ستخسره. كيف لا وهو الذي أعطاها القوة والثقة بالنفس. وما لا يختلف عليه اثنان أنه بتقاعده الهادئ عن عالم الأزياء عام 2002، أسدل الستار على حقبة مؤسسة الموضة الكلاسيكية الباريسية، التي شكل مع كوكو شانيل وكريستيان ديور أعمدتها الرئيسية الثلاثة. ورغم أنه بدأ تمرده على المألوف في عالم الأزياء قبل أربعة عقود، يبقى الرجل، الذي تحول اسمه في حد ذاته الى «علامة تجارية»، رمزا للتألق والبريق، يصعب تعويضه.

ولد إيف اونري دونا ماتيو سان لوران عام 1936 في وهران، غرب الجزائر، لشارل سان لوران، مدير شركة للتأمين، ولوسيان ماتيو وكلاهما من الألزاس واللورين وهاجرا الى الجزائر إبان الحرب الفرانكو – بروسية. ومنذ صباه الباكر أظهر ميلا واضحا نحو تصميم الأزياء، وقرر وهو في سن السابعة عشرة الرحيل الى باريس، بحثا عن دار للموضة يلتحق بها. دخل مسابقة «مجلس الصوف الدولي» عام 1954 وفاز بالجائزة الأولى لتصميمه فستان كوكتيل رائعا، متفوقا بذلك على صديقه الذي تحول إلى غريمه بعد المسابقة، كارل لاغرفيلد، خصوصا بعد ان اختاره كريستيان ديور للعمل معه، لتبدأ بذلك إحدى أنجح الشراكات في تاريخ الموضة وأكثرها إبداعا. وفي سن الواحدة والعشرين، وبعد موت كريستيان ديور، تسلم إيف مقاليد هذه الدار التي كانت ولا تزال تعتبر مؤسسة فرنسية، وهي سابقة لأي شخص في هذا العمر. كان التحدي كبيرا، خصوصا أن مهمته الكبرى لم تكن إثبات نفسه فحسب، بل ايضا انقاذ الدار من الإفلاس. واجتاز الامتحانين بتفوق. إذ حققت مجموعته «ترابيز» بتصاميمها المنسابة وأشكالها المثلثة وسط أفيال وديكور يستحضر أجواء السيرك، نجاحا منقطع النظير. ولأن دار «ديور» كانت تشكل 50% من صادرات الموضة الفرنسية آنذاك، فقد كان نجاح المجموعة مهما جدا للاقتصاد الفرنسي، وهذا ما أكسبه لقب «منقذ فرنسا» آنذاك. لكن شهر العسل لم يدم طويلا، إذ سرعان ما استدعي للخدمة العسكرية في حرب الجزائر، وهنا بدأت المأساة الحقيقية، إذ لم يمض عليه عشرون يوما حتى انهار عصبيا تحت وطأة المعارك ومعاملة رفقائه الجنود، بسبب رقته وحساسيته، فأنزل المصح العقلي، حيث خضع لعلاج نفسي شمل أيضا الصدمات الكهربائية.

وبعد معافاته، جسديا على الأقل، عاد الى عالم الأزياء ليجد ان دار «ديور» لم تعد بحاجة إليه، مما شجعه على تأسيس داره الخاصة به، واستكشاف آفاق غير مألوفة في دنيا الموضة. فتارة يرحل بخياله إلى افريقيا، ومرة إلى الصين وروسيا ومرة يلجأ إلى أعمال بيكاسو، وهكذا مضى من نجاح الى آخر. وفي هذه الفترة تحديداً، صمم أشهر إبداعاته التي تشمل جاكيت «السموكينغ» و«البوليرو» و«الاوفرول» والبلوزة الشفافة ومزج الألوان المتناقضة. أما أكبر انجازاته فيمكن تلخيصها في انه ابتدع «نسخا نسائية» من أزياء الرجال، بما فيها جاكيت السموكينغ وجاكيت السفاري. ورغم ان تصاميمه اعتبرت كلاسيكية، إلا ان الفنان المتمرد بداخله كان يتلذذ بإحداث الصدمة. في عام 1971 بإنتاجه خط «الأربعينات» الذي خرج فيه عن المألوف، وفي العام نفسه بتصوير أكبر حملة إعلانات لعطره الرجالي «بور أوم» (للرجل)، ظهر فيها عاريا لا يلبس سوى نظاراته السميكة. وفي عام 1976 وصفت تشكيلته «الباليه الروسي» بالثورية، لكن ربما يكون «لو سموكينغ» هو أكبر ثورة حققها في عالم الموضة العصرية وفي تاريخه. ورغم انها أثارت حيرة الرجال والمؤسسات القديمة، إلا أنها لقيت ترحيبا من نجمات هوليوود، مثل لوران باكال، وسيدات المجتمع المخملي مثل لولو دي لافاليز ونان كامبنر. ومما يذكر أن هذه الأخيرة، التي كانت تعتبر من أشد المعجبات بسان لوران، والموضة عموما إلى حد ان البعض كان يردد انها كانت من يمول الأزياء الراقية نظرا لنهمها في اقتنائها، حضرت مناسبة عشاء في مطعم «لاكوت باسك» بنيويورك عام 1968 بزي «السموكينغ»، وعندما منعت من الدخول لأن البنطلون لم يكن مسموحا به للسيدات، خلعته أمام الجميع ودخلت بالجاكيت، وكأنه فستان قصير. ولا حاجة للقول الدعاية التي حصل عليها المصمم والـ«سموكينغ« آنذاك. أما في حياته الشخصية، فكان سان لوران، شخصية رقيقة وهشة، إن صح القول، أشبه ببطل تراجيدي، مما دفع رفيق دربه، بيير بيرجيه، بأن يصفه مرة بأنه «ولد بانهيار عصبي». كان يحتاج إلى الهرب من الواقع بأي شكل، مرة بالأدوية والمهدئات، لكن المعلن انه كان بعد انتهائه من تنفيذ أي عمل وعرضه، يشد الرحال إلى مراكش المغربية، التي بنى بها حدائق «مارجوريل» الشهيرة بألوان الأزرق والأصفر، للاستجمام والراحة وشحذ الطاقة، واستلهام الأفكار. وليس ببعيد ان تكون هذه المدينة بتوابلها الدافئة، هي التي أوحت إليه بمزج ألوان لم يكن أحد يصدق أن تتناغم مع بعضها، مثل البرتقالي والفوشيا أو الأحمر، كما قد يكون حبه لأفريقيا هو الذي دفعه للاستعانة بعارضات ازياء سمراوات في عروضه، أكثر من رغبته في إحداث الصدمة. بحلول منتصف السبعينات، كانت داره قد مضت لإنتاج مزيد من العطور النسائية والرجالية وأيضا الساعات وأدوات الزينة والحلي، إضافة الى الملبوسات الجاهزة للجنسين التي ستشتري مصانعها دار «غوتشي» عام 2000. (دار سان ـ لوران للموضة نفسها اشترتها عام 1999 شركة المواد الصيدلية «سانوفي» بمبلغ 600 مليون دولار). وعام 1998 نظم سان لوران مهرجانا صاخبا للأزياء ضم 300 عارض وعارضة في نهائي كأس العالم لكرة القدم، الذي أقيم على «ستاد دو فرانس» بباريس. في عام 1985 أسبغ عليه الرئيس فرانسوا ميتران لقب «فارس الشرف». وعام 1999 منحه «مجلس مصممي الأزياء» الأميركي جائزة تقديرية «لإنجازاته مدى الحياة». على ان أرفع الأوسمة التي تزين صدره يتمثل في تأثيره الذي لا تخطئه العين على ما ظلت ترتديه النساء في الغرب منذ ان انضم الى كريستيان ديور. وسجل سابقتين في عالم الأزياء، مرة عندما صار مديرا للتصميمات الجديدة في دار ديور، وهو في سن الواحدة والعشرين، ومرة عندما فتح داره الخاصة وهو تحت سن الثلاثين في صناعة باريسية تعتبر «حارة مغلقة أمام الشباب».